منوعات، وجهة نظر

أمهال يكتب: افتحوا النقاش داخل حزب العدالة والتنمية

خلال سنة كاملة، مر حزب العدالة والتنمية بتجربة صادمة لم يستطع عقله السياسي والمؤسسي أن يستوعبها إلى الآن. فبقدر ما كشفت عن طبيعة العملية السياسية وسلوك أطرافها على مستوى البلد، بيّنت محدودية قدرة الحزب على التفاعل مع هذه الظروف الموضوعية، وتدبيرها بما يخدم مشروعه الإصلاحي.

تتجلى أهم ملامح العجز في النظر والممارسة السياسيين في الانتقال المفاجئ والصادم من حالة الممانعة والمقاومة التي سادت خلال الولاية الحكومية الأولى، والتي تضمنت كثيرا من الرسائل الدالة على عدم تحمل النظام السياسي التقليدي بكل ما يعنيه من مصالح وتوازنات للفاعل الجديد الذي بدأ يربك قواعد اللعبة من داخل المشروعية.

وقد بدأ هذا التضايق والرغبة في التخلص من هذا العنصر المزعج الذي دخل إلى دائرة الحكم محمولا على موجة الحركات الاحتجاجية، ومستفيدا من نص دستوري جديد يشتد خصوصا بعد النجاح الانتخابي الكبير سنة 2015، والذي تولى فيه الحزب تسيير غالبية المدن دون أن يتسائلأو يستشعر عقله السياسي مدى تحمل النظام السياسي بالمغرب لخطوة مثل هذه، فأقدم على دفع الآلاف من أعضائه لتغطية تكاد تكون شاملة لكل الدوائر، وبعد هذا النجاح توالت الرسائل من مركز السلطة تنبه إلى أفق المواجهة.

وجاءت على شكل قرارات متوالية بمنع الأنشطة التواصلية لرموز الحزب، وعرقلة برامج ومشاريع البلديات والجماعات، ووصل إلى حد تجميد هذه البرامج لمدة نصف سنة قبل موعد الانتخابات. ولم يتوقف مستوى بعث الرسائل السلبية عند حدود رجال السلطة والإدارة بل صدرت من أعلى هرم الدولة في الخطابات الملكية وبلاغات الديوان. ورغم ذلك خاض الحزب الانتخابات التشريعية واثقا من حظوظه ومطمئنا إلى سلامة اختياراته، وقام بأكبر تغطية للدوائر الانتخابية النيابية.

وانهالت الرسائل من جديد؛ وبشكل أكثر وضوحا هذه المرة، في مسيرة ولد زروال. ومحاولات السلطة التأثير على الناخبين، وتوظيف تحالف عريض من الخصوم السياسيين ووسائل الاعلام لتشويه صوة الحزب والتخويف منه، وكانت المحاولة الأخيرة هي ظهور نوايا للتلاعب بالنتائج تصدى لها الأمين العام، باستباق إعلان النتائج الرسمية ببلاغ الحزب المعروف عشية يوم 7 اكتوبر.

بعد هذا الشوط من الصراع الذي كان يستهدف التحكم في نتائج الاقتراع تحولت الاستراتيجية إلى إفراغ النتائج المحصلة من مضمونها بواسطة استخدام الأحزاب في لعبة التحالفات، فظهر ما سمي بمرحلة البلوكاج التي يعرف الجميع تفاصيلها،ولكن قيادة الحزب استمرت في نفس الخط الذي يتمثل في مقاومة الضغوط، وتقوية الصف الداخلي، والإبقاء على مستوى جيد من التواصل مع جمهور الناخبين، وكشف التلاعبات والمناورات، ولم يكن بنكيران وحده في هذه المعركة، وإن كان هو رمزها،بل انخرطت فيها كل المؤسسات الحزبية،ورافقتها حملة تواصلية إعلامية عبر فيها كل المسؤولين عن انخراطهم في هذه الخطوات، وخلال كل هذه المراحل لم نسمع ولو صوتا واحدا ينتقد أو يتحفظ.

لم يكن المقصود مما سبق سرد أحداث يعرفها الجميع، بل توضيح حدة الانقلاب في التصورات والمواقف والتحليلات مباشرة بعد إعفاء رئيس الحكومة المكلف، فبعد مدة قليلة من ذهول الصدمة، التي اشتدت ليس بعد تعيين رئيس جديد للحكومة، ولكن بعد التنازلات والإحباطات التي رافقت تشكيل هذه الحكومة، واستمرت خلال أدائها إلى الآن، ارتفعت أصوات التنظير للمرحلة الجديدة، متوسلة أحيانا بالتبرير الديني أو شرعية المؤسسات، أوالسياق الموضوعي، أو الاعتبارات الفكرية والأخلاقية، دون أن يكلف أحد نفسه تحمل المسؤولية عن تقلبات المسار خلال كل هذه المراحل، وعلاقة الأداء السياسي السابق بالنتائج الحالية، وحدود المسؤولية السياسية والأخلاقية في قيادة مرحلة، ثم إدانتها والانقلاب عليها مع الاستمرار في تحمل أدوار التدبير، وكأن شيئا لم يقع.

وبدل أن يتجه النظر إلى مراجعة الرؤية السياسية التي تنتج المواقف الظرفية، تحول الأمر إلى نوع من تصريف الأزمة بآليات مختلفة فيها كل شيء، ما عدا الحوار حول القضايا الأساسية التي يقال إنها تُركت للمؤتمر الوطني، وهو الذي يفترض أن يكون محطة تنظيمية نهائية لصياغة مخرجات حوار عريض سابق في كل المستويات الحزبية، وليس مجرد لقاء عابر لشرعنة الأوضاع الحالية، وتأجيل الخلافات أو تجميدها.

بعد السخط العارم الذي عبّر عنه مناضلو الحزب وعموم المواطنين، توالت رسائل التبرير والطمأنة من رموز وقيادات الحزب التي تدافع عن الاختيارات الحالية بأشكال مختلفة، فمنهم من لجأ إلى بعض المواقف الدينية التاريخية مثل تشبيه الوضع بصلح الحديبية كنموذج للتنازل تحت الاضطرار، وشبّه بعضهم إعفاء الأمين العام بحادثة إعفاء الخليفة عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد (المندفع)، وتعيين أبي عبيدة بن الجراح (الحكيم).

إلى جانب التبرير الديني، كان البعض يقدم مبررات للإقناع السياسي مثل تصريح سعد الدين العثماني بأن الحكومة الحالية تعبر عن الإرادة الشعبية أو قول مصطفى الرميد بأن هذه الحكومة أقوى حكومة في تاريخ المغرب، وبدأ بعض الرموز يستدلون بأقوال محمد جبرون التي أصبحت تناسب مواقفهم، بعدما كان قد تعرض لهجوم لاذع من طرف بعضهم أيام اعتراضه على تدبير الحزب للعلاقة مع الدولة.

من الغريب أن يتم استخدام رمزية الأمين العام بصورتين متناقضتين: فهو قدوة في التنازلات ومرونة التعامل مع مراكز القرار، ولكنه في الوقت نفسه رمز للصدام مع الدولة، وعنوان للتهور والاندفاع غير المحسوب

وامتد النقاش أيضا إلى شرعية القرارات المتخذة، فطفت إلى السطح خلافات حول الرواية الحقيقية لوقائع التفاوض، ومحطات تشكيل الحكومة، وانعقاد الهيئات، والاتفاق على القرارات، وانتهى إلى اتفاق على الصمت عن هذا الموضوع إلى وقت لاحق لا أحد يعلمه. وبعد أن أبدى الأمين العام بعض الممانعة في إضفاء الشرعية على الوضع الجديد أصبح هو نفسه موضوعا لنقاش ممتد، فتستدعى رمزيته أحيانا للتأكيد على أنه راعي المرحلة، وضامنها بدليل سكوته أو مباركته للقرارات المتخذة ومشاركته في الهيئات المقررة، وذلك لنزع الشرعية عن الذين يستعملون رمزية الزعيم للتعبيرعن معارضة تشكيل الحكومة بتلك الطريقة.

وحينما يعبر الأمين العام بما يفيد تحفظه على بعض الاختيارات يتوجه إليه النقد، بدعوى أنه هو نفسه قدم تنازلات كثيرة خلال ولايته، وليس لديه الحق إذن في التحفظ على مزيد من التنازلات. ومن الغريب أن يتم استخدام رمزية الأمين العام بصورتين متناقضتين: فهو قدوة في التنازلات ومرونة التعامل مع مراكز القرار، ولكنه في الوقت نفسه رمز للصدام مع الدولة، وعنوان للتهور والاندفاع غير المحسوب.

لم تستطع كل محاولات التبرير والشرعنة تلك أن توقف الغضب المتزايد بسبب صدمة الرأي العام من الالتفاف على نتائج الانتخابات، إذ استمر التفاعل في وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت متنفسا بعد تجميد القنوات التنظيمية، فتحول الخلاف إلى محاولة نزع الشرعية عن الخطابات المعارضة التي تكسب مواقع جديدة كل يوم مع استمرار الأداء الحكومي، وتوالي الخيبات الحقوقية والاجتماعية،وتبخيس الفاعلين السياسيين واستمرار نهج صناعة الخرائط ونحت الزعامات.

وهنا بدأ التوسل بخطاب ضبطي تنظيمي يهم المساطر والقوانين الداخلية، وتجريمالدعاية المسبقةـ وتسريب مداولات المجالس مصحوبا بمبررات فكرية وأخلاقية عن عدم خلود الزعامات والتعلق بالأشخاص، وضرورة احترام المؤسسات والمنهج. ولكن الأطراف التي تحرص على تجريم النقاش في هذه المواضيع لا تتوانى هي نفسها في استغلال كل الفرص بالتصريح أو التلميح بمواقف تدعم توجهاتها، ولا تنتظر الحسم في المؤسسات، مثل جواب عزيز الرباح عن إمكانية التجديد للأمين العام الحالي بقوله “نحن لا نعبد الأصنام”، أو تدوينة محمد يتيم الذي نقل نصا لفهد النفيسي كله رسائل مبطنة عن الحاجة إلى قيادات فكرية، وليس إلى خطباء وضرورة مراعاة التوازنات الظرفية، والبحث عن توافقات مع مراكز القرار بدل الارتكان إلى إرادة المحكومين، أو تصريحه بأن بنكيران ليس رسول الله.

ولم تحظ كل هذه الاحترازات بالاحترام المفترض من المناضلين نظرا لاختلال التوازن بين أطراف اتخذت مواقف معينة نظرا لاعتبارات بدت لها موضوعية، وتريد تطبيعها في المزاج السياسي العام الذي لم يتخلص بعد من حماس مقاومة البلوكاج ثم من صدمة التراجع،وبين أطراف لم تستسغ التوجهات الحالية، كما لم تجد فرصة للتشاور أو الاعتراض، وهي مع ذلك مطالبة بالدفاع عنها وإقناع الناس بها.

ومع اقتراب موعد المؤتمر الوطني الذي أجلت كل القضايا في انتظاره، تسود تخوفات كثيرة رغم حرص القياديين على إطلاق شعارات موجهة إلى الخارج والداخل من قبيل “سيخيب ظن الذين يراهنون على الانقسام، وسنحافظ على وحدة الحزب رغم كل شيء”. جميلة هي هذه الكلمات والنوايا لو كانت مصحوبة بالتدابير الفعلية التي تمتص الصدمات، وتصرف الخلافات وتوازن بين الإكراهات والمكاسب، ولكن الواقع أن الحوار القاعدي المفترض تحول دونه عوائق، والقول باستمرار بأن النقاش يجب أن يترك للمؤسسات، يستبطن تصورا ميكانيكيا للمؤسسات، وكأنها الات جامدة تفكر وفق عمليات حسابية أو منطقية، وهي ليست بالفعل سوى أشكالا من التجمع البشري تتوقف مخرجاته على مدخلاته، فالقرارات هي مجرد صورة معبرة عن ثقافة الأفراد المكونين للمؤسسة، وطبيعة العلاقات السائدة فيما بينهم، بل وموازين القوى بين الأطراف المشكلة لها، ودرجة التوافق أو الصراع بين عناصرها،ولن تحل المؤسسات مشكلة عجز الأفراد عن التفكير والتعبير،إذا لم تتح فرص أوسع خارجها، ويتم التهيء لاستحقاقاتها بما يناسب تحديات المرحلة.

كان للأمين العام ورئيس الحكومة السابق فضل في تسييس قواعد الحزب بعدما كانت متأثرة بمناخ التنشئة الدعوية التي درجت عليها،وامتد هذا التسييسإلى القواعد الشعبية التي أصبحت تراقب وتتبع وتفهم الاختيارات الأساسية في التدبير الحكومي، وطبيعة العوائق التي تعترضه، وتتمثل القيم الناظمة للفعل السياسي وغاياته.ورغم أهمية هذه البداية المجهضة، فإنها لم تصل إلى ترسيخ ثقافة سياسية قاعدية، تستطيع تجسيد الإشراك الفعلي للأعضاء، وتعطي دلالة للديمقراطية الداخلية بصعود القرار وإنضاجه من المستويات العريضة إلى قيادة الحزب،وبدأت ترتد هذه القناعات، وتعوض بشعار غريب هو “الإنصات والإنجاز” ليتحول المناضلون إلى مجرد ظل للحكومة، وتتحول الحكومة بدورها إلى مجرد فريق تقني ينفذ سياسات مركز القرار.

لنتأمل محدودية المراهنة على المؤتمر المقبل من خلال مؤشرات آنية نتمنى ألا تستمر دون تدارك:

– تمت محاصرة النقاش السياسي داخل الحزب بمبررات واهية سبقت الإشارة إلى بعضها، وكأن المؤتمر مجرد محطة تنظيمية لانتخاب المسؤولين، وتكوين الهيئات كما جرت العادة دائما. والواقع أن هذا المؤتمر ينبغي أن يكون سياسيا بالدرجة الأولى،لأن الحزب قد خرج من عباءته التنظيمية والتحم بالمواطنين متحملا آمالهم وانتظاراتهم. ولا يحق النظر إلى ذاته منفصلا عن تعهداته، لأن حجمه السياسي الذي يجعله محل تفاوض ناتج عن تفويض شعبي.

– لم يعد حاليا لانتخاب المندوبين أي معنى تمثيلي للآراء السياسية، وإنما هو عملية روتينية إجرائية لتحديد من سيسافر نيابة عن الآخرين، وليست مسلكا للتمثيل الديمقراطي للقواعد.

– تحولت أغلب النخب المحلية إما إلى مدبرين في الجماعات أو مسؤولين تنظيمين أو هما معا، بكل ما يعني ذلك من انشغال تام عن السياسة واهتمامتها، وتحولت أولوياتهم نحو المحافظة على ما هو موجود، وعدم الجرأة على اقتراح أية فكرة تخل في نظرهم بالتوازنات القائمة أو بمكتسبات التسيير المحلي، ولو بالتضحية بالسياسة المركزية التي أصبحت تبدو لهم ثانوية.

– بسبب غياب النقاش السياسي تتخلل عملية انتخاب المندوبين أحيانا تجاوزات مخلة بعضها يعود إلى ثقافة سائدة من قبل، إذ يمكن أن ينتخب أي شخص لمجرد أنه افتتح المجلس بتلاوة القرءان أو أمَّ الناس في الصلاة أو ألقى كلمة مؤثرة، أو بصفته مسؤولا تنظيميا أو مستشارا منتخبا، وهناك وقائع انتخاب مندوبين للمؤتمر من بين الأعضاء الملتحقين حديثا بالحزب بصفتهم مستشارين جماعيين، يحصلون على العضوية بشكل آلي وبعضهم نتاج لعملية ملأ الفراغ، وتعبئة اللوائح بالأسماء في إطار التغطية غير المحسوبة لكل الدوائر الانتخابية، وهذا لن يسهم في إثراء النقاش بحكم محدودية الفهم والاطلاع.

– وبسبب غياب النقاش السياسي الذي كان سيفرز آراء واختيارات، تحولت بعض الجموع العامة إلى مجال لتصريف الصراعات المحلية بين أجنحة متنافسة لأسباب لا علاقة لها بالقضايا المركزية للحزب، وإنما كانت فرصة لتسجيل النقاط على هذا الطرف أو ذاك، مما يعني أن عملية الانتداب لن تعبر عن تمثيلية للمؤتمر، وإنما تحكمها الولاءات والإصطفافات.

– كان يمكن أن تكون الجموع المحلية فرصة لمناقشة مشاريع وأفكار وصياغة أوراق ومقترحات، وكأن يمكن أن تكون عملية التغذية الراجعة في مدة زمنية كافية، تسهم فيه القاعدة كما القيادة في رسم خطوط المستقبل، بدل أن يتم تعيين لجان مركزية سوف تشتغل بهواجس الضغط الزمني، وتقدم أوراقا جاهزة لا وقت ولا مجال للنظر فيها، وقد تكون مثل سابقاتها مجرد أرشيف وذاكرة أدبية، بينما يتم تدبير الممارسة السياسية بدون موجه نظري سوى التلاؤم مع الوضعيات والتكيف مع الضغوط.

أي حزب سياسي تسري عليه سنن التاريخ والاجتماع، وإذا كانت التجمعات النفعية تقوم على قدر من الانضباط القسري، فذلك لأن له مقابلا ماديا يكافئه ومنفعة متعينة لكل فرد لا تتوقف ضرورة على فهمه أو رضاه مثل ما هو الأمر في الإدارات والشركات، أما التجمعات الطوعية فلا رابط بينها سوى الفكرة التي تجعل الأفراد يضحون راضين، والقيم التي تعطي معنى لاجتماعهم وتعاونهم. فإذا اختلت هذه الشروط، وانكسرت تلك المعاني في النفوس، فالهزيمة مسألة وقت فقط ولا ينفع فيها التبرير ولا الضبط والتحكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *