وجهة نظر

“المدن الجنائزية”

الجو جميل هذا الصباح، الحافلة أخلفت الموعد، انتظار حافلة في العالم القروي جحيم لا يشبهه جحيما آخر، إنها تراجيديا الحصول على تأشيرة لمغادرة هذا الوطن الذي كان بسعة الحلم، قبل أن تكالبت عليه الأحزاب والانتفاعيون والوصوليون وعديمي النفوس والضمائر.

الوطن الذي بقدر ما هو عزيز علينا بقدر ما يقسو علينا بشدة، هذا الانتظار القاتل دفعني إلى الانزواء إلى جانب الرصيف لمحت عمال بناء شبابا كلهم حركة وحيوية، برهة حضر خليفة المركز مرفق برجلين من القوات المساعدة، أوقفوا الورش الذي لازال جنينيا، حجزوا على أدوات البناء، سجلوا محضر للنازلة، وأنا شاهد “عيان” أتعبني الانتظار لتصل أخيرا تلك الحافلة المهترئة التي امتلأت عن آخرها، بل تجاوزت المقاعد القانونية حتى ضاقت بما رحبت، وهي ترتكب مخالفة تفوق مخالفة البناء في عالم قروي منسي دون رخصة ولا أحد اعترض هذه الحافلة التي قطعت الكيلومترات تلو الأخرى في زمن التطبيل للمدونة المستوردة “بعد موسم الهجرة إلى الشمال” بالقارة العجوز، والتي تشبه طرقاتها سجادا أحمر.

في طريقي إلى مدينة أم الربيع استرجعت شريط هذا المشهد العصي على الفهم، رجل طاعن في السن مهنته كما هو مدوّن ببطاقته الوطنية حمال، له سبعة أبناء أكبرهم سنا مجاز معطل منذ سنوات يكد من أجل بناء قبر الحياة.

في زحمة الحافلة المهترئة خطرت على بالي قولوا “شكسبير”: ” لا يطبق القانون بحذافيره إلا الطغاة”، قلت في قرارة نفسي:لماذا لا يتم إعفاء الفقراء من هذه الرخصة المجحفة؟ لنقولها بكل صراحة نحن لا نشجع على خرق القانون و لا ندعو إلى الفوضى؟ لكن من حقنا التساؤل هل هذا القانون قرآنا منزلا؟ هل القانون الذي لا يواكب العصر، ينبغي ألا يتجدد؟ لماذا هذا القانون لا يحافظ على السلم الاجتماعي؟ لما اختصر القانون في الزجر والعقاب دون المكافأة؟أليست صيغ أخرى أشمل تعطي للنص القانوني مغزاه الحقيقي مع الإيمان بالاختلاف في التفسير والتأويل؟ لماذا لا يحصل الفقراء على رخص وتصاميم البناء بالمجان ؟ هل يلزمهم العودة لمساكن القدامى حيث الكهوف والمغارات؟ إذا كانت الدولة عازمة على محاربة البناء العشوائي لماذا لا تفكر في خلق صندوق لدعم الفقراء وذوي الدخل المحدود للحصول على سكن يضمن الكرامة؟ لماذا المشرع لم يفرق بين من يبني فيلا فاخرة على جنبات البحر و من يبني كوخا في أعالي الجبال؟

في هذه اللحظة اجتاحتني أسئلة حارقة وقلت في نفسي يا ليتني فتحت حوارا مع هذا المواطن المغلوب على أمره الذي هرول إلى أقرب مؤسسة للقروض الصغرى للحصول على قرض صغير لبناء بيت لأبنائه بالتقسيط وهو الذي تجاوز عقده السادس، لأقول له ما رأيك في السياسة؟ ماهي المواطنة في نظرك؟ ما رأيك بالبرلمان؟ هل تصوت في الانتخابات؟ هل تعرف الفصل الثاني والأربعين؟هل لك علم بمفهوم ملتمس الرقابة؟ الحكامة الجيدة؟ تنزيل الدستور؟ الملكية البرلمانية؟

لكن أمثال هذا المواطن وهم كثيرون لا يفهمون هذه النقاشات النخبوية، نقاشات الصالونات. لأن ما يهمه هي مطالب صغيرة من قبيل رخصة بناء وتخفيض مواد أساسية كالشاي والسكر، الحصول على سرير في المستشفى العمومي في حالة المرض،وصنبور ماء في الدوار ومحاربة الرشوة في جماعته الواقعة في أقاصي الجبال كلما رغب في وثيقة إدارية أو رخصة بناء.

صادف وصولي محطة الحافلات تظاهرة تتجه صوب العمالة للمتقاعدين وحناجرهم تصدح بشعارات تطالب الحكومة برفع الحكرة على رواتبهم الهزيلة في وقت يعرف فيه مؤشر المستوى المعيشي ارتفاعا صاروخيا. هكذا وجدتني في باب المحطة الطرقية أتساءل بحرقة وفي ذاكرتي مشهد ذلك الإنسان البسيط وكأنه يقول:هل يحتاج أرذل العمر للاحتجاج؟ هل يحتاج الموت إلى رخصة والقبر لرخصة في زمن البؤس بهذه القرى والمدن الجنائزية على حد تعبير الروائي عبد الكريم جويطي؟ عفوا سيدي المسؤول هل تسمح لي بالموت.