وجهة نظر

الحري يكتب .. محنة حزب العدالة والتنمية: ورطة قيادة وحيرة قاعدة !

من الضروري أن يتناول الباحثون في الشأن السياسي مآل المسار الديمقراطي في المغرب ، الذي يشكل إلى جانب الشقيقة تونس، نقطة استثناء تسمح بالحديث عن وضع ديمقراطي، مهما كان معطوبا ومنقوصا، ومهما كانت طبيعة الصعوبات والمعوقات التي تخنقه من كل جانب، محليا وإقليميا ودوليا. ومن المتوقع أيضا أن تختلف مقارباتهم باختلاف مشاربهم الفكرية ومواقعهم الإيديولوجية.

إن الباحث الأكاديمي حينما يخوض في غمار مناقشة ما هو سياسي، لا يعني ذلك أنه غادر أرض العلم والمعرفة، إلى حقل البوليميك والإيديولوجيا، فهو مهما كانت المعطيات التي يقوم بتحليلها ونقدها، تتسم بطابع الآني والمتغير، فهو يفترض فيه أن يتعاطى معها بكيفية استراتيجية، إذ واجب المثقف النزيه أن يشارك الناس همومهم اليومية والآنية، من خلال نظرته، المتحررة من الانفعالات الظرفية، المتسلحة بملكاته التحليلية النقدية وآفاقه الاستشرافية المستقبلية.

نعم، تعج الساحة المغربية بمثقفين، يعرفون كيف يدخلون إلى ميدان النقاش السياسي، الآني واليومي، ولا يعرفون كيف يخرجون منها، فينسون وظيفتهم الأساسية، وهي النقد والتحليل، في أفق تحرير الواقع من إكراهات الآني، واستشراف حلول وبدائل للآتي، حيث يتصرفون كفاعلين سياسيين، يتعاملون مع متغيرات المشهد لحظة بلحظة، ويقترحون سيناريوهات، لا تخدم إلا مصلحة القوى المهيمنة في هذا الواقع، وترمي إلى تأبيد هيمنتها، ولأن هذه القوى تعرف كيف توظف ما تسمح به الأحداث من تطورات لفرض إرادتها، يعتقد أصحابنا عن وعي زائف أن الأيام أتبت صحة تنبؤاتهم التي لم يستمع لها المعنيون في حينها !

انطلاقا من وعي سياسي، تحليلي-نقدي، متحيز للديمقراطية، بما هي قيمة إنسانية، وباعتبارها أيضا، آلية مدنية سلمية لترتيب مختلف فصول الصراع على السلطة، نقوم بمقاربة للمشهد السياسي المغربي، ممثلا في الوضع الحالي للحزب الذي يتصدر هذا المشهد، وهو حزب العدالة والتنمية، حيث يجد نفسه هذا التنظيم السياسي ولأول مرة في اشتباكات متعددة ومتنوعة، سيكون لها ما بعدها على صعيد ترتيب وضعه الخارجي، في علاقته بمختلف الفاعلين الرئيسيين، مناوئين ومساندين، كما ستكون آثارها واضحة على صعيد ترتيب بيته الداخلي، نظرا لما يتفاعل داخله من نقاشات ورؤى لا يخفى على الجميع مدى تضاربها وتناقضها.

لن نبالغ إذا قلنا أن حزب العدالة والتنمية يوجد اليوم في محنة سياسية، غير مسبوقة ولا مألوفة، قد تهدد سلامته التنظيمية الداخلية، ومصداقيته السياسية الخارجية، كما ستكون لها انعكاسات أكيدة على علاقاته بالقوى النافذة في المجتمع. هذه المحنة وضعت قيادته في مأزق كبير وقاعدته في حيرة شديدة. ومن غير المتوقع أن تخرج قيادة الحزب من مأزقها هذا في القريب العاجل، خاصة وأن الواقع الذي تتحرك فيه هذه القيادة، ظروفه عنيدة، وشروطه معاكسة، تجري رياحها على خلاف ما تهواه سفينتها، الأمر الذي سيضاعف من حيرة قواعدها ويطيل أمدها.

سيترحم الجيل الأول والثاني في حزب العدالة والتنمية، وحركة التوحيد والإصلاح، على الأيام التي كانت السلطة تحرمهم فيها من ممارسة حقهم في المشاركة السياسية، حيث كان هذا المنع بمثابة “إعفاء” من خوض غمار تمارين قاسية في تدبير الإكراهات المختلفة، التي سيكتشفونها تدريجيا، كلما تقدموا خطوة على تكسير حاجز المنع والحصار الذي كان مضروبا على مشاركتهم في الحياة السياسية الوطنية من داخل المؤسسات الرسمية.

وكما هو الأمر في كل التمارين، فهي تزداد صعوبة وتعقدا، كلما انتقل المرء من مستوى إلى مستوى أعلى، وهكذا فابتلاءات إسلاميي البجيدي، كانت أقل وطأة قبل خوضهم لتجربة المشاركة البرلمانية، وهذه تختلف من مرحلة إلى أخرى، فهي في مرحلة ما قبل تجربة 2002 كانت أخف منها بعدها. لكن التمارين ستتضاعف  قسوتها أضعافا مضاعفة بعد ما قذفت بهم رياح الربيع الديمقراطي إلى دوائر الحكومة والمشاركة في السلطة.

ولأن زمن “المعارضة”، كان يمثل بالمقارنة مع زمن “الحكومة” لحظة “مريحة” و”غير مكلفة”، لا على مستوى العلاقة بقواعد الحزب، أو على صعيد علاقته بقاعدته الانتخابية، التي كانت في تزايد مستمر، يشعر العديد من قادة الحزب وأطره وقواعده، وأيضا المتعاطفين معه، بحنين كبير لحضن المعارضة الدافئ، بعدما اكتووا بنار الاقتراب من السلطة ولهيبها الذي يحرق الأخضر قبل اليابس.

وفي هذا الإطار نفهم الدعوات المنفلتة التي صدرت من داخل هذا الحزب مباشرة بعد إعفاء بنكيران من مهمة تشكيل الحكومة، وتكليف شخصية أخرى من الحزب بالمهمة ذاتها. وهي دعوة لم تكن تنطلق من قناعة سياسية واضحة، بقدر ما كانت تعبر عن رغبة في الهروب إلى “المعارضة” والاحتماء بما قد تجود به من هدوء وطمأنينة وتحرر من جسامة المسؤولية الحكومية وأعبائها الثقيلة.

لكن، لو كان هذا الخيار متاحا لما تردد الحزب كله في الجنوح إليه، فالذهاب إلى المعارضة ليس قرارا إراديا، يتخذه حزب سياسي من تلقاء ذاته، مادامت وظيفة الحزب، أي حزب سياسي هي المنافسة على السلطة، وهو لا يذهب إلى المعارضة إلا اضطرارا، في حالتين اثنتين لا ثالث لهما، أولهما، أن تنقلب على نتائج الانتخابات قوة قاهرة، تحرمه من حقه المشروع في السلطة،الذي خولته له إرادة الناس عبر صناديق الانتخاب، أو أن هذه الإرادة الانتخابية عاقبته ومنحت ثقتها لغيره من الأحزاب المنافسة.

وفي الحالة المغربية، لم تحرم السلطة الحاكمة حزب العدالة والتنمية من حقه الدستوري في رئاسة الحكومة. لكن فرق كبير أن تضمن لك القوانين حقا من الحقوق، وأن تكون لك المقدرة على ممارسة هذا الحق كما تريد. وبعيدا عن المقاربات المتطرفة، العدمية منها والانبطاحية، لا بد لنا أن نستحضر هنا مجموعة من الحقائق، التي يعرفها الأصدقاء في الحزب “الإسلامي” جيدا، لكن بعضهم يتعمد عدم استحضارها وهو يخوض غمار المزايدات السياسية مع خصومه المختلفين.

وفي مقدمة هذه الحقائق هو التحذير من الركون إلى المسلمة القائلة أن السيد عبد الإله كان مطلوبا إقصاؤه منذ البداية عن قيادة التجربة الحكومية، وانه مهما قدم من تنازلات كان رأسه مطلوبا في كل الحالات. إن التحذير من الركون إلى هذه المسلمة لا يعني بالضرورة نفيها، أو عدم أخذها بعين الاعتبار في التحليل، ولكنه هو تحذير إلى ما يمكن أن تؤدي إليه من استسلام لنزعة قدرية، تبعث على كسل في إعمال الفكر وإبداع البدائل وابتكار الحلول.. وكأن الطرف الآخر في المعادلة يستطيع فعل كل ما يريد وفي الوقت الذي يريد.

فأن يسعى خصوم السيد بنكيران إلى إزاحته، كما يسعى هو إلى منافستهم، فهذه من حقائق الممارسة السياسية، وتلك على كل حال وظيفتهم ومهمتهم، وهم أحرار في اختيارها، لكن متى أصبحت لهم القدرة على تحقيقها فهذا شيء آخر مختلف تماما. لقد بدل هؤلاء الخصوم كل ما في استطاعتهم من أجل إزاحته انتخابيا لكنهم فشلوا، وانتصر على كل محاولاتهم، ووجد نفسه بعد 48 ساعة يحمل ظهير تعيينه كرئيس للحكومة، فهل كان يتوقع أن يصفق له هؤلاء الخصوم ويفرشون له الأرض بالورود والأزهار؟

لقد قاد حزبه إلى الفوز بالمرتبة الأولى، لكنه لم يحرز على أغلبية مطلقة تخول له اقتراح التشكيلة الحكومية على المؤسسة الملكية بالطريقة التي يراها مناسبة.فهو نال أغلبية نسبية، وعليه فليس بإمكانه أن يقوم بمهمة تشكيل الحكومة إلا بكيفية نسبية أيضا، ليبقى التحدي الحقيقي هو هل ستقدر قيادته على المحافظة على ما تمنحه لها هذه “الأغلبية النسبية” من حقوق وامتيازات أم أنها ستفرط فيها هي أيضا، خلال المفاوضات مع الأطراف التي تقبل الدخول معها في الائتلاف الحكومي.

ولسنا في حاجة إلى القول أن لهذه الأطراف المعول عليها في الائتلاف الحكومي اشتراطاتها وأهدافها ومصالحها، ولم يكن متوقعا منها أن توقع للسيد بنكيران شيكا على بياض، أو تتحالف معه من أجل سواد عيون الذين صوتوا عليه، وإنما رغبة في حماية مصالحها خاصة إذا كانت هذه مرتبطة بالثروة والمال والنفوذ.
ولأن هذه القوى كانت تعلم علم اليقين، أن السيد بنكيران وحزبه لا يستطيع، أو بالأحرى لا يريد، الاستغناء عنها، لأسباب لا تعلمها إلا هي وهو وربما بعض القادة من حزبه، فهي تفننت في فرض شروطها كما تريد وكما تشاء. إنها قوى تعرف ما تريد وتعرف كيف تدافع عما تريد، لكن السؤال هو لماذا ظل السيد بنكيران متشبتا بها رغم اشتراطاتها التي اعتبرها قد تجاوزت إلى حد الإذلال والإهانة؟

لكن، هل كانت للسيد بنكيران خيارات أخرى غير هذه؟ فهو قد وضع خطا أحمر بينه وبين الحزب الذي اعتبره الواجهة السياسية ل”التحكم”، حزب “الأصالة والمعاصرة”، وأهدر زمنا سياسيا طويلا في التشبت بحزب الاستقلال، لينتهي إلى استبعاده من الائتلاف رغبة في إرضاء الطرف “المدلل” في معادلة الائتلاف .. لكن إدارة هذه المرحلة تميزت بانفلاتات غير مسبوقة، لم تستطع قيادة حزب العدالة والتنمية التحكم فيها، فحزب الاستقلال وشباط أصبحوا في نظر قواعدها رموزا ل”الوفاء” و”الاستقلالية” و”الوطنية”، ومعسكر أخنوش ومن معه أصبح الوجه الآخر ل”التحكم” و”الالتفاف على الإرادة الشعبية”، هذا فضلا عن الافتتاحيات النارية التي تنتقد بها جريدة العلم معسكر أخنوش، والتي كان الإعلام الموالي لهذا المعسكر الأخير يرد لها الصاع صاعين.

لم يكن بإمكان أي متابع نزيه لمجريات الأمور إخفاء دهشته وهو يرى بنكيران يتشبت بالجمع بين طرفين يتحاربان بطريقة تبين بوضوح أن لا أحد منهما كان يحرص على تسهيل نجاح مهمته، بل كان يوفر لها كل أسباب الفشل والسقوط. علما أن قيادات قواعد الحزب “الإسلامي” لم تخف دعمها لمعسكر على حساب الآخر، بطريقة تفرغ أي الائتلاف المنشود من أي تفاهم أو انسجام.

إن تشبت حزب العدالة والتنمية بالتحالف الحكومي مع معسكر أخنوش لم يكن مفهوما، وقد قال السيد بنكيران خلال آخر خرجة خطابية له قبل قرار إعفائه، أنه انتظر السيد أخنوش حتى ينهي إجراءات ترؤسه لحزب الأحرار، وأن هذا الانتظار كان قرارا إراديا، لأسباب هو فقط من يعلمها، لكن من حق الذين صوتوا عليه يوم السابع أكتوبر ومنحوه ثقتهم الانتخابية أن يوضح لهم حقيقة ذلك الانتظار وسر هذا التشبت بأن يكون السيد أخنوش ومن معه ضمن الفريق الحكومي.

أكيد أن السيد بنكيران كان يعلم أن استمراره على رأس الحكومة غير مرغوب فيه، لكنه كان يعلم أيضا، أن ما يجري في المغرب هو صراع سياسي، لا يملك فيه أي طرف كل الأوراق بيده حتى يستطيع فرض كل شروطه، فكل الأطراف تدير المعركة يوما بيوم، أو حدثا بعض آخر، ويحاول كل طرف منها توظيف ما تتيحه المتغيرات لصالحه، وهو ما فشلت فيه قيادة حزب العدالة والتنمية فشلا ذريعا، فقد بدأت سلسلة من التنازلات، توقفت عند نقطة رفض أن يفرض عليها حزب الاتحاد الاشتراكي فرضا في الائتلاف الحكومي.. لكن المعسكر الآخر، رفض هذه النقطة، رغم بساطتها، بل وحتى تفاهتها، طالما أن شهيته انفتحت أمام معطيين اثنين: أولهما أن الأغلبية البرلمانية معه، حيث اختار الرئيس الذي يريد من دون الحاجة إلى أصوات الحزب الأول انتخابيا، وأصبح يسوق لأطروحة أن الدستور بات يشكل “عائقا” لسير المؤسسات سيرا طبيعيا، لأنه يحصر رئاسة الحكومة في الحزب الأول، ويحرمها من المعسكر الذي يتوفر على الأغلبية البرلمانية. وثنيهما ما سماه أحد قادة البجيدي بمتتالية التنازلات التي أبدتها قيادات من حزب العدالة والتنمية لا يخفى على العارفين أنها لم تكن راضية على إدارة السيد بنكيران للمرحلة برمتها. وكانت النتيجة هي إزاحة بنكيران ودخول حزب لشكر للحكومة التي يقودها رئيس المجلس الوطني للحزب “الإسلامي”.

لهذه الأسباب وغيرها نستطيع أن نتحدث عن أزمة حادة داخل البجيدي، وضعت قيادته في ورطة حقيقية مع ذاتها، ناجمة عن غياب الوضوح السياسي الكافي لديها للمرحلة، وغياب الحوار الصريح والشفاف فيما بين أقطابها، حيث هيمنت في السنوات الأخيرة شخصية السيد بنكيران، إلى درجة لم يعد أي أحد من القادة الآخرين قادرا على التصريح علنا، بما يخالف مواقفه، الأمر الذي ولد الانطباع لدى القواعد والمتعاطفين بأن الحزب على قلب رجل واحد، فإذا بالتطورات الأخيرة تكشف أن الأمر لم يكن كذلك، مما أصابها بحيرة كبيرة.

ليس معنى هذا أن التقدير السياسي بين قادة البجيدي بلغ درجة من التناقض لم تعد قادرة على الاحتواء، فالقضية برمتها اختزلت في مسالة التنازل المتعلق بمشاركة الاتحاد الاشتراكي في الحكومة، وحضور بعض رموز “التحكم” في التشكيلية الحكومية بطريقة يراها البعض مستفزة وكان بالإمكان تجنبها.. وهي قضايا جانبية بالمقارنة مع القضية الأساسية التي وجدت الأحزاب من أجلها.

هذه القضية هي النضال من أجل الديمقراطية، سواء من موقع الدعم والمساندة، أو من موقع الرفض والمعارضة، وبما أن الأحزاب السياسية في التجربة السياسية المغربية، لا تستطيع في حدود المعطيات السلطوية القائمة، المشاركة في تدبير الحكومات إلا بكيفية نسبية، فعليها هي أيضا أن تتعاطى مع هذه الحكومات بمساندة نسبية، وأن تكرس كل جهودها من أجل تقوية الحياة البرلمانية والرقابية، بعيدا عن منطق الأغلبية الميكانيكية التي دورها التصفيق للحكومة .. وإلا فإنها ستؤدي الثمن غاليا بدءا من وحدة صفوفها مرورا بمصداقيتها عند جمهورها.

ومن هذه الجهة، فمن الخطأ الجسيم أن يعتبر حزب من الأحزاب في المغرب أن الحكومة حكومته وحده، حتى ولو كان مشاركا فيها، مادامت مشاركته لا تتجاوز نسبة معينة، وبالتالي فالمطلوب منه مساندتها بمقدار هذه النسبة فقط، واتخاذ مسافة رقابية كافية منها، ما دامت لا تطبق برنامجه الانتخابي إلا نسبيا، أو لا تطبق منه شيئا.