وجهة نظر

بمناسبة فصل الأعراس.. حديث عن العرس المغربي

كان العروسان مبتسمين، ممسكين بيدي بعضهما و هو الشيء المتوقع، ليس من لهفة الحبّ.. لأنه حتى إن وجد هذا الأخير .. فإنهما سيكونان حريصين على إخفائه، أو على الأقل خجلين من إظهاره أمام الجميع. لذلك، فاليدان المعلنتان عن تشابكهما، ليستا دليل حبّ (ولا يعني هذا النفي تلميحا إلى غيابه أبدا)، بلْ مجرّد واحدة من تعليمات “النكافة”، التي ربما لم تحتج إلى إصدارها هذه المرة أيضاً لأنهما يحفظان ما عليهما فعله عن ظهر قلب .. لأنه هو نفسه ما يتكرر في كلّ الأعراس.

كلما مر وقتٌ أطول، إذا نظرتَ إلى وجوه الحاضرين، ستلمح بسمةً على وجوه معدودة، تلك الوجوه السعيدة حقاً لأنها تحضر مناسبة سعيدة تخصّ إنساناً غالياً. و سترى الوجوم يعلو كل الوجوه الباقية. و كلّما طال الوقت أكثر سترى شبح الضجر فوق معظم الوجوه.

بمَ سيشعر يا ترى ، القائمون على هذا الحفل مادياً و تنظيمياً (وهو الأمر المرهق جداً من كثرة التفاصيل الواجب التدقيق فيها) إذا فكر لحظةً أن يتأمّل في تلك الوجوه، ويرى كمْ أنّها لا تستشعر أيّ متعة .. ولا تعبر سوى عن الضجر .. ولا تنتعش هذه الوجوه إلا لحظة اقتراب طبق “الدجاج المحمر” من المائدة. بم سيشعر إذا فكّر أنه أنفق ملايين السنتيمات في بضع سويعات لم يستمتع بها أحد.

المشكل ليس في العرس المغربي ، بل في إعدام الهوية الفردية في الهوية الجمعية.

إننا في كلّ عرس، نعلم مسبقاً كل التفاصيل التي سنشاهدها. ليس هناك من جديد، في كلّ مرة سيكون هناك “نكافات” والكثير من “التكاشط” والملابس التي سيدخل العروسان ويخرجون كل مرة بواحدة جديدة. سيكون هناك شخص أو فرقة تغني نفس الأغاني السخيفة في كل الأعراس، أو “دي جي” يحرص أيضاً على عدم الخروج عن نطاق تلك الأغاني نفسها و يقدمها بنفس الترتيب و نفس الصورة. سيكون هناك “حلوى السهرة” في بداية الحفل مع عصير، ثمّ “دجاج محمر” و “لحم بالبرقوق و اللوز” و شاي و حلويات. و في الأعراس الأرقى لن يكون هناك دجاج محمر أو “بسطيلة” ، لكن حلويات ومملحات تدور مرات و مرات طوال الحفل (وهو ما يكلف أكثر من الدجاج المحمر و اللحم بالبرقوق).

في كلّ مرة، تذهب و تعلم أنّه لن يكون هناك شيء أشد إثارة من الدجاج المحمر.

إننا نذهب و نعلم مسبقا ما سنراه ، و لهذا نصاب بالضجر .. وبصداع شديد في الرأس لأن الموسيقى عاااااااااالية جدااااااا .. من أخبر هؤلاء الناس يا ترى أن الموسيقى لا تكون إلاّ بصوت عالٍ لا يطاق ويؤلم كلّ الحاضرين في آذانهم؟ كيف نستمتع بها و هي تؤذي أسماعنا إلى ذاك الحدّ ؟

إنّ كل ثقافة تتميز بعادات وأشكال مختلفة تعبر بها عن خصوصية تعتبر قيمة في حد ذاتها لأنها تشكل تمظهراً للهوية. و الهوية شيءٌ مهم للغاية، لأنك ستضيع وتندثر إذا كنت هائماً بلا هوية. لكن، سيكون الأمر أروع كثيرا لو أنّ أن هذه الهوية الجمعية تسمح بوجود هوية فردية تنضوي تحتها. لو كنا نرى في الأعراس ذاك الشكل العام المغربي ، من “عمارية” و لباس تقليدي للعروس و العريس و الحاضرين، و زفة و “برزة”.. كلّ هذا جميل.. لكن لمَ لا نسمح للعروسين بإضفاء بصمتهما على حفلهما، بأن يقدما شيئاً مميزاً يشبههما.. شيئاً يترقبه الحاضرون في كلّ حفل و يستمتعون به ويذكرونه .. لمَ لا نقف في وجه “النكافة” و نخبرها أننا لسنا في حاجةٍ إليها .. ولتذهب إلى الجحيم هي و حرصها الشديد على أن ترى نفس التفاصيل و المراحل في كلّ الأعراس.

ثمّ .. لمَ ندعو كلّ أولئك الناس إلى حفلنا ؟ هلْ ليأكلوا ويشربوا ؟ أم ليتشاركوا معنا تلك اللحظة التي نحتفل فيها ببدء حياةٍ جديدة مع شريكٍ أحببناه و اخترناه .. كيفَ إذن يمكن أن يكون ذاك الوجوم و الضجر في وجوه هؤلاء الناس تعبيرا عن سعادة ؟

إن العرس المغربي اليوم بموسيقاه الصاخبة ودجاجه المحمر وأزيائه الملونة اللامعة غاية في البؤس.
عليّ أن أقول مجددا، أنني لست ضدّ العرس المغربي كشكلٍ يميز ثقافتنا، فلابدّ أنّ أيّ قادم من ثقافة أخرى سيستمتع باكتشافه و سيبدو له مميزا و جميلاً.. لكن نحن من نعيش داخل هذه الثقافة، لن نشعر سوى بالضجر في كل عرس نحضره، لأن كلّ تلك المظاهر فقدت معناها بسبب التكرار الفارغ من كل إضافة أو بصمة خاصة..

أما الناس الذين سيعيبون غياب ذاك الجزء أو طريقة إنجاز جزء آخر .. فهو أمرٌ لابدّ منه. وهو أيضاً راجعٌ إلى كون نفس السيناريو يتكرر، بحيث أنّ الناس صاروا خبيرين به، وحضروا نفس السيناريو عشرات المرات .. ورأوا في كلّ عرس إخراجا لا يختلف سوى في الجودة. لذلك فبين جودة و أخرى، يجدون الثغرات التي سيعيبون عليها. وهكذا، فإذا كنت تبتغي إرضاء الناس، عليك أن تضيف مزيداً من الجودة، والجودة مرتبطة ارتباطا مباشراً بملايين إضافية عليك أنْ تنفقها. و لتكن موقنا مع ذلك، أنّ هناك من سيجد عيوباً يحكي عنها.

أليس إذن من بؤس أشد من أنْ تنفق ملايين كنت ربما لتسافر وتستمتع بها أو كنت لتجهز بها منزلك أو تهدي بها شيئاً جميلاً لحبيبك ، أو أيّ شيء يجعلك سعيداً .. بدل أن تطعم عشرات الناس الذين لن يشعروا في حفلك سوى بالضجر، وبأن لا شيء أكثر إثارة في حفلك من الطعام، و يعانون بعد ذلك من صداع شديد يلعنونك لأنك تسببت به “وعلى زين ديكشي اللي درتيلهم ولا وكلتيهم” لأنهم أيضاً سيتحدثون طويلاً عن ما لم يعجبهم في عرسك.

أليس هذا قمة البؤس و العبث ؟

العرس المغربي اليوم، خاوٍ من كلّ معنى. لأننا ظللنا نكرر نفس الشيء حتى نسينا معناه، وحتى صار خاوياً من كلّ روح. وهو مضجر ولا يبعث على أية سعادة. ولا يجعل أحدنا يشارك الآخر لحظة جميلة و سعيدة في حياته. مسافات كبيرة جداً تفصل كلّ حاضر عن الآخر .. الناس حين يتشاركون فرحة ما تقترب قلوبهم و أرواحهم من بعضها ، لكن كلّ الأرواح في ذاك العرس كانت واجمة .. فأيّ فرحة تشاركوها ؟ المساكين.. أطعمونا .. و نحن الآن لا نشعر تجاههم بأيّ امتنان .. أنا شخصيا لا أشعر بالامتنان إلا للإله الذي عافاني مما ابتلى به كل راغب في مثل هذا العرس.