وجهة نظر

الحركات الاحتجاجية وسؤال الولاء للوطن

منذ سنة 2011 أي مع اندلاع ما عرف بالربيع العربي، وجدت العديد من الدول العربية نفسها في مواجهة موجات واسعة من الحركات الاحتجاجية، منها من كان متوقعا واعتبر كنتيجة طبيعية لعوامل و أسباب موضوعية كغياب الديمقراطية و انتشار الفساد و سوء تدبير الموارد و مقدرات الأوطان و تفشي البطالة أو التوق إلى تحقيق حلم الديمقراطية على الطراز الغربي وغيرها من المطالب ذات الصبغة الاجتماعية التي تم احتواءها أو الالتفاف عليها بطريقة أو بأخرى، و منها من لم يكن متوقعا بالنظر إلى الطابع الدرامي الذي أخذته تلك الاحتجاجات أو من حيث النتائج الكارثية التي أسفرت عنها، والتي لم تكن على الأرجح لتختلج أذهان شرائح واسعة من رواد تلك الحركات الاحتجاجية لا سيما فئة الشباب منهم، و التي بدت كترجمة عملية لنظرية الفوضى الخلاقة التي بشرت بها كونداليزا رايس .

وقد أسفرت في المحصلة عن كوارث و مآسي يصعب جردها أو تحمل تكاليفها أو حتى ترميم خسائرها التي من المحتمل أن تدوم عقودا من الزمن، كما أن الطريق إلى تحقيق الأحلام بالحرية و الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وهي شعارات لطالما رددتها حناجر الشباب الثائر لازال طويلا وشاقا ، أما الواقع الذي بتنا نشاهده و نلمسه أمام أعيننا هو تفكك للأوطان أو تقسيمها إلى كيانات سياسية على أسس طائفية أو عرقية بفعل تحوير مسارات الثورات وعسكرتها، أو بفعل دخول أطراف خارجية على الخط و إذكاءها للصراعات بين أبناء الوطن الواحد و إثاراتها للنعرات الطائفية أو الإنفصالية، أو بالنظر إلى حجم الضحايا من القتلى و السجناء و المهجرين ، ينضاف إلى ذلك تفجير الدولة العميقة لثورات مضادة حيث لم تتوانى في إعادة المشهد إلى مربع الصفر بل و بصورة أكثر تطرفا وقتامة من الأوضاع السابقة لاندلاع “الربيع العربي”.

أما على مستوى المغرب فقد واجه بدوره رياح ما عرف “بالربيع العربي” الذي تبنته حركة 20 فراير والتي تم احتواءها حينئد بفعل التعاطي الإيجابي لجلالة الملك مع مطالب الحركة و إقرار المغاربة لسلسلة من الإصلاحات الدستورية و المؤسساتية والتي اعتبرت في المحصلة كانتصار لمبدأ الإصلاح في ظل الاستقرار، بل ويمكن اعتباره وبخلاف باقي دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط كان سباقا في مواجهته وتدبيره للعديد من الحركات الاحتجاجية بما فيها تلك التي أخذت طابعا عنيفا كأحداث أكدي ميزيك أو أحداث سيدي إيفني وغيرها.

ومرة أخرى يجد المغرب نفسه في مواجهة حركات احتجاجية جديدة و المتمثلة في ما يعرف بحراك الريف ، والذي تفجر كنتيجة مباشرة لمقتل بائع السمك محسن فكري و في ظل المطالب المتزايدة لساكنة المنطقة و على غرار باقي أقاليم المملكة في إقرار العدالة الاجتماعية و تفعيل آليات الحكامة الجيدة ومحاربة الفساد المستشري في هياكل الدولة و إيجاد حلول لتفشي البطالة و التعليم و الصحة و غيرها .

غير أن الأمر اللافت هذه المرة، هو أن كل ذلك يأتي في ظل الغياب شبه التام لمؤسسات الوساطة و التأطير السياسي كالأحزاب السياسية و باقي مكونات المجتمع المدني سواء بفعل ضعفها وعدم قدرتها على الإضطلاع بمهامها الوظيفية التقليدية المنوطة بها كالتنشئة و التأطير السياسي للمواطنين، ومحدودية تأثيرها على صنع القرار السياسي المغربي و إعداد برامج كفيلة لحل الإشكالات العالقة، أو بفعل الطابع الانتهازي لكوادرها وتغليب المصالح الشخصية كشغف الحصول على أصوات الناخبين و المناصب و السعي إلى الظفر بامتيازات الريع السياسي على حساب المصلحة العامة، أو غياب مبدأ الديمقراطية الداخلية داخل هياكل الأحزاب في مقابل الركون إلى منطق القرابات العائلية و الولاءات أو الأعيان ، وهي كلها عوامل لم تكن لتمر دون أن تنعكس سلبا على علاقة الثقة بالمواطنين و على مبدأ تمثيليتهم أو مدى قدرتها على التعبير والدفاع عن مطالبهم عبر القنوات و المؤسسات الدستورية.

ولعل الرسائل التي يمكن تلقفها من “حراك الريف” و الذي لازالت أطواره في التفاعل في انتظار احتواء مطالبه التي اقرت الحكومة المغربية بمشروعيتها و معالجة أسباب اندلاع شرارته بشكل نهائي ،و ما سبقه من حركات احتجاجية على الصعيد العربي و التي أدت إلى ما أدت إليه، لكفيلة بأن تدعونا جميعا إلى ضرورة إعادة تقييم آداء ونجاعة الفاعلين السياسيين و مؤسسات التربية على قيم المواطنة كالمنظومة التربوية و الإعلامية ، وتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة من جهة، و تشبت الجميع بالثوابت الوطنية و التحلي بقيم المواطنة وتغليب المصلحة العليا للوطن من جهة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار مبدأ تحقيق التوازن المطلوب بين المطالب الثقافية و الهوياتية لساكنة الريف المغربي و بين الحفاظ على الثوابت الوطنية و القواسم المشتركة التي تجمع بين عموم المغاربة، و التي تعتبر في رأينا المتواضع بمثابة صمام الأمان الوحيد في مواجهة أي تداعيات قد تكون خطيرة على تماسك ووحدة المغاربة و مستقبل الوطن و تفادي أي انزلاق نحو المجهول في محيط إقليمي ودولي مضطرب.