خارج الحدود

هل دمرت السعودية “آثار الإسلام” بينما رممت آثار ملوكها؟ (فيديو)

حسب تعريف اليونسكو للآثار الدينيّة والمواقع المقدسة فإن الآثار الدينية هي “أقدم المناطق الدينية التي لها قيمة حيوية في التنوع الثقافي والتي تستطيع أن تُبرز روح ديانة معينة. وأن المواقع المقدسة هي تلك التي تمثل قيمة روحية خاصة للشعوب والمجتمعات المحليّة مهما مرت عليها القرون”.[1]

وحسب تعريف قاموس كامبريدج للآثار فإن كلمة الأثر تعني: أي مبنى تاريخي أو مكان يُشكّل جُزءا مهما من تاريخ أي دولة أو بلد أو ديانة.[2] غير كامبريدج واليونسكو، يُعرّف عالم الآثار الإنجليزي كريستوفر تيلي الآثار بأنها “المعالم التي تساعدنا على تخيل الماضي واختباره”.[3] وهذا التعريف لا يقتصر على المباني التي شُيّدت لممارسة الشعائر الدينية فقط بل كل مبنى أو عمل معماري يستطيع تحقيق حالة من الجمال الروحاني. ففكرة القداسة في العمل المعماري تتجاوز المبنى الديني المُخصص للعبادة لتشمل كل مبنى كان بشكل طوباوي وسيلة في تحقيق صورة من صور الجنة على الأرض.[4]

وحيث إن المقدس ليس هو مكان ممارسة الشعائر فقط، فإن التأثير الروحاني لبعض المباني غير التعبدية قد يكون عاملا في نقل أهل الديانة لرحابة ما وراء المادي؛ لرحابة المطلق والمتجاوز. وإذا كان كل مقدس ينتمي للحالة الإنسانية بعمومها؛ فهو في الوقت نفسه له حالة من الخصوصية الثقافية المرتكزة على المؤمنين به.

لذلك وجب في أي عملية تخطيط عمراني لأي فراغ مُحيط بأثر/معلم/مبنى مقدس أن تراعي أمرين، الأول هو، التعامل مع الرصيد التراثي للأثر، فلا تضيف للبيئة ما لا يتناسب مع طابعها أو يتناقض معه. الأمر الآخر، أن تراعي عملية التخطيط العمراني، السياق الحضاري العالمي؛ فالتمايز القيمي/التراثي لا يجب أن يأتي مُتخلفًا عن سياق العمران العالمي؛ أي أن الحنين للماضي لا يجب أن يظهر في هيئة مبانٍ لا تلبي الاحتياجات الأساسية للإنسان.

“…وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ…”

(حديث شريف للنبي عن مكة المكرمة)

إن الانحدار في الذوق الفني والديني، يُجرد مكة من قداستها الدينية ليحولها لمدينة سياحية ضخمة حتى صار برج الساعة، أحد أطول المباني في العالم (رويترز)

بالرغم من أن العديد من مباني ومعمار مكة القديم، خاصة الذي يعود لعهد النبوة، يعتبر آثارًا تاريخية اليوم حسب تعريف الآثار اصطلاحا، ووفقا لما أقرته اليونسكو لمعنى كلمة أثر، إلا أن وتيرة التشييد العمراني الذي تتبناه المملكة منذ السبعينيات يخالف ما أقرته اليونسكو من معايير “واجب” اتباعها في تطوير الأماكن الأثرية في مكة على وجه التحديد التي لم يتم مراعاة سياقها التاريخي أو خصوصيتها الدينية المقدسة؛ بالرغم من أن تلك المعايير تطبقها المملكة في مناطق أخرى بمنتهى الدقة!

وحسب ما أتى في كتاب “من مكة إلى لاس فيغاس -أطروحات نقدية في العمارة والقداسة”، للدكتور علي عبد الرؤوف؛ فإن هذا الانحدار في الذوق الفني والديني، يُجرد مكة من قداستها الدينية ليحولها لمدينة سياحية ضخمة حتى صار برج الساعة، أحد أطول المباني في العالم، والذي يطل على الكعبة كعملاق ضخم يكاد يلتهمها. والسؤال هنا، هل تتحول مكة من بلد الكعبة المشرفة إلى فنادق ضخمة مليئة بمراكز التسوق ومطاعم فاخرة وزوار فاحشي الثراء! هل صارت مكة دليلا على الانتصار الواضح لقيّم الرأسمالية الاستهلاكية! هل صارت انتصارا للتشيؤ والتسطيح والابتذال! وهل يُمكن اعتبار ذلك من باب الجهل والخطأ![5]

مكة.. ازدواجية الهوية

“اكتمل مؤخرا، بتكلفة ملياري دولار، برج الساعة الملكي في مكة وهو مجمع سكني وترفيهي وفندقي، وهو أحد أكبر المباني، والثاني طولا على مستوى العالم، ويطل على الكعبة، أقدس موقع إسلامي.”[6]
(مِن مقال النيويورك، مكة الحديثة، عملية تحويل مدينة مقدسة / (Modern Mecca, the transformation of a holy city, By Basharat Peer)

يجري في مكة منذ ما يقارب الخمسة عقود عملية تغيير ممنهج لهوية المدينة، التي كانت على مر قرون قيمة روحية للمسلمين، لتتحول إلى مدينة عالمية! لقد صارت مكة المكرمة في ثوبها الجديد مدينة مزدوجة الهوية، والأسوأ، أن تسارع وتيرة البناء تُهدد بحسم ذاك الصراع الهوياتي لصالح العالمية والعولمة.

مكة التي كانت واديا قاحلا، تحولت إلى نطاق تجاري استثماري محوط بالفنادق وناطحات السحاب ومراكز التسوق (رويترز)

فقد شهدت مكة، في العقدين الأخيرين، هدم آخر ما تبقى من الرواق العثماني في الحرم المكي بحجة أعمال التوسعة على الحجاج. فيما تم هدم بيت السيدة خديجة، أم المؤمنين، واستبداله بمراحيض عامة. كما تم هدم بيت أبي بكر الصديق في سبيل إقامة فندق هيلتون أيضًا.[7]

إن المدن العالمية لها بصمة بصرية معينة وهي تلك التي تمثل مراكز سياسية واقتصادية وثقافية مثل نيويورك وشيكاغو وشنغهاي. وقد صارت تلك المدن في حد ذاتها إطارا مرجعيا لفكرة المدينة العالمية. وهذا التعريف لا يرتبط بالشكل فقط بل أيضًا بأن تصبح “وظيفة المدينة” الأساسية جذب المال والأعمال واستقطاب الجنسيات الأخرى للسياحة الترفيهية.[8] هذا هو النوع الجديد من العولمة، وبحسب وصف الدكتور عبد الرؤوف فإنها “ليست تدخلا ماديا أو احتلالا، بل انسيابا ناعما، خاصة في الجوانب اللاملموسة من الثقافة والمكان والإنسان، وتأثيراتها أصبحت غير قابلة للتغيير وتصعب مقاومتها.”[9] والسؤال الآن هل كانت تحتاج مكة لمظهر مدينة لندن بساعتها العملاقة لتصير مدينة عالمية؟ وهل كانت سياسة المملكة في مكة اعتباطا أو عن غير قصد؟

“إن أحدث معلم في مكة المكرمة هو ساعة “بيغ بن الإسلامية”، وهي ساعة تُزيَّن بالهلال الذهبي، وشعار المملكة السعودية في المركز، وعبارة “الله أكبر” بالخط العربي على الحافة العليا، بالإضافة إلى أبراج البيت وفندق فيرمونت العملاق. وهذا مثال شاهد لجميع مشاريع التنمية الفانتازية التي سوف تساهم في حالة الاختناق العمراني ومن ثم الروحاني للمسجد الحرام والكعبة الشريفة. فهذه الساعة التي كلفت 800 مليون دولار، هي رمز الرأسمالية البترولية بامتياز. فإلى جانب أهمية أن تكون بيئة الحج آمنة ومريحة فهي بالمقام الأول يجب أن تكون تجربة روحانية ومقدسة. ولكن الشواهد المرصودة توضح أن مكة المكرمة التي كانت يوما من الأيام واديا قاحلا يستقطب الحجاج في رحلة روحانية تطهيرية، قد تحولت إلى نطاق تجاري استثماري استهلاكي محوط بالفنادق الفاخرة وناطحات السحاب الشاهقة ومراكز التسوق العالمية.”
– (من مكة إلى لاس فيغاس)

تاريخ من لا تاريخ له

في الواقع، إن الصراع الهوياتي الذي تشهده مكة يُقابله على الناحية الأخرى حالة من الدقة المتناهية في تطوير الدرعية وهي المدينة التي تقع في إقليم عارض اليمامة بجنوب هضبة نجد وتتبع منطقة الرياض. ويراد لتلك المدينة أن تصير معلما وطنيا يحكي قصة نشأة المملكة بحس قومي ديني. وتطوير المدينة هو أحد أهم مشاريع الملك سلمان الداخلية الآن. وتهدف عملية التطوير لخلق شبكات طرق وصرف صحي وإنارة ومراكز خدمية وتراثية والأهم من ذلك كله تطوير “حي البجيري وحي الطريف.”[10]

الدرعية، والتي كانت عاصمة الدولة السعودية الأولى، سقطت عام 1818 على يد الجيش العثماني الذي أغار عليها بعدما ناصر محمد بن سعود الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تحالف ديني سياسي هدفه توحيد الحكم في المملكة لصالح بن سعود الذي سيسمح لابن عبد الوهاب بتصحيح العقيدة ونشر الشريعة الإسلامية. والبجيري هو الحي الذي من المفترض له أن يستعرض تاريخ آل سعود الثقافي والسياسي! فبحسب المهندس عبد الله بن محمد الركبان،[11] المسئول عن تطوير الدرعية، في تصريح له، فإن “الخطة التنفيذية الشاملة لبرنامج تطوير الدرعية التاريخية تهدف إلى تحويل حي البجيري إلى بوابة ثقافية وخدمية للدرعية.”[12]

وعلى حد تعبير الركبان: “سيضم الحي مؤسسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الثقافية التي تُعنى بتقديم تراث الشيخ العلمي والفكري، والاهتمام بالدراسات العقدية والدعوية المتخصصة، وخدمة الباحثين في مجالها، وتعد من المؤسسات الثقافيّة الكبرى، وتأتي عرفانا بما قدمه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تاريخ الدولة السعودية”.[13]

الحي الثاني، الطريف، والذي أشار الركبان إليه كبوابة ثقافية وتاريخية هو الآخر، والذي سيتم تطويره وفقًا “لمقررات اليونسكو لتطوير الأماكن التراثية”. حيث أشار الركبان إلى: “أن حي الطريف التاريخي يُعد من أهم معالم الدرعية التاريخية؛ لاحتضانه المباني والقصور التاريخية، وضمّه معظم المباني الإدارية في عهد الدولة السعودية الأولى. وانطلاقًا من أهميته تلك، أعدت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض منهجية تضع في الاعتبار تنفيذ محددات الحفاظ على التراث في مشاريع الترميم والتأهيل والاستخدام وبما يتماشى مع مقررات اليونسكو العالميّة لحماية مواقع التراث الثقافي.”[14]

آل سعود VS آل البيت

بالإضافة للالتزام بمقررات اليونسكو في تطوير الأماكن الأثرية والقصور التي كانت تخص رجال الدولة الأوائل في الدرعية، مع “مراعاة دقيقة وحساسة لبيئة الدرعية كواحة، والمحافظة على هوية الواحة بما يتوازن معها من مبانٍ صديقة”، ستبني المملكة متحف في “الدرعية” في حي الطريف، والذي -على حد قول الركبان أيضًا- سيكون هدفه تسليط الضوء على ظروف تأسيس الدولة الأولى و”تاريخ وإنجازات” رجالها الأوائل.[15]

على الجانب الآخر، نرى أن المملكة لا تتبع أيّا من معايير اليونسكو السالف ذكرها، رغم أنها طبقتها في الدرعية، فعندما بسط آل سعود يد السيطرة على مكة في معارك الدولة الثانية في عشرينيات القرن الماضي، بعد أن أسقط العثمانيون الدولة الأولى في أوائل القرن التاسع عشر، تم تدمير القبة التاريخية التي كانت تميّز بيت النبي، ومن ثم تحويل مكان البيت لسوق للماشية! الأمر الذي أثار حمية أهل مكة فتم تحويل الموقع لمكتبة![16]

غير بيت النبي، أصدرت المملكة كُتيب يبيح تسوية قبور النبي وأبي بكر وعمر بالأرض بحجة أنها لا تتطابق مع المفهوم الشرعي للمقابر في الإسلام. الكتيب، والذي استند على فتاوى المفتي الكبير عبد العزيز الشيخ حول محاربة البدع والشرك وعبادة القبور، كان بحق، المطرقة التي أتت على عدد من الآثار التاريخية المقدسة في مكة والمدينة حتى اليوم.[17]

حالة الاندثار التي تواجه الهوية المكيّة اليوم، في معركتها الضارية مع الهوية الرأسمالية الاستهلاكية، لم تتوقف عند هدم الآثار الهوياتية التاريخية، بل بالإقدام على إعطاء هذا المكان المقدس طابع المدن الخليجية العالمية. ذاك حين تم هدم قلعة أجياد التاريخية المطلة على الحرم، رغم بُعدها كل البعد عن شبهة التبرُّك بالقبور، لبناء برج الساعة مكانها.

قلعة أجياد قبل الهدم وهي تظهر خلف الكعبة عام 1889م (مواقع التواصل)

القلعة والتي كانت أثرا تاريخيا مهما بنيت في عهد الدولة العثمانية، 1780 ميلادية، كان الهدف منها “حماية الحرم من إغارة القبائل المتمردة التي كانت تنتمي للطائفة الوهابية ومحمد بن سعود!” هذا ليس كل شيء، حين صدر قرار بهدم القلعة ثارت ثائرة عدد من الدول الإسلامية حتى إن اليونسكو نفسها تدخلت لوقف قرار الهدم لكن بلا أدنى فائدة، هدمت القلعة وبنيّ البُرج.

“لا يملك أحد التدخل في كل ما يجيء تحت سيطرة الدولة، هذا المشروع هو لفائدة المسلمين في جميع أنحاء العالم”.[18]

(وزير المملكة العربية السعودية للشئون الإسلامية عن هدم قلعة أجياد)

شكلت تصريحات المسئول عن الشئون الإسلامية في المملكة صدمة كبيرة لأهل مكة الذين كانوا قد تلقوا وعودا مسبقة بعدم هدم القلعة. أضف لذلك، أن قرار الهدم هذا شكّل أزمة دبلوماسية بين تركيا وآل سعود، حيث رأت الأولى أن قرار الهدم طائفي وغير مبرر وعدونًا على هوية المدينة التاريخية.

“تماما كما دمرت طالبان تماثيل بوذا، السعوديون يسعون وراء إزالة كل أثر يذكرنا بتراثنا.”[19]

(استميهان تالاي، وزير الثقافة التركي، (يناير/كانون الثاني) 2002)

الموقف التركي نفسه تبناه مؤرخ الفن العثماني في جامعة تكساس، كاريل بيرترام، والذي علق على أعمال التوسعة التي أدت لهدم قلعة أجياد بأنها: “طريقة للمذهب الوهابي لإظهار أنه لا يوجد أي شكل من أشكال الإسلام على أرض الواقع، أو في الماضي أو في ذكريات الإنسان، غير رؤيتهم ومذهبهم وتفسيرهم”.[20] ومنذ أن أحكم آل سعود قبضتهم على بلاد الحجاز برعاية المذهب الوهابي وحتى اليوم؛ أتت المملكة على هدم عشرات المعالم التاريخية والأثرية الإسلامية، ومهما كان درجة الاحتجاج من اليونسكو أو الدول الإسلامية، لا شيء يفلت من مطرقة الهدم.

توسعة أم تشوه بصري؟

“سوف تتحول مكة من مدينة ذكية لمدينة أذكى من الذكية.”[21]
(الأمير خالد الفيصل، لا نقبل إلا التميز وهدفنا جعل مكة مدينة أذكى-أخبار السعودية | صحيفة عكاظ)

هل كانت مكة غير ذكية بما يكفي قبل أن تتحول لمدينة خليجية استثمارية مُعولَمة؟ هل كانت تحتاج لتغيير معالمها التاريخيّة لتكون “أذكى من الذكية”؟ ألم تكن قيمة مكة في قداستها وآثارها وتاريخها الروحي؟ ألم يكن من الأولى أن تُترك آثار مكة على حالها إن لم يكن من باب القداسة الدينية فمن باب القداسة التاريخية؟

التجاهل الشديد لأصول العمارة في مكة في سياقها التاريخي وخصوصيتها المحلية لا يجعلان لها صورة في الذهن إلا برج الساعة (رويترز)

إن المقارنة الأولية البسيطة بين سياسة آل سعود في تطوير الدرعية وسياستهم في تطوير مكة والمدينة، تجعل فكرة أن ما يحدث في مكة قد يكون خطئا غير مقصود محل شك! فسياسة التطوير العمراني، التي يغلفها ادعاء التوسعة لراحة زوار البيت تتهاوى أمام فكرة أن الفلسفة التي تحكم التخطيط العمراني في مكة هي اقتصادية رأسمالية وليست دينية.

“التبرير الدائم الذي تسوقه السلطات السعودية لعملية الهدم والإحلال المستمرة، هو الرغبة في استيعاب الأعداد المتزايدة من الراغبين في أداء مناسك الحج. الأكيد أن هذا التبرير يتوافق مع لقب الملك وهو خادم الحرمين الشريفين، وهو اللقب الذي يعطي الإيحاء الكامل بأن الملك وكل سلطاته تتفرغ لخدمة الحرمين الشريفين، ومن ثم تسهيل مهمة المسلمين القادمين إليها. وأما ما لا يمكن إعلانه هو أن الدافع وراء كل هذه العمليات هو دافع مالي استثماري بحت! إنها الرغبة في تعظيم الربح من أكثر مناطق الاستثمار العقاري في العالم قيمة. لقد تم تفسير خدمة الإسلام والحجيج تفسيرا يمكِّن من تعظيم الدورة المالية والربحية والاستثمارية للنطاقات العقارية حول الحرم، مع تغليفها الدائم بالغلاف الذي يثير العواطف ويدغدغ المشاعر: خدمة زوار بيت الله.”
– (من مكة إلى لاس فيغاس، د/ علي عبد الرؤوف)

الشاهد، أن خطط الاستثمار العقاري بتكاليف آلاف المليارات والتي تحقق فوائد اقتصادية ومادية تجعل فكرة التوسعة العمرانية لاستيعاب عدد أكبر من المعتمرين والحجاج غير منطقية مقارنة بكونها مشاريع استثماريّة ضخمة! خاصة أن التوسعة وترميم الآثار المتبقية من عهد النبوة وحتى الدولة العثمانية كان متاحا وقد أجرت المملكة بالفعل مشاريع تطوير عمرانية مشابهة في الدرعية أتت بما يتفق مع الهوية الثقافية والبيئية لفكرة الواحة ومتفق أيضًا مع ما اعتبرته المملكة “آثار رجال الدولة الأوائل”؛ بغض الطرف عن هل تعتبر تلك القصور فعلا آثار أم لا حسب تعريف الآثار السالف ذكرها في هذا المقال.

وعوضًا عن الحفاظ على الخصوصية الهوياتية الزمانية لمكة والحفاظ على آثار ديانة تأمر بالاعتدال وعدم الإسراف والمساواة بين الناس، نجد غرف شديدة الرفاهية لحجاج فاحشي الثراء؛ ولا مجال هنا لـ”لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى”. من يملك أكثر يدفع أكثر ويهنأ أكثر في أبراج البيت السبعة الشاهقة.

“الأكثر خطورة هي التبريرات الدينيّة والفتاوى المُغرضة التي سهلت عملية “لاس فيغاسية” مكة، فقد أفتى البعض بجواز اعتبار صلاتك وحدك في غرفتك المطلة على الحرم كصلاة جماعة، وبالتالي لا تضطر للنزول إلى ساحة المسجد الحرام وتكبد مشقة الاحتكاك مع جموع المسلمين”.
– (من مكة إلى لاس فيغاس، د/ علي عبد الرؤوف)

وبالطبع، فإن ذاك التجاهل الشديد لأصول العمارة في مكة في سياقها التاريخي وخصوصيتها المحلية لا يجعلان لمكة صورة في الذهن إلا برج الساعة، الذي يتحدى طول وضخامة ساعة لندن الشهيرة، والأبراج السبعة التي تطل على مبنى الكعبة الصغير كوحش كاسر. فيما تتراجع صورة الكعبة في الذهن وتتقزم أمام تلك الأبراج.

حالة من “السخف المعماري” والابتذال الفني والجشع المادي هي مُلخص حركة العمران في مكة منذ عقود. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل يتم التعامل مع الكعبة على أنها “سبوبة”؟! وسواء كان الأمر بدافع التعصب الديني أو بهدف التربح المالي، فإن حملات التدمير التي أتت على عدد ضخم من الآثار الإسلامية تُنذر بكارثة، فغير اندثار الآثار، عولمة مدينة مقدسة كمكة هي تقويض واضح لخصوصيتها الثقافية الإسلامية. هذا غير الفواصل النفسية والصراع الطبقي الناشئ بين زوار وحجاج متوسطي الحالة المادية من ناحية وزوار وحجاج فاحشي الثراء من ناحية أخرى!