وجهة نظر

جدل العقوبات التأديبية والدفاع عن آخر ما تبقى من المدرسة العمومية

في كل مرة يثار فيها نقاش العقوبات التأديبية في المدرسة المغربية الا و ينقسم المجتمع المغربي و معه الفاعلون التربويون و من جميع الاتجاهات و الأيديولوجيات الى تيارين متباينين: تيار يعتبر العقوبات التأديبية حلا زجريا و ليس تربويا اقرب منه من النيابة العامة الى المدرسة، و تيارا اخر يعتبرها ضرورة و أداة و ليس غاية في حد ذاتها و هدفها و مخرجاتها هو الحفاظ على أدوار المدرسة و على طابعها التربوي بالخصوص.

مثل هذه المواضيع و الاختلاف الحاصل فيها لا يمكن بتاتا مناقشته من خلال حلال او حرام او من خلال الجنة و النار كما لا يمكن كذلك أن يكون موضوع مزايدات و تجاذبات، و الحكم عليه بالإيجاب و السلب لن يكون الا من خلال رصد و مقارنة اثاره الايجابية و السلبية على الفرد و المجتمع و على التلميذ و على المدرسة سيان؟ و لن يكون ذلك دقيقا الا عبر فتح بحث اكاديمي علمي رصين و خصوصا ان الموضوع له علاقة بمستقبل بلد.

نظريا لا يختلف هاذان التياران حول حادثة قبلة مكناس في احدى الثانويات مؤخرا من حيث توصيف هذا السلوك على انه سلوك غير سوي قد يكون وراءه عدة مشاكل نفسية و اضطرابات في الشخصية و عوامل اجتماعية كالحرمان العاطفي او الحرمان من الدفيء الاسري و غيرها من الأمور الكثيرة، و لا يختلفان كذلك فيما قد يخلفه هذا الانحلال القيمي خصوصا اذا استشرى في أوساط التلاميذ و تم التطبيع معه من نتائج وخيمة على مستقبل الفتيات خصوصا، ليس على مستقبلهن الدراسي فقط بل على حياتهن بأكملها، و لا يختلفان كذلك أن الخاسر الأكبر آنذاك لن يكون الا هذا المجتمع بأكمله من خلال تنامي ظواهر التفسخ الأخلاقي و القيمي و تنامي ظواهر أطفال الشوارع و الفتيات العازبات و دعارة التلميذات و الأمهات المتخلي عنهم و غيرها من الكوارث و الماسي التي بدأت تنخر جسد المجتمع المغربي و التي لا تخلو أي مؤسسة تعليمية تقريبا من قصص مشابهة كانت احدى التلميذات ضحية لهذا المسار المأساوي.

انما يكمن الاختلاف الجوهري بين التيارين في طريقة العلاج حيث يبرر التيار الأول موقفه بكون استعمال التوقيف النهائي او الطرد من المؤسسة مثلا معناه القضاء على المستقبل التلميذ الدراسي و دفعه نحو المجهول بذل محاولة احتواء المشكل و التعامل مع الموقف بليونة اكبر و اتخاذ عقوبات بديلة كإنجاز اشغال البستنة و النظافة او انجاز اشغال بالمكتبة المدرسية بعد طلب الوزارة عدم استخدام التوقيف المؤقت في مذكرتها الوزارية الأخيرة في 17 اكتوبر 2014 ( 14/867 ).

أما التيار الثاني فيرى أن دور المدرسة أكبر بكثير من قضية تلقين دروس و شهادات بل هي مكان للتنشئة الاجتماعية و هي مكان لاكتساب قيم و مبادئ تساعد الفرد على التكيف مع الحياة و مجابهة صعابها و هي مكان ليتعلم فيه التلاميذ معنى الاستقلالية و معنى الاعتماد على النفس و معنى تحمل مسؤولية الافعال و كما قال الدكتور و عالم النفس روبيرت انتوني في كتابه الشهير الثقة التامة بالنفس “ان ما يهدد المجتمع الأمريكي حاليا الأمور المادية بل هي تلك الحماية المفرطة للأطفال من طرف اباءهم و الذي لن يجعل الامر الا أكثر صعوبة عندما يكون محتم عليهم مواجهة عالم الكبار” .

كما يرى هذا التيار كذلك ان العقوبات التأديبية، والتي لا تخلوا منها أي منظومة تربوية، ما هي الا وسيلة وليست غاية في حد ذاتها وهي استثناء و ليست الأصل و تستعمل فقط عندما تعجز المدرسة عن معالجة الوضع عبر استنفاذ الحلول التربوية و عجزها عن الحد من تداعياته. وهي ككل القرارات المؤسساتية لها وقع لحظي و لها وقع على المدى البعيد، فيها رسالة لمقترف الخطأ ورسالة للأغيار و لأقرانه بعدم تكرار نفس الخطأ. كما يعتبر هذا التيار كذلك أن السلوكات الغير السوية والخطيرة وخصوصا التي يمكنها ان تعيق او أن تؤثر بشكل كبير على مردودية التحصيل الدراسي، يجب التعامل معها بحزم و حكمة في نفس الوقت، فهي مثل الوباء او السرطان، فعندما تصل الى حدود يستحيل معها العلاج الفردي يبقى الحل أحيانا عزل الفرد او بثر العضو و حماية الأغلبية الى حين.

للأسف فعلى مستوى المنظومة التربوية المغربية و عكس التعليم العالي الذي تم فيه التنصيص على جميع العقوبات التأديبية في مرسوم واضح ( المرسوم 2.06.619 الصادر في 28 اكتوبر2008 )، بقيت العقوبات التأديبية في التعليم الابتدائي و الثانوي مبهمة و غير منصص عليها بوضوح في اي مشروع حيث أنيطت
عملية اقتراح القرارات التأديبية ازاء التلاميذ الغير المنضبطين لمجالس الأقسام وذلك وفق قرارات يجب أن يكون منصوصا عليها في النظام الداخلي للمؤسســـة ( المادة 29 من المرسوم 2.02.376 الصادر بتاريخ 17يوليو 2002 من النظام الاساسي الخاص بمؤسسات التربية و التعليم العمومي ) و التي كانت تتأرجح بين الإنذار و التوبيخ و التوقيف المؤقت و التوقيف النهائي من الدارسة بالمؤسسة و ليس الفصل من الدراسة و الذي لا يكون الا باستيفاء سنوات التمدرس، الى ان جاءت المذكرة الوزارية رقم 14/867 و التي طالبت بتعويض التوقيف المؤقت عن الدراسة بالعقوبات البديلة فقط و لم تلغي باقي العقوبات الاخرى.

وإذا رجعنا الى واقعة مكناس والى الطريقة الكارثية التي تعاملت معها المديرية الإقليمية والتي قامت بإلغاء قرار مجلس القسم الأول عبر بلاغ صحفي حيث طالبت فيه بإرجاع التلميذان فورا و تغيير قرار المجلس الى احدى العقوبات البديلة.

فنجد انها من الناحية القانونية وحسب علمي المتواضع، فلا يحق لها ذلك وان المخول له الغاء قرارات مجلس القسم فهو اما المحكمة الإدارية (القضاء الاستعجالي) او مجلس القسم نفسه. أما فيما يخص مطالبة مجلس القسم الانعقاد مرة أخرى و اصدار احدى العقوبات البديلة وفقط، فهو كذلك مخالف لمنطوق المذكرة 14/867 والتي طالبت فيه الوزارة بشكل صريح تعويض التوقيف المؤقت بالعقوبات البديلة و لم تمسس باقي العقوبات الأخرى مما يعني انه باقي العقوبات ما تزال سارية المفعول. وبالرجوع الى هذه المذكرة العبثية والتي لقيت العديد من الانتقادات من طرف عدد كبير من الفاعلين التربويين فور صدورها فيكفي ان نذكر بعض الانتقادات الموجهة اليها ك:

– ان الغاء التوقيف المؤقت من الدراسة قد يدفع المجالس التأديبية الى اللجوء الى اتخاذ العقوبة القصوى أي الطرد من المؤسسة بعدما طالبت الوزارة بعدم اللجوء لعقوبة التوقيف المؤقت و الذي كانت تتخذه اغلب المجالس التأديبية فقط مراعاة لليونة القرار و لظروف التلميذ في حين أن العقوبة المقابلة لمخالفته كانت تستوجب الطرد من المؤسسة؟

– كذلك فهذه المذكرة لم تشر ما العمل في حالة اذا تم رفض هذه العقوبات من قبل التلميذ أو ولي أمره؟ وكيف ستتصرف المؤسسة آنذاك وأي عقوبة ستتخذ بعد ذلك؟

– كما لم تشر الى من سيتحمل المسؤولية المدنية للتلميذ المعاقب اثناء انجاز للعقوبة البديلة أهو الحارس العام ام المدير ام ام ام ؟ و هل سنرهن احد الأطر الإدارية لمراقبة ذلك التلميذ أسبوعا مثلا لتطبيق تلك العقوبة مع ما تعرفه المنظومة التربوية من خصاص مهول في الاطر الادارية؟ او او او

– ألن تتسبب هذه العقوبات ان تم فهمها من طرف التلميذ انها اهانة وحكرة موجهة في حقه آثارا نفسية وخيمة أكثر مما تسببه العقوبات التأديبية العادية.
أما من ناحية وقع القرار على المدى البعيد فقرار المديرية الإقليمية ما هو الا ضرب و تسفيه للمدرسة العمومية و ادوارها و تحطيم لما تبقى من أنفتها و من أنفة التعليم العمومي و انفة قراراته و لمجالسه ، فبذل ان نعمل على بعث رسائل إيجابية مفادها ان هذه السلوكات غير مقبولة و لن تساعد لا على تحصيل دراسي جيد و لا على بناء افراد قادرين على مجابهة الصعاب، و بذل ان نبحث عن حل تربوي يساعد هاذين التلميذين على استكمال دراستهما و حقهما في التعلم بثانويات أخرى و نساعدهما على الاندماج من جديد في جو بعيد من القيل و القال، قمنا و عن غير وعي ببعث رسائل سلبية و خطيرة في كل الاتجاهات، مفادها ان كل شيئ اصبح الان مباحا في المؤسسات التعليمية العمومية، فعنفوا الأساتذة او اشنقوا الاستاذات و اشربوا الخمور في الاقسام و دخنوا المار جوانة الدرجات و الحشيش في الساحات و انجبوا الأولاد في القاعات و في الساحات و في المختبرات فلا احد يمكنه ان يزعزعكم من اماكنكم فحقكم في التعليم حق دستوري و مضمون، فنحن في مؤسسة تربوية و لسنا في نيابة عامة فهللوا و امرحوا مع أنفسكم و استغلوا وقتكم ففي الأخير فأعلى ما يمكن ان تتخذه هذه المؤسسات الذليلة و البئيسة هو ان تصدر قرارا تطلب فيه من سيادتكم مساعدة المؤسسة لبضعة ساعات في تنظيف مرافقها مشكورين مسبقا او حفر بعض الحفر لغرس بعض الشجيرات و الورود تخليدا لأسماءكم و لأعمالكم الجليلة بهذه المؤسسة و ذلك بعد فقعكم لعين أستاذ اللغة الفرنسية و تكسير اسنان أستاذ الرياضيات و ركل الحارس العام و رفس السيد المدير وتخريب مرافق المؤسسة، فالمهم عندنا هو ان تقوموا بترديد النشيد الوطني صبيحة اول يوم من كل أسبوع فحذار ان تغيبوا عنه، فتلك هي المواطنة الحقة و ذلك هو المواطن الصالح الذي نبتغي.

نعم للتفكير بحكمة وروية ونعم للبحث عن الحلول التربوية لفائدة تلامذتنا ولفلذات اكبادنا، نعم لمساعدتهم على شق طريقهم نحو بناء مستقبلهم ومساعدتهم على الاندماج السلس في الحياة، نعم لتأطيرهم ومدهم بالاستشارات النفسية والتوجيهات والارشادات، لكن ارجوكم ليس على حساب هيبة المدرسة و كرامة الأستاذ فليس كل من يأتي الى المدرسة يستحق صفة تلميذ و ليس كل من ولج المدرسة يستحق حلولا تربوية، فهناك من لا حل له للأسف الا السجون او مستشفيات الامراض العقلية، و يجب ان نعترف و ان نقر انه لا يمكن للمدرسة ان تعالج جميع حالات سوء السلوك و جميع حالات اضطرابات الشخصية و جميع حالات الامراض العقلية و النفسية. و لعل لنا في حادثة الاعتداء الشنيع على أستاذ ورززات خير واعض و خير رد على بلاغ المديرية الإقليمية لمكناس، أستاذ أفنى زهرة شبابه في تعليم و تربية الأجيال فيأتي مجرم في صفة تلميذ يشبعه ركلا و رفسا امام تلاميذه و يمسح به الارض، و يأتي البعض من بني جلدتنا من اسرة التعليم يتبجح و ينظر لا للحلول الزجرية فنحن في مؤسسات تربوية و لسنا في نيابات عامة، فأينهم الآن ليفتوا و لينظروا لنا و يفسروا لنا كيف يمكن للعقوبات البديلة ان تعالج المشكلة، و بأي وجه سنطلب من هذا الأستاذ مثلا بعد دوس و طحن كرامته بالتضحية و نكران الذات و الرفع من مردودية عمله، فقبل ان نتساءل عن المردودية حري بنا ان نتساءل أولا ماذا فعلنا لتوفير الحد الأدنى من ظروف العمل العادية.

*جمال هبوز مستشار في التوجيه التربوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *