وجهة نظر

هـبة في دار الأيتام ..

لم يكن الباعث على كتابة هذا المقال المتواضع في الحقيقة، سوى الدموع المنهمرة من عيني بُنيتي الصغيرة هبة، بعد عودتها من زيارة ميدانية لإحدى دور الأيتام بمدينة وجدة، بعد مقاسمتها رفقة صديقاتها في الدراسة، لنزلائها فطورا رمضانيا بطعم أسري، مفعم بمشاعر التأثر الجياشة، ودافق بأحاسيس الحب والعطف الفياضة. لم تكن الدموع لذاتها، هي المُحفز على الكتابة، بقدر ما كانت دوافعه وأسبابه وخلفياته هي المُحرض على فعل ذلك.

ففي إطار المشاريع الحرة (ProLib) التي تُنجَز موازاة مع دروس التكوين، في المؤسسة التي تتابع بها بُنيتي الصغيرة دراساتها العليا، والتي جرت العادة أن تتمحور خلال السنة التكوينية الأولى حول البُعد الإجتماعي. كانت لها خلال هذا الموسم الدراسي، فرصة المشاركة في إنجاز بعض المشاريع الحرة، والزيارات الميدانية لعدد من المؤسسات، والإسهام في بعض المبادرات والإنشطة، ذات الطابع الإجتماعي الخيري، المنفتحة على مختلف المؤسسات العمومية، ودُور الرعاية الإجتماعية.

في كل مرة كان يغمر هبة فرح عارم وسرور غامر، كلما شاركت زميلاتها إنجاز مشروع من المشاريع المذكورة. أو ساهمت في إنجاح عمل خيري تطوعي، ذو هدف اجتماعي تضامني. فقد كنت أقرأ في عينيها الطفوليتين بعد عودتها إلى البيت، المرة تلو الأخرى، بهجة وفرحا وارتياحا، وحتى إحساسا عارما بالفخر بما أنجزته وحققته. لكن لم يحصل أن رأيت في عينيها الجميلتين، أثرا للحزن أو الألم أو التأثر البالغ، بعد عودتها من إنهاء عمل تطوعي اجتماعي من هذا القبيل، مثلما رأيته اليوم بعد عودتها من دار الأيتام.!
تجاذبتُ مع صغيرتي أطراف الحديث، على طاولة السحور حول ارتساماتها وملاحظاتها بعد زيارة المؤسسة المذكورة، وما إذا كانت أهدافها ونتائجها المرجوة قد تحققت.

لم تكن صغيرتي وهي تحكي عن هذه التجربة الجديدة المميزة، مَرِحة ولا باسمة، مثلما هو حالها المعتاد، برغم تحفزها وتحمسها للحديث عن الأمر. فقد كانت معالم التأثر بادية على تفاصيل محياها، وملامح الحزن الظاهرة على مزاجها العام لا تخطئها العين، وهي تسرد تفاصيل الزيارة، التي تفاعل معها نزلاء المؤسسة الأيتام، بالتعبير عن فرحهم وغبطتهم بهذه اللحظات الحميمية الجميلة، التي تم فيها تبادل مشاعر الحب والعطف والمرح التلقائي الغامر، إضافة إلى تقاسم وجبة فطور مشتركة، وهدايا رمزية بسيطة.

ففي لحظة من اللحظات، وهي تُفصل الحديث عن طبيعة هؤلاء النزلاء من البراعم الأيتام، الذين تجرعوا مرارة اليتم مبكرا، ومن الأطفال ضحايا الطلاق والإنفصال، الذين لم ينعموا طويلا بدفء التلاحم الأسري، والذين تتراوح أعمارهم بالكاد بين الأربع سنوات والثلاثة عشر، وعن قصة كل واحد منهم. وكيف كانوا يتحركون ويتصرفون ويمرحون ويتفاعلون أثناء حديثها إليهم. بل وكيف كانوا يعانقونها تلقائيا، في لحظات فوران وتدفق عاطفي جياش، وينظرون إليها بأعينهم الصغيرة البريئة. غالبتها دموع منهمرة سخية، وهي تخبرني بأن أحدهم خاطبها بالقول: “نتي ماما.!” فأجهشت ببكاء مرير صادق. وكأن إحساس أمومة مبكر قد اجتاح قلبها، الذي رق كثيرا لحال هؤلاء الصغار. وهي تلعن هذا القدر البئيس، الذي قيض لهؤلاء الأبرياء، هذا المصير المحزن التعس، المبتور من الدفء العائلي، المنقوص من الرعاية الأسرية، المفتقر إلى فيض المشاعر الأبوية الدافقة. هذا القضاء، الذي رمى بهم إلى هذه المؤسسة الخيرية، وبدلهم حضن الأمومة الدافئ الدافق، بهذه الجدران الجافة البكماء.

لكن، حتى وهي في قمة التأثر والحزن، كانت ترتسم على شفتيها ابتسامة رضى طفولية رائعة، وهي تحدثني كيف كانت تلاعبهم، وترْبِت على رؤوسهم وتمسحها بحنان دافق، وكيف كان الصغار يستسلمون لذلك ويسعدون به ويفرحون.

فقد أدركتْ بُنيتي الصغيرة مأساة هذه البراعم الصغيرة، وحجم الفقدان العاطفي الذي يعانونه، ومستوى العوز الأبوي والأموسي الذي يتكبدونه. أدركتْ أن هذه الكائنات الغضة الصغيرة الطرية، هي في أمس الحاجة باستمرار، إلى لمسات حب وحنان حقيقي غير مصطنع. إلى رعاية وعناية واسعة يكتنفها ويغمرها الحب والفرح والإحتفال.

كانت دموع هبة، تنطق في الحقيقة بأشياء وأشياء لم ترد في تفاصيل الحكاية ومنطوق الحديث. كانت تريد أن تضع الأصبع على هول وقسوة مثل هذه المآسي الإجتماعية التي يعج بها المجتمع، والتي يتكبدها أمثال هؤلاء الصغار الأبرياء وما أكثرهم. الذين يحمل كل واحد منهم قصة مأساة اجتماعية بالغة القسوة والمرارة.

كانت دموعها تريد أن تنبه الجميع، إلى أن هذه الكائنات البريئة الهشة في مجموع التراب الوطني، هي أحوج ما تكون إلى الإهتمام الكافي، من الجهات الرسمية ومن جميع مكونات المجتمع. حتى تترعرع بشكل طبيعي وسليم ومتوازن. لأن كل تغافل عنها، معناه تعريضها للإهمال حتى من بعض المشرفين عليها، وربما للتعنيف وسوء المعاملة، أو للتعسف والإستغلال، الذي قد يصل إلى حد الإعتداء الجنسي.

كانت تريد أن تُحذر من تناسيهم وتهميشهم، وتركهم فريسة اللامبالاة والعزلة وجفاف المشاعر. وبالتالي مراكمة الإحباط والسخط والمشاعر السلبية تجاه المجتمع.
كانت تريد أن تنصح بألا يتم اعتبارهم بمثابة معروضات بشرية، ليست كغيرها من الناس. تستدر العطف والشفقة، خلال المناسبات والزيارات البروتوكولية الإستعراضية، لشخصيات المجتمع وناشطيه، باختلاف مشاربهم الفنية والرياضية والسياسية والمدنية.. إلى هذه المراكز، بهدف ممارسة شفقتهم على هؤلاء الأبرياء وتذكيرهم بيُـتمهم. ثم التقاط الصور معهم، للتبجح بها والتباهي. ثم ينصرفون، واهمين أنهم قد أدوا ما يمليه الواجب تجاه اليتيم.

كانت تريد أن تُشعر الآخرين بأن هؤلاء الأبرياء الصغار، هم كائنات عادية سوية ودودة. لكنها سريعة العطب، بالنظر إلى أنها تمثل الحلقة الأضعف في المجتمع. فهي تعاني عوزا عاطفيا فادحا، ما يجعلها أحوج ما تكون إلى المساندة النفسية، والدعم الإجتماعي والزيارات المستمرة غير الكاذبة، الهادفة إلى بناء علاقات إنسانية صادقة معها، تُنسيها أو على الأقل تخفف من إحساس اليُتم لديها. إضافة إلى إيلائها مختلف أشكال الرعاية الصحية والتربوية والغذائية اللازمة..

إن دموع هبة اليوم، قد وضعت الأصبع على أوضاع فئة واسعة بالغة الهشاشة، داخل المجتمع، هي فئة الأيتام. منها من يحتمي بدُور ومراكز الرعاية على قلتها وعلتها في ربوع الوطن. ومنها مَن يهيم على وجهه في دروب المجتمع الصعبة القاسية، حيث تتعرض لمختلف أشكال الضياع والإستغلال والتعسف. فئة تكاد تكون منسية بالكامل، سوى من بعض البرامج الشاحبة لوزارة التضامن على المستوى الرسمي. والتي لا تستوفي الأيتام حقهم في مختلف أشكال الرعاية والعناية. وعلى المستوى المدني، من بعض الزيارات التي تنظمها الجمعيات والمؤسسات المختلفة لبعض الدور خلال المناسبات. والتي تتخذ في معظمها طابعا إستعراضيا استطلاعيا، لا يرقى إلى مستوى الرعاية اللازمة. أكثر منها إحساسا بواقع اليتيم، وعملاً على الإرتقاء بأوضاعه المعيشية والتعليمية والنفسية والإجتماعية. وإدماجه في الحياة العامة للمجتمع، من دون مركبات نقص أو شعور بالدونية.

أتمنى أن تكون دموع هبة اليوم، صرخة في وجه جميع مكونات المجتمع، أن هُبوا والتفتوا إلى هؤلاء الأبرياء الضعفاء، وامنحوهم شيئا من اهتمامكم، شيئا من عنايتكم، شيئا من حرصكم، وكثييـــــــــــــــرا من محبتكم وتفاعلكم، ولا أقول شفقتكم. فلا أحد يوجد في منأى عن أن يتحول أبناؤه بين عشية وضحاها إلى أيتام.. ! ولكن، يكفي أن يتخيل كل واحد منا معنى أن يكون أبناؤه أيتاما، حتى يدرك مستوى المرارة وحجم المأساة والمعاناة..؟!