منتدى العمق

سعد الحريري في الرياض .. مضيف أم مختطف؟

تابعت حوار رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري على قناة  mtv اللبنانية فخرجت منه بعدة انطباعات أوردها على الشكل التالي:

1\ الحوار  جاء بعد لغط و غموض كبيرين بسبب الاستقالة المفاجئة التي تلاها سعد الحريري من الرياض.. استقالة أثارت جدلا واسعا في الأوساط السياسة العالمية، لما لها من سياقات راهنة ترتبط بالشأن الإقليمي قبل الوطني والمحلي.  ولما سيكون لها في القابل من الأيام من تداعيات سياسية، تبدو  تجلياتها في التفاعل منذ الآن بما أن الرئيس ميشيل عون قد سارع الى القول بعدم دستوريتها  لتلاوتها من عاصمة هي ليس عاصمة لبنان، مما يعطي انطباعا واضحا أن السعودية قد “اعلنت حربا” على لبنان وانتهكت سيادتها باحتجازها رئيس حكومتها ..الأمر الذي جعله –أي ميشيل عون – ،ولأول مرة في تاريخ لبنان، ينتقد بشدة هذا التصرف . ونبرة  اللهجة التي تحدث بها كانت في غاية الحدة والشدة إذ أنذر  الملك سلمان نفسه بعواقب  الأمور . وهذا ما يؤكد  على توتر العلاقة بين البلدين وبلوغها مرحلة مهمة من التأزم.

2\ في المقابلة حاول سعد الحريري جاهدا أن يخفي ما طلبوا منه إخفاءه لكن دون جدوى. فقسمات الوجه الناطقة ، والعبرَات الخانقة التي كادت  تفضحه في نهاية الجزء الأول من اللقاء،  والجمل القصيرة النمطية المكرورة على لسانه (النأي بالنفس)، هي بالتأكيد كانت مختارة و منقحة على مقاس  مضبوط ومكتوبة، ربما ،من نفس الجهة التي تولت  كتابة نص الاستقالة المتلوِ  ابان وصوله الى المملكة يوم حل بالرياض، بدعوة، قيل عنها ،من الملك سلمان . والحقيقة أن الرجل تفاجأ عند استقباله في المطار  بوجود رجال شرطة يقتادونه، وليس أميرا من الأمراء كما اعتاد. تفاجأ بهم إذن وهم  ينتزعون منه هواتفه الخاصة. ويسرحون حرسه المرافق له، ويخيرونهم إما بالعودة الى بيروت أو الاقامة بالفندق اقامة  “جبرية” تكون كل تصرفاتهم تحت المراقبة الفعلية للأمن السعودي ..

والمرحلة المقبلة ستكون على موعد مع الشاشة ، بإحدى القنوات السعودية كي  يتلو نص الاستقالة المعد سلفا.. وهو أمر سيخلف، كما أسلفنا، صدمة عارمة في صفوف اللبنانيين ، و لغطا دوليا سرعان ما تكشف عن حقيقة الاختطاف والاحتجاز . أما  “الضيافة” التي كررها كثيرا في اجوبته للإعلامية بولا يعقوبيان فهي محاولة بائسة لتغطية الشمس بغربال .

3\ وما يثبت فرضية الاختطاف والاحتجاز هي الطريقة  التي اعدت به المقابلة، وقسمات الوجه الحزينة، ونبرات الصوت المبحوحة ،وكثرة الصفحات المنثورة أمامه على المنضدة ،التي كان يختلس اليها النظر بين الفينة والأخرى  ليجيب على أسئلة الاعلامية المتمرسة الشجاعة، التي لم تأل جهدا في استدراج رئيس حكومة بلادها الى كرسي الاعتراف بأنه “مختطف” ورهن الاقامة الجبرية ، وليس في “ضيافة كريمة” كما يدعي..

4\ وحتى وإن لم يصرح سعد بذلك. فهذا أمر لم يعد الآن يرتقي اليه الشك بما أن المسؤولين السعوديين أنفسهم أكدوا أنه لم يعد  برجل المرحلة .فهو  ليس صالحا للمرحلة القادمة، بما أنه عجز عن التعاطي مع مسألة اسلحة حزب الله اللبناني بما يلزم من عزم وحزم. والقرائن ثابتة دالة دامغة. فالشريط  الذي تداوله النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي ، تظهر فيه بولا يعقوبيان  وهي تطلب من مسؤول سعودي (حضر المقابلة رغما عنها) تقول   له: “ما زال في انترنت أعطوه التليفون” أي لرئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري ، فيرد عليها بنبرة عالية: “تلفون ما أعطيه”، فترد عليه بولا بخجل: “طيب شكرا”. هذا يؤكد صراحة فرضية الاحتجاز  وليس الضيافة كم ادعى سعد أمام شاشة mtv . الاحتجاز والاقامة الجبرية الى وقت معلوم هو العنوان الأبرز في تواجد سعد بالرياض حتى وإن صرح  بأن محمد بن سلمان ولي عهد السعودية صديق عزيز .

5\وكما هو معلوم جرت المقابلة  في بيت سعد الحريري الشخصي في الرياض إلا أنه مع ذلك  لوحظ تواجد شخص “غريب ”  ظهر اثناء المقابلة، وتًر سعدا  على الهواء مباشرة ( هذا الغريب هو غير المصور والمخرج وصاحب تقنية الصوت والصورة،)”الغريب” ا لمقصود هنا هو الذي دخل  الغرفة  على حين غرة محدثا جلبة جعل سعدا  يرتبك في لحظة، ران اليه ببصره مشيرا اليه بأصبعه، كأنه يقول له :”اطمئن، فأنا أردد ما كتبتم لي على هذه الأوراق بأمانة” .

6\ الدليل الآخر على الاحتجاز هو التزامن مع الحملة “التطهيرية ” التي قام بها ابن سلمان في حق عصابة  من الأمراء ورجال الأعمال السعوديين النافذين في عالم السياسة والمال ،وعلى رأسهم قارون العصر  الأمير  الوليد بن طلال. هؤلاء الأمراء ورجال الأعمال هم الآن تحت  الاقامة الجبرية  بين جدران حبس من خمس نجوم، بأمر من رجل الدول الأول في الوقت الراهن ولي العهد محمد بن سلمان..

لكن السؤال الذي يتبادر الى الذهن: ما علاقة  حبس الأمراء السعوديين، ابناء العمومة المتنافسين على الحكم،  و”الاحتفاظ” بسعد الحريري رهن الاقامة الجبرية في المملكة السعودية، وهو اللبناني الأصل (وإن كان يحمل  الجنسية المزدوجة؟)

للإجابة على هذا السؤال كان لابد من البحث عن جذور الأزمة منذ وفاة الملك عبد الله وتولي أخيه سلمان.. ذلك أن أول عمل قام به بعد استتباب الأمر هو احداث “انقلاب “داخلي  في  ولاية العهد بحيث عزل أخاه محمد بن نايف وجعلها في عنق ابنه محمد بن سلمان ،في تطور جديد لم يستسغه كثير من أمراء آل سعود،  الذين رأوا في الأمر “انحرافا” عن منهجية وراثة العرش في الأسرة ،والتي تنص على  أن تظل في فئة الأبناء الأصول قبل الفروع.. وستتضح الرؤيا  بجلاء لمحمد بن سلمان كولي العهد حين نصب حديثا الحبيب العدلي ، وزير داخلية مبارك  الدموي –  ليقوم  ببناء جهاز أمن الدولة، الشبيه بالجهاز  السيئ السمعة  في مصر أيام حسني مبارك.. وفور تسلمه باشر هذا الجهاز  مهامه باستخدام آليات متطورة في التجسس. مما  ممكنه من توثيق مؤامرة الأمراء الغاضبين  ضد  ولي العهد(جهاز الحبيب  العدلي استخدم  معدات تنصت  حديثة تخترق الأسوار وتوثق  بالصوت والصورة  لخطوات الأمراء المتمردين أولا بأول) ..وهذا ما دفع  الامير ولي العهد بالإقدام على عمليته تلك بداعي محاربة الفساد .وهو العارف باستشرائه  في جل أعضاء الأسرة الحاكمة بمن فيهم والده الملك  سلمان نفسه . فالثروة الوطنية السعودية لا يظهر مفعولها على الأرض وعلى المواطن السعودي البسيط ،بقدر ما تظهر على شكل “بالونات استهلاكية” لا تجدي نفعا ولا تخدم شعبا ،بحيث يظل هذا المواطن الأضغف  دخلا بالمقارنة مع الدخل الفردي للمواطن القطري والكويتي والاماراتي..في حين يرى تبدد ثروة بلاده ،جهرا نهارا، على شكل اكراميات وهدايا باذخة للزوار من الغرب والشرق (كما حدث في الآونة الأخيرة مع زيارة ترامب  الذي تحصل على “هدية” قدر ثمنها  ب460مليار دولار  كصفقة سلاح لا قبل لاستعماله إلا في اليمن أو ضد الشعب السعودي نفسه إن هو فكر يوما  في الثورة على حكامه)

7\ والآن ، ما علاقة سعد الحريري ب”خلطة آل سعود و تخبطهم؟ “. وما الذي يجعل من سعد   عقدة ناشزة في  منشار  محمد بن سلمان بالذات؟

كل الدلائل تشير الى أن النظام السعودي ما كان ليتجرأ على سعد الحريري، وهو الابن المدلل للرياض لولا الأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط، والتي تعاظمت في السنتين الأخيرتين  لتشكل “تسونامي سياسي” قويا  تجاوز سقف امكانات سعد “المسكين “،تكسرت أمواجه  عند شطآن المملكة محدثا دويا قويا. التسونامي المقصود هنا هي الخسارة  المبينة للسعودية ومن معها في التحالف العربي على جبهة سوريا، وفشلها في الإطاحة ببشار  المآزر بروسيا وايران.. هذا من جهة ومن جهة ثانية كذلك تكبدها خسارات متتالية  هذه المرة في الجنوب أمام الحوثيين اليمنيين الذين، يبدو أن المسؤولين السعوديين ومن معهم في  التحالف، لم يحسبوها جيدا أيضا هذه المرة.. فالحرب طالت، والخسائر ما فتئت تتعاظم  نتائجها ،وفاتورتها في تنام مستمر ،في وقت يعيش الاقتصاد ركودا حقيقيا في  ظل انخفاض اسعار البترول عالميا .عوامل كلها  سارعت إلى تأزيم الوضع الاقتصادي والسياسي بالمملكة.. دفعت بالقيادة السعودية لتخبط  حقيقي خاصة لما وصل صاروخ بالسيتي من نوع “بركانh 2 الى غاية مطار الملك خالد الدولي بالرياض  ..وهو الصاروخ الذي كان حزب الله اللبناني يستعمله في مقاومته للكيان الصهيوني ابان حرب يوليوز 2006..وهنا كان الربط وكان القرار  المفاجئ باستدعاء سعد  و القاء نص الاستقالة في وجهه.. فالأمر فسر على أن الحوثييين تلقوا دعما لوجيستيكيا من حزب الله بدولة لبنان التي يرأس حكومتها سعد الحريري ..وبما أن الدعم وصل الى الحوثيين على شكل صورايخ إذن، وبعيدة المدى فذلك يتطلب حسما من لدن صناع القرار بالرياض . وأول الحسم هو اجبار سعد على تقديم الاستقالة، ثم بعدها يقع التفكير في  الشخص القادر على ردع نصر الله وحزبه (وإن كان البعض يذهب الى أن ولي العهد محمد بن سلمان يكون الآن قد طلب بشكل رسمي  من المسؤولين في تل أبيب  شن حرب  جديدة على لبنان يكون الهدف منها نزع سلاح حزب الله وارجاعه الى نقطة الصفر،  وذلك بضمانة ودعم من السعودية والامارات العربية . وفي هذا تندرج زيارة محمد بن سلمان للكيان الصهيوني في سبتمبر الماضي، ولقائه ببنيامين نتانياهو.. وهي الزيارة التي أكدتها صحيفة  ” نوغا تارنوبولسكي” الإسرائيلية ذات  المصداقية العالمية) .

لهذه الأسباب إذن ولأسباب أخرى سيتكشف عنها في القابل من الأيام تندرج مسألة احتجاز سعد الحريري في الرياض لفترة لا يمكن الحسم فيها، بما أن القادة  السعوديين قد تمكنوا من تكميم أفواه حكام البيت الأبيض وبيت الاتحاد الأوروبي  بهدايا سخية كافية لإسكات أقوى الأصوات المعارضة في الغرب. سخاء  يذكرنا بسخاء حاتم الطائي في الجزيرة العربية  زمن الجاهلية وإن كان في شكله الفاسد ..

كاتب وروائي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *