منتدى العمق

البشرية بين العقل.. والنقل

من حسناتِ زمننا السيء أن كل الأشياء التي أدت إلى شتات أفراد الأمة العربية وضعفها ،مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بظاهرة “التقليد”، باعتبارها عملية محاكاة لأداة حقيقية أو عملية فيزيائية أو حيوية تمثل وتقدم الصفات المميزة لسلوك نظام مجرد أو فيزيائي، بواسطة سلوك نظام آخر يحاكي الأول. بمعنى آخر: هي ظاهرة اتباع للغير دون النظر ما إذا كان هذا التقليد يعود على الفرد بالفائدة أم لا ، أو إن صح التعبير ، هي برمجة الإنسان لعدم استخدام عقله و الإقتصار فقط على نقل ومحاكاة سلوكيات الآخرين.

وإذا كان للتقليد جوانب إيجابية كالإنفتاح على تجارب إنسانية ناجحة داخل ثقافات أجنبية في جميع مناحي الحياة ،وأخذ نمادج مثالية من حضارات أخرى قد لا تتفق بالضرورة مع نفس مبادئنا ومرجعياتنا الأخلاقية و الإجتماعية ،الدينية وحتى السياسية منها ، فهذا أمر مطلوب بل وجب القيام به نظرا لواقعنا الثقافي الحالي المُتأزم .

إلا أن الجانب السلبي لهذه المحاكاة يطغى على واقع مجتمعاتنا العربية عموماً والإسلامية خصوصاً لأننا للأسف “أمة إقرأ التي لا تقرأ”. ويظهر هذا الجانب السلبي في أبهى تجلياته ، عندما يتم تغييب العقل الذي هو أسمى عضو يتسم به الإنسان في اتخاذ القرارات الحاسمة والمصيرية من طرف الفرد أو المجتمع. وضمن كل هذه التباينات يأتي السؤال الذي يطرحه كل عاقل مُدركٍ لهذه المعضلة : كيف نتجاوز هذه المرحلة الصعبة في حياتنا ؟ وكيف نخرج بنوعية قرارات قادرة أنها تصلح ما دمرناه نحن بأنفسنا ؟ وكيف نخرج من قوقعة التعويم الذهني والتنويم المغناطيسي الذي نتعرض له يومياً عن طريق الإعلام المزيف والماكر ؟

جل المفكرين ، الفلاسفة والباحثين في مجال التنمية البشرية يؤكدون أن حضورنا اليوم في الوجود مُخدَّرٌ ومريض وبحاجة ماسة إلى استشفاء ؛ ولن يأتي الدواء لهذا الداء العويص إلا عن طريق إزالة ملابسنا المتسخة بالحقد والخمول والجهل والأمية والغضب والإحتجاج على الشعارات الخادعة ….وتغييرها بثياب أجمل وأنظف مادام الجسد نفسه معافى وقوي، بواسطة التسلح بالمعرفة والعلم والبحث والإجتهاد ، كل هذا سيساعد على عودتنا إلى الحالة الذهنية السليمة التي نستطيع من خلالها صناعة حاضر أفضل بمحض إراداتنا الحرة.

وأوضح وأبلغ ما أجده يجيب على هذه التساؤلات التي طرحناها آنفاً هي مقولة الفيلسوف الألماني -إيمانويل كانت-الذي يُعتبر من أهم الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوروبية الحديثة وأحد أعمدة الفلسفة العقلانية التي تدافع عن المنطق والعقل، حين قال: ” كل معرفتنا تبدأ من الحواس ثم تعود إلى الفهم وتنتهي بالعقل، لايوجد شيء أعلى من العقل.”
فنجد أننا اليوم فعلاً نعيش في حالة احتجاج من كل شيء وعلى كل شيء ،وأننا نعيش في عبث كلي (العابث والمعبوث به والمعبوث فيه والمعبوث لأجله والمعبوث له). و أننا أصبحنا نمارس الأشياء ليس لأننا نحبها بل لأننا محكوم علينا أن نمارسها عن طريق التشبه بالآخر واستمرار اعتبار أنفسنا وذواتنــا مجرد ردة فعل تابعة له. وأنه أصبحت لدينا قدرة عجيبة لوضع أعظم التفاسير لأتفه الأشياء و أحياناً تبرير ما لا يُبرر والدفاع عن ما لا يمكن الدفاع عنه.

ولتلخيص هذه الإشكالية ،فنحن بحاجة إلى الإبتعاد عن هذه الردائات النفسية والإبتعاد عن المِـرآة التي نرى فيها نسخة مزورة من أنفسنا ، وتفعيل كل الحواس التي بداخلنا ، وتحويل عملية النظر إلى رؤية، والسمع إلى إصغاء ، وأنجع طريق للوصول إلى هذه الغاية وأقومها هو اعتمادنا لحرية الإختيار وحرية اتخاذ القرار في أن نكون من وما نريد في هذا الكون، وأن تكون لنا جرأة بأن نعترف بأننا لا نعرف حقا من نحن وما الذي نبحث عنه؛ لأن التطور الحقيقي يأتي من الأشياء التي لم نعرفها بعد، وعلينا أن نقتل ذاك المارد الذي بداخلنا، العاصي للعقل، والمصاب بكل عاهات الرؤية والحس والإحساس ، والذي لا يقبل أن يبحث لعلاج لمشاكله. ففي نهاية المطاف (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).