منوعات

مستعد يكتب.. فدوى طوقان “سيرة جبلية سيرة صعبة” 

فلسطين في أعين شاعرة: “المهم هو ألا ننهزم ونلقي السلاح”

تاريخها ونضالاتها من خلال أعين “أم الشعر الفلسطيني” كما كان يسميها محمود درويش. هذا ما تقدمه شاعرة فلسطين الكبيرة فدوى طوقان (1917 – 2003) في سيرة ذاتية بسيكولوجية أساسا مطبوعة حتى النخاع بتاريخ معاناة الشعب الفلسطيني مع الإحتلال البريطاني ثم الإسرائيلي. سيرة بلغة عربية عالية الصفاء والإنسياب، بذلك الأسلوب وتلك العربية التي يبدعها الفلسطينيون ربما أكثر من غيرهم من الكتاب العرب.

“رحلة جبلية. رحلة صعبة” هو عنوان السيرة التي أصدرتها مجلة الدوحة في قطر. وهي تحكي كيف عاشت الشاعرة طفولة صعبة في مدينة نابلس بسبب تربية محافظة وصارمة وخاصة من قبل أبيها التي تتحدث عن علاقتها به بصراحة وشفافية كبيرتين. وهي جرأة على التحليل النفسي الذاتي تطبع الكتاب بكامله.

وهكذا تقول فدوى طوقان إنها عاشت “فجوة نفسية” مع أبيها الذي كان جافا لا يعبر عن أحاسيس الأبوة وحنانها رغم أنه كان رجلا متعلما وأحد رجالات مقاومة الإنتداب البريطاني. وكان الوضع الإجتماعي العام في فلسطين محافظا في بدايات القرن الماضي بالنسبة للمرأة الفلسطينية التي كانت لا تخرج من بيتها سوى مرة أو مرتين في الشهر. ونتيجة هذه التربية الصارمة سيتم منع فدوى من الذهاب إلى المدرسة وإرغامها على البقاء في البيت وهي في سن 13. والسبب في ذلك هو أن طفلا في سنها التقاها في الشارع وأعطاها وردة كعربون على حبه لها. وقد شكل قرار الحصار في البيت صدمة قوية بالنسبة إليها لأن المدرسة كانت بالنسبة لها هي “فرصة لإثبات الوجود”.

منقذها من هذا الحصار سيكون هو أخوها الأكبر الشاعر المعروف ابراهيم طوقان الذي ساعدها على تعلم الشعر والدراسة في البيت. ثم سينقلها لتعيش معه مؤقتا في مدينة القدس حيث كان يعمل مديرا للقسم العربي في إذاعة فلسطين خلال الإحتلال البريطاني. فاشتغلت معه وبفضله بدأت تكتب الشعر. لكن وفي غمرة الكفاح ضد البريطانيين، ستتم إقالة أخيها من الإذاعة بتهمة معاداة السامية واليهود بسبب تصديه لمشروع إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين. وهكذا ستكون الشاعرة الشابة شاهدة على تفعيل الإعلان الشهير للوزير البريطاني بلفور عن تقسيم فلسطين وإقامة دولة لليهود. كما عاشت وعانت من ممارسات الإنجليز وهم يخرجونها هي وأفراد عائلتها من ديارهم لتفتيشها بحثا عن المقاومين فكانوا يتركونهم يبيتون في الشارع. وبعد أن تعود إلى البيت كانت فدوى تجد أن أشياء عزيزة عليها قد تكسرت بفعل حملات التفتيش ومنها أول قلم أهداه إياها أخوها إبراهيم لتكتب به الشعر.

بعد طرده من العمل، هاجر ابراهيم إلى العراق لكنه مرض هناك وهو ما تسبب في وفاته في 1941. وبعد وفاة أخيها، صار أبوها يطلب منها أن تكتب قصائد سياسية للمقاومة لكنها كانت غير مستعدة لذلك لأنها كانت تعتبر السياسة شأنا بعيدا عن اهتماماتها الرومانسية أساسا (تأثرت بشعراء مثل أبو تمام – البحتري – ابن الرومي ) ولهذا كتبت ترد على أبيها بحجة قوية: “لم أكن متحررة اجتماعيا فكيف أستطيع أن أكافح بقلمي من أجل التحرر السياسي أو العقائدي أو الوطني”. وقد أدت التربية المحافظة لفدوى طوقان إلى تشكل نفسية خاصة فهي تتحدث عما تسميه بعد أن كبرت “حبي للناس وخوفي منهم”.

ولهذا لن تستطع أن تكتب في السياسة والكفاح من أجل الإستقلال سوى بعد النكبة وقيام دولة إسرائيل في 1948 وتهجير الفلسطينيين ووفاة أبيها في نفس السنة. ومن بين الأفكار السياسية النادرة التي تبلورها الكاتبة في سيرتها قولها إنها كانت تعارض قبول فكرة تقسيم فلسطين وإنشاء دولة فلسطينية التي تبناها الحزب الشيوعي الفسطيني لأن الموقف الفلسطيني العام آنذاك كان يعتبر “الموافقة على قرار التقسيم هو بمثابة خيانة للوطن والشعب”. لكن الكتاب لا يكشف مثلا كيف تطورت مواقفها السياسية من هذه القضية لاحقا مع مختلف المحطات التاريخية ومنها اتفاقية أوسلو في 1993 التي اعترفت عمليا بتقسيم فلسطين إلى دولتين. فرغم أن السياسة حاضرة في حياة الشاعرة لكننا لا نجد سوى القليل منها. كما لا نقرأ مثلا سوى إشارات إلى بعض القادة السياسيين والمقاومين مثل عز الدين القسام…

سيرة فدوى طوقان هي بالأساس بمثابة رسالة إلى المرأة العربية. هي رسالة ذات نفحة ليبرالية يسارية تدعو إلى رفع الظلم عن المرأة. وهي تلخص هذه الرسالة بقولها: “ظل مجتمعنا العربي الشرقي يظلم عاطفة الحب مثل ظلم المرأة باستمرار. وبقيت هذه العاطفة الإنسانية الجميلة التي لمست بكفها السحرية حتى قلوب الأنبياء، هذه العاطفة الإنسانية الجميلة ظلت في مجتمعنا العربي المصاب بانفصام الشخصية معنى محملا بالفضيحة والعار”. ويقول الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر عن الكتاب : “لعل هذه السيرة تُعد من أجمل كتب البوح والاعتراف التي نُشرت على الناس في العقدين الأخيرين، ولا ينافسها في ذلك إلا «الخبز الحافي» لمحمد شكري و«خارج المكان» لإدوارد سعيد”.

توقفت السيرة عند العام 1962 وهو التاريخ الذي ستقرر فيه الكاتبة الهجرة إلى بريطانيا لتحقيق حلم كان يراودها. بحيث كان السفر والبحث عن “قلب الحضارة” وعن “آفاق جديدة” هو المخرج مما تسميه الأزمة، ومن العزلة التي كانت تحسها في المجتمع والتي تبين لها أنها لم تعد مفروضة عليها بعد أن كبرت وإنما كانت ثمرة التربية التي تلقتها أساسا. وكانت قد تعلمت الإنجليزية وانفتحت على الثقافة والأدب الغربي وعلى بروست والرواية الفرنسية.

لا يقدم الكتاب تفاصيل كثيرة عن حياتها الخاصة ولا عن حياتها العامة. وهي تعترف بذلك قائلة: “لم أفتح خزانة حياتي كلها. فليس من الضروري أن ننبش في كل الخصوصيات”. وتكشف فقط بشكل غير مباشر مثلا أنها أحبت عدة مرات، وأنه ليس على الإنسان أن يحب مرة واحدة في حياته. في “رحلة صعبة” تتوسل فدوى طوقان بسيرة كفاحها الذاتي والوطني لتقديم رسائل كثيرة وغنية وخاصة للمرأة. فهدفها من هذا المؤلف هو “إلقاء خيط من الشعاع لينعكس أمام السائرين في الدروب الصعبة” للحياة. وتضيف: “لا ضير علينا أن نخسر المعركة. فالمهم هو ألا ننهزم ونلقي السلاح”. وقد أصدرت جزءا ثانيا من سيرتها بعنوان له دلالته: “الرحلة الأصعب” في 1993 ستكون لنا عودة إليه.

• ملحوظة: “رحلة جبلية. رحلة صعبة” من إصدارات مجلة الدوحة في قطر. شتنبر 2017. كما يمكن تحميل نسخته عبر الأنترنيت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *