وجهة نظر

الساسي يكتب: حراك الريف .. خصوصية الاختبار (الحلقة 6 والأخيرة)

الاحتجاجات حبلى بالدروس والعبر

الخلاصات والدروس والعبر التي يمكن استخلاصها، إلى حدود الساعة، من حراك الريف متعددة ووافرة، ولكن يمكن الإشارة في ما يلي إلى ما نعتبره الأهم :

اتساع الهوة

– استمرار اتساع الهوة بين الشارع والمؤسسات. وهكذا يُلاحظ أن القوى الفاعلة في الشارع غير موجودة في المؤسسات، أو ليس لها في المؤسسات حضور وازن، إما لأنها لا تثق، أصلاً، في عمل المؤسسات وما يمكن أن يفضي إليه من نتائج، وإما لأنها محرومة من وسائل التأثير الملموس في المؤسسات.

والقوى الحاضرة بشكل بارز في المؤسسات، إما أن تأثيرها ينعدم في الشارع، وإما أن سمعتها لديه متردية وفي الحضيض؛ وإما أنها تستغل وجود حراك بالشارع لتقوية موقعها الذاتي في المؤسسات، بدون أن تشارك فيه أو تدعمه أو تساعده، حقيقة، على بلوغ أهدافه وتحقيق مطالبه. التفاوت بين “خريطة الشارع” و”خريطة المؤسسات”، يكون قائماً، أحياناً، حتى في أعرق الديمقراطيات، لكن الأمر لا يصل إلى هذا الحد من التنافر بين منطقين وفضاءين عموميين.

– سجل الكثيرون أن هيئات الوساطة بين الشارع والقصر هي في حالة اختفاء وتوار. لم تعد الأحزاب والنقابات والمنتخبون بقادرين على ضبط الشارع وتأطيره. هذا الواقع الجديد يطرح المزيد من التحديات على الملكية، ويثقلها بالمزيد من المشاكل، خاصة أن الأمر يتعلق بملكية كانت دائمًا تسود وتحكم.

– بسبب الحراك، أصبحت تظهر للعيان، أكثر، عناصر أزمة سياسية كانت تخضع، دائماً، لمحاولات التستر عليها. وهذه الأزمة مزدوجة، فهي أزمة الأحزاب والهيئات المنظمة التي تبدو كما لو أنها عاجزة عن فعل أي شيء لحل الإشكال المطروح. وهي أزمة نمط في الحكم نسميه الملكية التنفيذية، ونعني به ملكية تحكم وتمارس السلطة وتحسم في البرامج والاختيارات، وتتخذ القرارات، وتشرف على الإنجاز، وتعتبر، في ذات الوقت، أن الخطأ دائماً موجود في حقل التنفيذ والتطبيق وحده.

– حصول ارتداد في مسلسل المصالحة مع الريف. أشار الكثيرون إلى أن المواجهات التي حصلت، والدماء التي سالت، والاعتقالات التي تمت، ومختلف مظاهر التنكيل التي ووُجه بها نشطاء الحراك، جعلتنا نعود إلى نقطة الصفر. لقد انضافت جراحات الحاضر إلى جراحات الماضي، التي لم تندمل بعد، فبعد حمام الدم في 1958/1959 و1984 والخطاب التهديدي للملك الراحل، بُذلت من طرف (العهد الجديد) بضع خطوات على طريق طي الصفحة، لكن الجرح، اليوم، أصبح مفتوحاً أكثر ونازفاً، وهذا يورطنا، ربما، في وضعية لا يمكن تجاوزها في أجل قصير.

– إثارة سؤال الإعلام العمومي. لقد لاحظ الجميع أن الإعلام العمومي المغربي فَقَدَ الكثير من مصداقيته بعد فبركة الصور الخاصة بحراك الريف، حيث عرضت التلفزة لقطات لا علاقة لها بالحراك، لمحاولة الإيحاء بأن الحراك قد جنح عن جادة السلمية. وفي نفس الوقت، يُلاحظ أن البعض أحس بضرورة “إعادة تنظيم” أو “إعادة هيكلة” عملية اختراق مجال الفضاء الأزرق، وبدأت تظهر بوادر ما يمكن أن نسميه بحزب الدولة الإلكتروني، من خلال أخبار وصور وتعليقات ومواد تُنشر بغاية توجيه الرأي العام. خطأ هذا “الحزب” هو أنه يكشف عن أوراقه، منذ الوهلة الأولى، فهو يستحسن السلطوية ومركزة القرار، ولا يرى ضرورة لربط هذا القرار بصناديق الاقتراع، وبالتالي يعتبر، ضمنياً، أن الديمقراطية والسيادة الشعبية خطر على أمن واستقرار البلاد.

– حراك الريف أحدث اضطراباً وارتباكاً في مواقف النظام والأغلبية الحكومية، وظهر ذلك، مثلاً، في الهجوم على الحراك والمنازعة في سلميته، واتهامه بالارتباط الأجنبي والعمالة للخارج، وحصول تراجع عن هذه الاتهامات في فترة من الزمن، ثم الشروع في متابعة النشطاء بذات الاتهامات التي أُطلقت في البداية.

– طرح الحراك، بحدة، سؤال دور المساجد. المساجد هي أداة في يد النظام لتثبيت وضع قائم ومنع الثورة عليه. يقول النظام عن الآخرين إنهم يستغلون الدين في السياسة، وهو لا ينازع في استغلال الدين في السياسة، ولكن يريد احتكار هذا الاستغلال من طرفه. هناك من يعتبر بأن هذا الاحتكار إذا توخى استغلال المساجد لضمان وحدة الطقوس والشعائر والخطب في المساجد درءاً للطائفية، فيجب أن يكون ذلك مقبولاً. ولكن المشكلة تتجاوز ذلك، فهي بالنسبة للحالة التي أمامنا، تتمثل في تعارض الخطاب المُلقى في المساجد مع الخطاب الوارد في الدستور. فالدستور يمنحنا حق التظاهر والاحتجاج نظرياً، ولكن المسجد هنا يذكرنا بأن ذلك فيه خروج عن طاعة الأمير المفروضة دينياً.

وحسب هذا المنظور، فكل ما يمس الطاعة غير مشروع، والطاعة مفروضة، إذن الاحتجاج غير مشروع. وهذا يعني ما يشبه التحريم للحراك ولما يدخل في حكم الحراك، فما يزعج الحاكمين ولا يرضون عنه يجب أن يُعتبر محرماً دينياً. الإشكال هنا، إذن، يلخصه السؤال التالي : ما معنى أن يَرِدَ بنص الدستور شيء ويرد بنص خطبة الجمعة شيء آخر؟

أصبح النظام شيئاً فشيئاً يجد صعوبة في تدبير احتكاره للمساجد، في الماضي كانت هذه الصعوبة متأتية من بعض التيارات التي تنازع في الشرعية الدينية للنظام، واليوم أصبحت تنبع، أحياناً، حتى من المواطنين العاديين الذين أصبحوا لا يجدون أي حرج، مثلاً، في الاحتجاج على إقالة إمام وتعويضه بإمام آخر.

عودة تدريجية للمثقفين

– يؤشر الحراك إلى نوع من العودة التدريجية للمثقفين للتعبير عن مواقفهم في الساحة العامة، فبعد حراك 2011 لاحظنا أن المثقفين الذين لم يواكبوا بالقدر الكافي هذا الحراك، يحاولون، لاحقاً، فَهْمَ ما جرى واستدراك النقص الذي ظهر في أدائهم وأدوارهم.

واليوم، أمام حراك الريف، نلاحظ قيام عدة مبادرات لمحاولة التحكيم والوساطة، وكيفما كان الحل المقترح، فإن مبادرات المثقفين، الذين باشروا بنوع من الاستقلالية توجيه نداءات أو الحوار مع النشطاء، تستحق التثمين المبدئي، بغض الطرف عن الحيثيات المختلفة، من منطلق أنها تعكس شعور هؤلاء المثقفين بأن من مسؤوليتهم المساهمة في حل مشكلة من المشكلات التي نبعت من عمق الحياة السياسية في المغرب، وهذا في حد ذاته إيجابي.

– أفرز الحراك أسلوباً جديداً في الخطاب السياسي، وشجع فئات جديدة على الكشف عن المكنون وعن المحتبس في الحلوق. إذا كان الزفزافي يمثل ظاهرة سياسية جديدة، فإن له من جهة معجبون، وله من جهة ثانية مقلدون، وسيكون لذلك أثر في أساليب القول السياسي والتواصل. لقد اتسمت بعض التقييمات التي باشرها المتحاورون في الفيسبوك، وباقي مواقع التواصل الاجتماعي، بنبرة صارمة وحادة أحياناً، حيال مظاهر التعسف التي طالت نشطاء الحراك وطريقة التعامل معهم، وحيال التناقضات البارزة في الخطاب السياسي الرسمي ومسؤولية النظام عن الاختلالات التي أوصلتنا إلى الأزمة.

– أظهر الحراك استمرار وتفاقم المشكلة القائمة في العلاقة بين الدولة والإدارة والمسؤولين من جهة، والمواطنين من جهة ثانية، وهي مشكلة تزعزع الثقة، ومشكلة غياب الضمانات وعدم الوفاء بالوعود. وتبدو، اليوم، مشكلة التأمين في السياسة وفي العلاقة مع الحاكمين، كمشكلة حقيقية وليست مفتعلة، إذ هناك وقائع تثبت كيف أن وعوداً قُدِّمت ولم يتم الوفاء بها، ومشاريع دُشِّنَتْ من طرف الملك ولم تُنجز، أو أنجزت جزئياً فقط، وحوارات فُتِحت ثم أُجْهِضَت، وقوانين ومذكرات وأوامر وقرارات صدرت ثم جُمِّدت!

غياب الانتقال الديمقراطي

– قدم الحراك حجة إضافية على غياب الانتقال في المغرب وغياب الإرادة السياسية لذلك، فالحسن الثاني كان يقول إنه لا يمنح شيئاً تحت الضغط، وكان ذلك يفيد أن مختلف وسائل الضغط النضالية السلمية التي تلجأ إليها أطراف اللعبة السياسية مرفوضة مبدئياً. واليوم نجد أنفسنا قريبين من هذا المنطق. لا يمكن أن يقبل نظام ما بحراك الشارع إلا إذا انتهى إلى الاقتناع بضرورة الديمقراطية والاستعداد لتغيير السياسات وتغيير الحاكمين وإخضاعهم للمحاسبة والرقابة.

إذا كان الفصل 29 من الدستور المغربي ينص على حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، فإن الواقع يثبت أن التمتع الفعلي بالحقوق المنصوص عليها في هذا الفصل، مرهون، في أكثر الأحيان، بتطابق رؤية الحاكمين مع رؤية الممارسين المفترضين لتلك الحقوق.

– جاء الحراك ليعيد التأكيد على أن المسلسل السياسي، في المغرب، ليس تراكمياً، فنحن مازلنا نعيش نظام الدورات. وفي لحظة معينة، مثل لحظة الحراك، حيث تصدر أحكام بعشرات السنين على مجموعة من الشباب بسبب التظاهر في الشارع، نحس بأنه ليست لنا حقوق أو مكتسبات نهائية.

– تجلى، من خلال مجريات حراك الريف، غياب الحكامة الأمنية وغياب سلطة مضادة حقيقية، على الصعيد الوطني، لتأمين التوازن الضروري الذي يحمي البلاد من الانزلاق نحو الهاوية. يتصرف أفراد القوات العمومية، في الإجمال، كما لو أن الجهة الوحيدة التي يجب أن يقيموا لها اعتباراً هي رؤساؤهم فقط. وفي المغرب، عموماً، يظهر كما لو أن أولئك الذين يُفترض فيهم أن يمارسوا الرقابة على الغير، هم الذين يخضعون لرقابة هذا الغير ولضغوطاته السرية والعلنية!

انهيار النظام الحزبي

أبرز الحراك أن النظام الحزبي المغربي انهار تقريباً أو أشرف على الانهيار، فالأحزاب السياسية، حسب النشطاء، هي أشبه بدكاكين سياسية. طبعاً، ليس هناك شك في أن هذا الوصف غير قابل للتعميم على جميع الأحزاب السياسية بل يسري على أغلبها. الأحزاب المناضلة، التي لا تقع قياداتها أسيرة بريق المناصب الحكومية، موجودة، ولكنها محتاجة إلى نَفَسٍ جديد وإلى مزيد من الانفتاح على الطاقات الفاعلة في المجتمع لكسب رهان النجاعة وعدم الاكتفاء بكسب رهان المبدئية والنزاهة.

هناك، في نظرنا، حاجة إلى عرض سياسي جديد، وقادة الحراك يمثلون جيلاً من القادة الميدانيين الذين يمكن أن يشكلوا أحد أنوية هذا العرض، وأن يساهموا في إعادة الاعتبار للسياسة وتأطير المواطنين وإرفاق نضالهم في الشارع بنضال من داخل المؤسسات لضمان انتزاع أكثر ما يمكن من المكتسبات وضمان تحصينها وحمايتها.

يقول مرتضى اعمراشن، أحد قادة الحراك: “المدخل لطي ملف الحراك هو تأسيس حزب سياسي يضم نشطاء الحراك الشعبي بعد الإفراج عنهم”.

– الوضع الذي تُوجد عليه اليوم قضية الحريات، ومستوى المساس والهضم الذي تعرضت له الحقوق، بمناسبة حراك الريف، لا يسمحان بالحياد أو الصمت. المهمة المركزية للمناضلين الديمقراطيين، حالياً، هي دعم الحراك، بكل الوسائل السلمية، حتى إطلاق سراح كافة المعتقلين وتحقيق المطالب، وإلا فإن الآثار ستكون وخيمة على مجمل حركة النضال الديمقراطي في المغرب.

وبدون تنسيق جهود الديمقراطيين الحقيقيين وتكثيفها ورفع مستوى التعبئة واليقظة والمبادرة والفعل، فإن الخطر الذي يهددنا، ربما، لن يقتصر على العودة إلى ما قبل 2011، بل قد يصل إلى حد السقوط في أسر ما يمكن تسميته بـ “دولة الأمنيين”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *