وجهة نظر

حادث ورزازات من زاويا متعددة

لم يحظ اعتداء من قبل بهذه الهالة من الجدل مثل ما حظي به حادث اعتداء ورزازات، فإنه لئن كان المشهد مألوفا في ذاكرة جل من مروا في المؤسسات التعليمية العمومية، على اعتبار أن الاعتداءات متكررة بشكل يومي وقد تكون أشنع في كثيرها، وأن ما كان ينقصها فقط التوثيق، فإن هذا يدل بما لا يدع مجالا للشك أن منظومتنا التعليمية على الأقل ابتداء من التسعينات إلى اليوم تشهد نوعا من الموت السريري والذي ينذر بكارثة قادمة تحصد الأخضر واليابس بجيل لا يعرف ماذا يريد.

وإنه ولئن تعددت زوايا النظر بطبيعة الحال لتعدد المسببات، بين من يحمل التلميذ المسؤولية وبين من يحملها للأستاذ، فإن ما نخلص إليه بداية هو أنه لا شيء مطلقا يبرر الاعتداء على رجل تناط به مهمة نبيلة تعول عليها كل أمة في نهضتها. لكن هذا لن يمنعنا من الخوض في الحادث مستحضرين ما كان وما يجب أن يكون، ليس لغرض الاصطفاف أو التحيز إلى فئة، وإنما لوضع النقط على الحروف والمشاركة في نقاش عمومي سيعطي نتائجه على أية حال، فالاختلاف على الأقل لا يفسد للود قضية كما يقال.

إن مهنة التدريس ليست كأي مهنة، بل لابد للمرشح للقيام بهذه المهمة من شروط تؤهله للعب هذا الدور الحساس. وبما أننا للأسف داخل بلد لا يهتم بمثل هذه الجوانب ويعتبر الأستاذ هو فقط طالب علم تفوق في معرفة نظرية، فالقائمون على هذا الأمر لا يعيرون اهتماما لما يجب أن يتوفر في طالب ليست مهمته فقط نقل مادة معرفية جافة مادامت المعارف اليوم مطروحة في الطريق لا حادي عليها ولا رقيب، فالأستاذ يتم انتقاؤه لهذا الغرض وبهذه المعايير دون مراعاة أو إعطاء قيمة فضلى للجانب الآخر من شخصية المدرس الذي تناط به مهمة تنشئة جيل من المواطنين في فترة عمرية حساسة.

وهذا هو السبب الحقيقي الذي جعل الأمر خلافا، وجعل كثيرا من التلاميذ والمواطنين يوازنون بين أستاذ وآخر. أستاذ حملته ظروف صحية أو نفسية شخصية لعدم القدرة على القيام بنجاح بهذه المهمة، وبين أستاذ آخر أبدع وأحسن وحظي باحترام كثيرا من التلاميذ وأوليائهم، فالتعليم هو مثل أي مهنة لا بد لها من شروط نفسية تضاف لما يتم اعتماده عادة من الدور المعرفي الذي أصبح اليوم متجاوزا.

وأستاذ ورزازات الذي لا يمكننا بأي حال من الأحوال الطعن في أهليته المعرفية مادام أن المفتش التربوي هو الوحيد القادر على تقييم مستواه وكفايته، لكن الشهادات والوقائع المحيطة بالحادث تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الأستاذ المعنف يتحمل جزء من مسؤولية ما حصل له، فهو من جهة لم يدل بأي تقرير للإدارة التربوية حتى تتخذ الإجراءات اللازمة في حق المعتدين وتضمن له جوا مناسبا للقيام بمهمته، كما أنه لم يتقدم بشكاية في الحادث للمصالح المختصة والتي من واجبها معاقبة المعتدين وردعهم، فقط عاد إلى بيته كأن شيئا لم يحصل، كل هذا إضافة إلى أن الأستاذ لا يليق به من الأصل الوقوع في مثل هذه الملابسات والملاسنات، والتي يصبح لزاما عليه اعتزالها أو مغادرة القاعة حين تتطور الأمور إلى محاولات الاعتداء بالضرب، لكن هذا لا يبرر لأحد تسويغ الاعتداء على الأستاذ لشرف المهنة التي يقوم بها وحفظا لهيبة الدولة، وما دام أن المؤسسة لها طاقمها الإداري الذي يفترض إقامة الحجة عليها بمراسلتها بتقرير عن سلوكات الأستاذ واستفزازاته كما يدعي المعتدون.

إن حادث اعتداء ورزازات ليس شاذا أو منعزلا، ولو كان كذلك لا اتهمنا الأستاذ مباشرة مادام الشاذ لا يقاس عليه، بل إن هناك حالات عديدة وقعت وتقع حتى على من يوصفون عادة بالأكفاء والناجحين، وهذا ما يخرجنا من ضيق حادث ورزازات إلى حالات أكثر اتساعا في التاريخ و الجغرافيا المغربية، فالشغب المدرسي تتعدد أسبابه بين فراغات قانونية تنتصر للتلميذ بدلا من الأستاذ، وتماطل يتجسد في تعامل الأمن المدرسي مع حالات الشغب والفوضى داخل المؤسسات وفي جنباتها، وفي كثير من الأحيان في ضعف المصالح الإدارية داخل المؤسسات التعليمية التي يطغى على كثير منها التسيب والتساهل مع الحالات المطروحة، فكثير من الأطر يبررون تماطلهم بكونهم يحسون أن القانون لا يحميهم ولا ينصفهم من تبعات ما قد يتعرضون له خارج المؤسسة من اعتداءات، وعند الأسرة التعليمية آلاف الحالات التي يتذكرونها، لم يعر الأمن أي اهتمام لشكاويهم وعجزهم البدني، وهذا ما يجعل كثيرا منهم يساير يومه ويدعو الله أن يمر كل شيء بخير وعلى خير بعيدا عن الدخول في حرب يكون هو الخاسر فيها.

إن الأستاذ حين يلج الفصل الدراسي أو يقبل على مهنة التعليم فهو يعتبر نفسه جاء ليقوم بوظيفة نقل المعرفة إلى ناشئة يفترض فيها أن تسمع وتطيع وتتجاوب مع ما يقدمه الأستاذ. وهذه في الحقيقة هي وظيفة الأستاذ الأصلية حين لم يكن العلم للجميع وإنما لمن يريد. لكن الكثيرين لا يعون بالفروق حين أصبح العلم من حق الجميع، وحين أصبح مفروضا عليه أن يقف أمام أشخاص يعتبرونه مصدر إزعاج لهم، فهو يستبشرون فقط حين يخرجون فارين من عنده إلى الشارع العام. فكثير من الأساتذة لا يدركون أن الأمور انقلبت وأن المعرفة لم تعد مشكلا مادامت المعارف اليوم مطروحة في الطريق تتعدد مواردها ومصادرها، وأن وظيفتهم بعد فشل الأسرة في القيام بواجبها لانشغالها بأمور أخرى في زمن صعب وحرب إعلامية وشبكية تؤدي لنفوق القيم هي وظيفة تربوية بالأساس، وهو ما يفسر ضياع كثير من الوقت داخل الفصل في تقويم سلوكات التلاميذ على حساب المادة الدراسية. هذا رغم أن الوثائق الرسمية تنبه إلى أن المناهج والبرامج التربوية جاءت للتربية على القيم والاختيار.
إن حادث ورزازات ليس حادثا عابرا، لن ينتهي باعتقال تلميذ وسجنه، وإنما هو مشهد يتكرر كل يوم داخل المؤسسات التعليمية، لكن النقاش يجب أن يستمر للخروج من النفق، ليس تحت معادلة منتصر ومنهزم ولكن تحت مبدأ أن السفينة كلنا نركبها، ففي النهاية لن نبتهج مطلقا بشاب اعتقل رغم أن الاعتقال والعقاب حياة ورحمة، لكن سيبقى في النفس أسف على شباب كان من المفترض أن يكونوا شيئا غير ما أريد لهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *