وجهة نظر

مداد السداد في روح المواد!

تعديل وتفسير بعض مواد النظام الأساسي نقاشا محمودا -في عمومه- بين أبناء “العدالة والتنمية”، وحتى خارج صفوفه؛وبقدر ما يعبر هذا النقاش عن الحيوية الصحية للجسم التنظيمي، مهما يعتريه -أحيانا- منتفاعل واختلاف حاد؛ فإنه ألقى الضوء على مجموعة من الأبجديات التنظيمية ذات العلاقة بوضعية الانطلاق و”أفكار المنشأ”، كما أماط اللثام عن مستويات متباينة في تصور وتمثل الثقافة التنظيمية والقانونية؛ لكن في نفس الوقت، أتاح الفرصة للتداول البَنّاء والخلاق في أشكال تطوير الآلة التنظيمية في بُعديها النظري والعملي؛ وهو ورش يستدعي التحرر النفسي والموضوعي من الكثير من مدخلات النقاش الآني، في أفق تعزيز وتجديد الروح الديموقراطية للأنظمة والمساطر المعمول بها، وتسديد القراءات والتأويلات المتباينة، والتي قد يؤدي بعضها إلى جفاف في البيئة التنظيمية وجفاءٍ بين عناصرها الحيوية أكثر من جفاف المداد على ورق، وجفاء الكلمات منفردة عن بعضها خارج النص!

وضمن ذات السياق، لابد أن أؤكد على ما سبقني إليه أخي محمد الطويل -مشكورا- من أن”هذا النقاش هو من بين أحد التمارين الديمقراطية المهمة الذي وجب التفاعل معه بكل أريحية، والاستماع للاستدراكات المُثارة بشأنه والتعاطي معه في إطار من الاحترام الواجب لاختلاف الرأي والاجتهاد” (اهـ)؛ وهو اختلاف وتباين يشكل عنصر إثراء وإغناء لديموقراطيتنا الداخلية إذا ما بقي منضبطا للحاضنة القيمية والمنهجية والمرجعية لمدرسة العدالة والتنمية.

وفي هذا الإطار، تأتي هذه المرافعة في قالب محاولة بحثية لتساهم في النقاش الدائر باعتماد منهجية تتأسس على مبادئ قانونية مُؤصلة ومتعارف عليها، بعيدا عن أساليب السَجْع الفضفاض؛ قد تسعف في تقريب وجهات النظر، مادامت جل التأويلات تلوّح بسند لها في الأنظمة والمساطر الحالية.
كما أن هذا المبحث لا يتوقف عند إضافة رقمية للنقاش، وإنما يتغيى تحقيق إضافة نوعية بالتطلع لإغناء النصوص الحالية بأفكار ومقتضيات جديدة، قد تشكل الحل مستقبلا لأي إشكالات من النوع التي يجد فيها التنظيم نفسه حاليا.

أولا: مبدأ تدرج القواعد القانونية (تراتبية القوانين):

إن المشروعية باعتبارها التصرف المشروع/المقبول المطابق للقواعد والأحكام، ترتبط بشكل وثيق بمبدأ تدرج القواعد القانونية واحترام هرمية الأنظمة المعمول بها، والذي يلزم -في هذه الحالة- بضرورة التزام القواعد الأدنى بأحكام القواعد الأعلى.

وحيث إن النظام الأساسي هو “أسمى” قانون حزبي؛ فإن قواعده القانونية تبقى مرجعا لجميع القواعد القانونية كيفما كانت الوثيقة الحزبية المتضمنة لها؛ بما فيها “النظام الداخلي” الذي يستمد مشروعيته -فضلا عن القانون التنظيمي للأحزاب- من خلال “الإحالة”عليه في “النظام الأساسي”، بالرغم من الإشكال الذي يطرحه عدم تخصيص أي مادة في النظام الأساسي توضح طبيعة وماهية “ثاني أسمى وثيقة” وحدود اختصاصاتها؛ وإن كانت تفصل وتشرح ما أُجمل في النظام الأساسي فقط أو ما أحاله عليها حصريا من مقتضيات، أم أنها يمكن أن تؤسس لقواعد قانونية بما لا يخالف روح “النظام الأساسي” وقواعده العامة، خاصة فيما سكت عنه النظام الأساسي أو استجدت به الممارسة التنظيمية والسياسية (وأنا أميل لهذا الاجتهاد)، بالنظر لِلُّيونة الزمنية والمؤسساتية التي تطبع تعديل النظام الداخلي مقارنة مع النظام الأساسي.

ومادام النظام الأساسي مرجعا أسمى لجميع المقتضيات القانونية للحزب؛ فإنه يحظى بالأولوية في اعتبار مقتضياته؛ ولا يمكن بمبرر “القراءة التكاملية” و”العلاقات التركيبية” بين الأنظمة، أن نساوي أحكام مواده مع مقتضيات باقي الأنظمة في سياق “التحليل الأفقي”؛ خاصة في ظل الإشكال المطروح حول النظام الداخلي نفسه، والذي لا يحله النظام الأساسي الحالي (نسخة يوليوز 2012)، ولا يتداركه النظام الداخلي نفسه حين أحال في ديباجته على “مقتضيات النظام الأساسي” (نسخة دجنبر 2012)، هكذا بشكل عام! كما أنه إشكال لا ينتفي مع الإحالة على القانون التنظيمي رقم 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية، لاسيما المادة 24 منه التي تحدد على وجه الخصوص “القواعد المتعلقة بتسيير الحزب وتنظيمه الإداري والمالي” بالنسبة للنظام الأساسي؛ و”كيفيات تسييرك لجهاز من أجهزة الحزب وكذا شروط وكيفيات انعقاد اجتماعات هذه الأجهزة” بالنسبة للنظام الداخلي، ومن دون تفصيل قد يحسم حتى بين تراتبية النظامين نفسيهما!

وتأسيسا على ما سبق، وبالرجوع إلى مواد النظام الأساسي ابتداء، مادام مرجعا أسمى؛ فإن عبارة “النظام الأساسي” وردت في أربع مواد: اثنان منها مقرونة بالنظام الداخلي، وتتعلق بالتعبير عن الموافقة عليهما أثناء الانخراط (المادة5) والالتزام بمقتضياتهما بعد اكتساب العضوية (المادة13)؛ والثالثة جاءت في المادة 19 تحيل شكليات انعقاد هيئات وأجهزة الحزب على النظام الداخلي باستثناء ما نص عليه النظام الأساسي؛ ثم أخيرا المادة 23 التي هي جوهر القضية، والتي جعلت صلاحية “المصادقة على النظام الأساسي للحزب وتعديله عند الاقتضاء” من اختصاص المؤتمر الوطني، وهي كما نرى، تمس النظام الأساسي نفسه، بما يجعلها فعلا بؤرة النقاش.

كما تبين الملاحظة الإحصائية أن عبارة”النظام الأساسي” وردت في النظام الداخلي في اثنين وعشرين (22) مادة: واحد وعشرون (21) منها تبني قواعد قانونية على مقتضيات النظام الأساسي بشكل واضح؛ إما بتحديد مواد بعينها كمرجع (19 مادة) [1]، أو بالإشارة إلى مقتضى المادة المحال عليها في النظام الأساسي بشكل عام (المادتان 10 و33) [2]. بينما بقيت مادة واحدةفي آخر الوثيقة، غير مسنودة بأي مقتضى من النظام الأساسي، وهي تخص تعديل النظام الأساسي نفسه! إنها المادة موضوع الإشكال (المادة100)؛ حيث أجملت صلاحية اقتراح التعديل بالنسبة للنظامين معا (الأساسي والداخلي)، إضافة إلى المساطر التي لم تختص الأمانةالعامةفي النظام الأساسي باقتراحها، وجعلت المبادرة بخصوصها في يد طرفين (أعلى هيئة تنفيذية وثاني هيئة تقريرية)، على أن تنظم هذه المبادرة وفق مقتضيات اللائحة الداخلية للمجلس الوطني.

وحيث إن “النظام الأساسي”، وهو أسمى القواعد القانونية الحزبية، قد حصر صلاحية المصادقة والتعديل على مقتضياته كـ”نظام أساسي” في جهة وحيدة هي المؤتمر الوطني (الفقرة2-المادة23)، ما يجعل الفراغ في الجهة المخولة بذلك أو التداخل في الصلاحيات غير متحقق؛ وحيث إن “المصادقة على النظام الداخلي للحزب وتعديله عند الاقتضاء” من صلاحيات المجلس الوطني كما تنص على ذلك المادة27 (الفقرة3) من النظام الأساسي، وهو ما أسقطته المادة100 من النظام الداخلي في بناء قاعدتها القانونية عكس مجموعة من المواد كما تم توضيحها إحصائيا؛ وحيث إن المادة100 من النظام الداخلي (وهو نظام يستمد مشروعيته أصلا من النظام الأساسي)حصر تعديل النظامين الأساسي والداخلي معا في طرفين -كما تمت الإشارة إليهما- من غير المؤتمر الوطني في مخالفة لمقتضيات المادة 23 ؛ فإن إشراك أي طرف تنظيمي في تعديل النظام الأساسي يبقى غير مستند على أي دليل تنظيمي، إلا ما شرعه المجلس الوطني لنفسه باعتباره جهة اختصاص في تعديل النظام الداخلي، والمقتضى وارد فيه فقط؛ كما يبقى حصر هذا التعديل في أي جهة من غير المؤتمر غير مؤسس قانونا، مما يكون معه مقتضى المادة 100 بخصوص مبادرة اقتراح تعديل “النظام الأساسي” غير نظامي (على غرار غير دستوري)؛ أي أنه لا يتوافق مع مقتضيات النظام الأساسي باعتباره مرجعا أسمى للأنظمة الحزبية. خاصة وأنه كان بالإمكان أن تبني المادة100 قاعدتها القانونية على المادة27 وتنبري فقط لتعديل النظام الداخلي دون تطاول لثاني هيئة تقريرية (المجلس الوطني) على صلاحيات أعلى هيئة تقريرية (المؤتمر الوطني) خارج أي أساسي قانوني. ويبقى من نافلة القول، أن كل ما أسس على المادة100 في اللائحة الداخلية بخصوص النظام الأساسي يصبح ملحقا بحكمها؛ إذ ما أسس على باطل فهو باطل.

إن الفلسفة التي تحكم تأسيس القاعدة القانونية، فضلا عن نحت صياغتها ومراعاة المبادئ القانونية العامة في وضعها؛ تجعلنا -في وضع كالذي نحن فيه- أمام إشكالية كبيرة لا يمكن التخفيف منها إلا بإسناد مهمة لهيئة مختصة أو هيئة قائمة تراقب “نظامية القواعد التنظيمية” على شاكلة مراقبة “دستورية القوانين”، حتى يتم -من جهة- احترام مبدأ تدرج القواعد القانونية،وبما يضمن عدم مخالفة الإصدارات الحزبية ذات الطابع التقعيدي لمقتضيات الأنظمة المرجعية؛ ومن جهة أخرى، بما يضمن ملاءمة الأنظمة والمساطر الحزبية للإطار القانوني الوطني الذي يشتغل الحزب في إطاره. ويبدو أن المادة 104 من النظام الأساسي قد مهدت لهذا الإجراء بجعل الكلمة النهائية في تفسير مواد النظام الأساسي لهيأة التحكيم الوطنية، وهي أرضية يمكن التأسيس عليها لتطوير الوضع الحالي وتعزيز الديموقراطية الداخلية وتحصينها.

ثانيا: مبدأ التراتبية التنظيمية

غير بعيد عن المبدأ الأول المتعلق بتراتبية القوانين؛ فإن التراتبية التنظيمية تقتضي “حفظ اختصاصات الهيئات بشكل يوازي مرتبتها التنظيمية”؛ وهو أمر منطقي قد لا يحتاج أصلا إلى تنصيص مادامت تصرفات العقلاء منزهة عن العبث. وبناء عليه؛ فإن أعلى هيئة تقريرية يفترض أن تبث آليا في أعلى قانون حزبي؛ ثم الهيئة التي تليه في التراتبية (المجلس الوطني) تبث في النظام الذي يليه (النظام الداخلي)… وهكذا؛ وهو ما ينص عليه النظام الأساسي نفسه، بتحديد توزيع واضح للاختصاصاتبين الهيئتين موضوع النقاش، خصوصا فيما يتعلق بالنظامين المعنيين. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحجر هيئة أدنى على هيئة أعلى، أو تنتحل صفتها، أو تمارس وصاية خفية عليها بدعوى “ترشيد وعقلنة” الأداء، أوالاستجابة لإكراهات “الغلاف الزمني” المحدود أو “الخوف على المشروع” أو غيرها من المبررات التي لا تجد لها سندا في النص ولا في الممارسة الديموقراطية؛ خاصة وأن تلك المبررات والتخوفات مهما كان بعضها مشروعا/مقبولا؛ فإن لها طرقا جذرية للمعالجة تستهدف القاعدة/المصدر بتأهيلها تربويا وقانونيا وسياسيا[3]، ولا تضيع جهودها عبثا في القمة/المؤسسات التمثيلية بـ”البريكولاج” أو إعادة صياغة “البلوكاج” مهما حسنت النيات! كما أن الوسائل التقنية الحديثة يمكن توظيفها بشكل فعال من أجل الاستجابة لأي إكراه زمني أو عددي يرتبط بلحظة المؤتمرات أو غيرها من الاستحقاقات.

كما تثير هذه النقطة، من زاوية أخرى، تساؤلا عميقا حول أداء الهيئات الحالية لأدوارها في ظل الأنظمة القائمة ومدى ممارستها لصلاحياتها، بالنظر لما نشهده من تنامي “التركيز التنظيمي” في الاتجاه غير الممؤسس، وهو ما يجعل الأداة التنظيمية خارج السكة الصحيحة؛ فنجد المجلس الوطني يفوض للأمانة العامة؛ والأمانة العامة تفوض للجنة ما فوض لها المجلس الوطني، واللجنة تجعل الكلمة النهائية لشخص في قرار يفترض أنه أمانة جماعية والتزام مؤسساتي! ثم يؤتي من يحدثك عن ضرورة عدم “إثقال” النظام الأساسي والإحالة على النظام الداخلي الذي لا يجب أن يثقل هو الآخر بمقتضيات يمكن إحالتها على اللائحة الداخلية… فتتركز تفاصيل وتتداول معطيات مهمة في غير موضعها؛ وأمام هذا الوضع، يسوغ تحمل ضرر “الإثقال” لتفويت مفسدة “الإخلال”! وبالتالي نزع فتيل الشيطان الجاثم بين التفاصيل!

من جهة ثانية؛ فالأصل أن الأدوار المُناطة بأي هيئة (تقريرية كانت أو تنفيذية) تحددها هيئة أعلى منها، وليس العكس؛ إذ “الذي ينفذ لا يشرع لنفسه” حتى! وهو مبدأ يجد له سندا في لب الديموقراطية من خلال مبدأ فصل السلط. وكما لا يمكن تصور أن هيئة مجالية أدنى (كتابة جهوية مثلا) تحدد لهيئة أعلى (أمانة عامة مثلا) كيف تقوم بمهامها، وفوق ذلك كله بخلاف المساطر المعمول بها؛ فإنه بالقياس التنظيمي، لا يمكن تصور أن المجلس الوطني يعطي لنفسه حق تحديد ما يمكن للمؤتمر أن يتصرف فيه من صلاحيات أصيلة في حقه؛ فضلا عن أن يحدد مواد بعينها للمصادقة دون أخرى، أو يعرض على المؤتمر (الأعلى منه) ما تكرم به من تعديلات مصادق عليها حتى يصادق عليها، دون أن يكون لهذا المؤتمر نظر فيما رفضه، وهو الهيئة الأدنى!!كيف يستقيم هذا الأمر حتى وإن سلمنا جدلا بجواز النص وصحته القانونية؟!

وبالرجوع إلى “اللائحة الداخلية” للمجلس الوطني التي أسند لها تنظيم مبادرة تعديل النظامين الأساسي والداخلي؛ فإن دورها ينحصر في تنظيم “انعقاد أجهزة المجلس الوطني” طبقا لمقتضيات المادة36 من النظام الأساسي، ولم يرد أي مقتضى في أي من مواده يذكر الجهة المخولة بإقرارها وتعديلها رغم أهميتها؛ وهو ما تداركه منطوق المادة37 من النظام الداخلي الذي أسند للائحة طريقة اقتراحها (مكتب المجلس) وإقرارها (بالتصويت) وتنظيم ممارسة الصلاحيات وعمل الأجهزة واللجان؛ وهي كما نرى، لائحة تنظم عمل المجلس الوطني ويقرها المجلس الوطني بالاستناد للنظام الداخلي الذي يصادق عليه المجلس الوطني ويمتلك صلاحية تعديله بنفسه!وهو مخالف لمبدأ التراتبية التنظيمية جملة وتفصيلا !

أما البعد المنطقي الثالث والأخير في هذا الباب، فمفادهأن “ما ينعقد للهيأة الأدنى ينعقد للهيأة الأعلى ما لم يرد نص بخلاف ذلك أو يحدده”، ومادام المؤتمر أعلى هيأة تقريرية؛ فإنه وبالإضافة إلى ما يختص به من صلاحيات، يمكن أن يمارس صلاحيات الهيئة التقريرية الأدنى منه عند الحاجة، مثل مواءمة مقتضيات من النظام الداخلي مع تعديلات جديدة للنظام الأساسي تستدعيها الضرورة القانونية الآنية. وهي قاعدة تتحقق أيضا مع الهيئات التنفيذية؛ مثل منح العضوية من طرف كتابة جهوية أو إقليمية مع أن الاختصاص ابتداء هو للكتابة المحلية. وتساوقا مع هذا المبدأ؛ لا يمكن -عقلا ومنطقا- أن تسند صلاحيةاقتراح تعديل النظام الأساسي لعضو المجلس الوطني (المادة100)، ولا يعطى لعضو المؤتمَر (المؤتمِر) نفس الاختصاص فيما يعود إليه أصالة وقانونا. أي عقل يقبل بهذا؟! وبغض النظر عن معطى الديموقراطية المباشرة وغير المباشرة!

وخلاصة الأمر في هذا الباب؛ أن الهيئة الأعلى تختص بالنظام الأعلى والتي دونها تختص بالذي دونه؛ وأن اختصاصات أي هيئة أدنى تحددها هيئة أعلى، ولا تُشرّع هيئة لنفسها ما تختص بتنفيذه، تحقيقا لروح الديموقراطية، بله أن تسمح لنفسها بالتشريع لهيئة أعلى؛ وأن ما ينعقد لهيئة أدنى ينعقد لهيئة أعلى، ويسري الأمر على منتسبيها ما لم يرد تحديد في ذلك. وبالتالي فالمؤتمر ليس سيد نفسه فحسب؛ وإنما وصي على ما دونه من خلال ما ينعقد له من مهام وما يختص به من صلاحيات

(أ)تصوغ المقتضيات الأسمى التي تضبط التنظيم وأفراده ومختلف العلاقات البينية المتداخلة بين العنصر البشري والأدوات التنظيمية (النظرية والعملية)، و(ب) تحدد التوجهات الكبرى للفعل الحزبي والسياسي من خلال الأوراق المرحلية والاستراتيجية المعروضة عليه.

وإسهاما في حل الإشكال موضوع النقاش؛ فإننانقترح أن يتم التنصيص على إصدار مسطرة تختص بتحديد شكليات “تعديل النظام الأساسي”في المؤتمر (الاقتراح، المناقشة، الاعتماد… الخ)، على غرار مسطرة انتخاب الأمين العام وباقي المساطر التي يتم بها تدبير وتصريف صلاحيات مختلف الهيئات. مع اقتناعي الشديد بضرورة التعجيل بالمرور إلى الجيل الثالث من الأنظمة؛ حيث تنعقد صلاحية تعديل النظام الأساسي للمجلس الوطني في أبواب محددة ووفق نصاب مطلق، لكن بعد إقرار المؤتمر الوطني لتعديل جديد للنظام الأساسي الحالي؛ ويمكن تضمين بعض مواده حصانة عدم التعديل حتى من المؤتمر الوطني، بالتنصيص على المواد التي لا يمكن أن تخضع للمراجعة من قبيل مرجعيات ومبادئ ومنطلقات الحزب؛ حتى يعالج أي “رُهاب التنظيمي” قد يجد ما يغذيه وسط النيات الحسنة التي ترفع شعار الخوف على مستقبل المشروع !

ثالثا: مبدأ توازي الأشكال

يفيد هذا المبدأ القانوني بأن”تعديل أو إلغاء قاعدة قانونية يجب أن يتم بنفس الشكليات التي تأسست أو صدرت بها تلك القاعدة القانونية في البداية”؛ ويمكن تقسيمه لفرعين:
(أ) مبدأ “توازي الإجراءات” الذي ينص على أن”إجراءات تعديل/إلغاء أي قاعدة قانونية تكون مماثلة لإجراءات اتخاذه”؛ و(ب) مبدأ “توازي الاختصاص” الذي ينص على أن”الاختصاص بتعديل/إلغاء أي قاعدة قانونية يكون من صلاحيات الهيئة المختصة بإصدارها الأصلي في غياب الاستثناء”.

ومادام النظام الأساسي صادرا في الأصل عن المؤتمر الوطني؛ فبالرجوع لهذا المبدأ القانوني يكون هو صاحب الاختصاص في إجراء التعديل عليه؛ وبالتالي يسري هذا المبدأ على منطوق المادة23 (الفقرة2) التي حصرت “المصادقة على النظام الأساسي للحزب وتعديله عند الاقتضاء” في المؤتمر الوطني. وهي ذات الصيغة التي كررتها المادة27 مع تغيير يليق بالتراتبية في عبارة “الأساسي” بـ”الداخلي”؛ حيث نصت في فقرتها الثالثة على اختصاص المجلس الوطني في “المصادقة على النظام الداخلي للحزب وتعديله عند الاقتضاء”.

وإذا كانت المادة100 من النظام الداخلي، التي تأسست عليها المادتان 89 و90 من اللائحة الداخلية، قد خلطت في الصلاحيات والإجراءات بين ما ينعقد لهيئتين مختلفتين، إحداهما أعلى من الأخرى تنظيميا؛ فإن مقتضياتها -جميعها- تكون غير مؤسَّسة وتخالف مبدأ قانونيا أصيلا؛ مما يعضد القراءة المسطرية والترتيبات القانونية التي تمت الإشارة إليهما سابقا في مبدئي التراتبية القانونية والتنظيمية.

ولعل من أغرب ما يرد في هذا الباب؛ أن صيغة المادة23 من النظام الأساسي التي تقول بأن: “المصادقةعلى النظام الأساسي للحزب وتعديله عند الاقتضاء” من اختصاص المؤتمر، تحتمل صياغة اصطلاحية حصرية مفادها: “المصادقة على النظام الأساسي”، و”المصادقة على تعديلِه” وليس “تعديلُه”، وكأن “التعديل” معطوف على “النظام” وليس على “المصادقة” ؛ وهي قراءة سياسية تتعسف على روح “سِبَويه” قبل أن تتعسف على روح المادة بليِّ شكلها اللغوي، وبطريقة لم يقل بها لا نحاة البصرة ولا نحاة الكوفة! فعند الكوفيين يقتضي العطف إعادة أداة الجر (على) بعد حرف العطف (الواو) حتى تصحّ تلك القراءة وتنهض بالحجة من أن صلاحية المؤتمر تنحصر في “المصادقة على التعديل” فقط (بعد رفعه من المجلس الوطني)، وهو ما لا يتحقق في الصيغة الحالية. وحتى الهروب للبصريين ممن اعتمدوا غير ذلك، لا يسعف هذه القراءة حتى تنتصب بالدليل؛ إذ إنهم يجمعون مع إخوانهم (في الكوفة) أن العطف يحقق الاكتفاء بين المعطوفين، والعطف بحرف “الواو” تحديدا يفيد اشتراك “المعطوف عليه” (المصادقة)و”المعطوف”(التعديل) فيالحكم؛ وهما كليهما -في هذه الصيغة- مصدران وقع حكمهما على “النظام الأساسي”؛ ومادام المصدر يعمل عمل فعله؛ فيمكن إعادة صياغة العبارة بالقول: “يصادق على النظام الأساسي ويعدله عند الاقتضاء”؛ وعبارة “عند الاقتضاء” التي حصرت تفعيل دور “المعطوف” وتنزيل فعل “عدّل” بالحاجة (الاقتضاء) تدعم هذا الطرح؛ مما يجعل تعديل النظام الأساسي من اختصاص المؤتمر الوطني لغة واصطلاحا؛ ومن دون مناكفات أو تطويع لغوي لقناعة حزبية أو/و سياسية!!

كما أن ذات القراءة لا تسعف معتمديها في تحليل المادة27 من ذات النظام، في علاقتها بصلاحيات المجلس الوطني، وقد كررت نفس صياغة المادة 23: “المصادقة على النظام الأساسي(م23)/الداخلي (م27) وتعديله عند الاقتضاء”؛ إذ حتى وإن سلمنا بأن الهيئة تختص بالمصادقة على التعديل فقط، وفق القراءة المستوردة من المادة23؛ فمن سيكون صاحب الاختصاص في الاقتراح على المجلس الوطني هذه المرة في تعديل النظام الداخلي؟!وكيف ستتوازى الأشكال إذا قلنا بأن هذه الاختصاصات ستلتقي في نقطة من المستوى الذي يمثل نفس الهيئات المختصة بتعديل النظامين معا؟! والمتوازيان لا يلتقيان هندسيا؟! هل سنتعسف على قواعد الرياضيات أيضا بعد التعسف على قواعد اللغة؟!

ختاما، نخلص إلى أن “التعديل” اختصاص أصيل للمؤتمر الوطني مادام هو صاحب المصدر في إنشاء قواعد النظام الأساسي ابتداء. وتأسيسا عليه؛ تكون مبادرة التعديل حقا أصيلا للمؤتمرين لا يمكن انتزاعه بأي مسطرة/مقتضى لا يرقى إلى مستوى “النظام الأساسي” وقوته القانونية، بله أن يتم الالتفاف عليه بقراءة لغوية متعسفة أو اجتزاء قراءته بمعزل عن باقي المقتضيات الأخرى المشابهة؛ ويبقى دور المجلس الوطني مقتصرا على تنظيم ممارسة هذا الحق من خلال المساطر الصادرة عنه بصفته جهة اختصاص طبقا للنظام الداخلي ووفق الشكليات التي تنص عليها لائحته الداخلية.

في المحصلة العامة، يمكن إجمال خلاصات هذا النقاش وفق المبادئ القانونية المستند إليها في هذه المقاربة المجردة كما يلي:

أولا: واستنادا لمبدأ تراتبية القوانين؛ فقد ظهر أن هناك عيبا قانونيا في المادة100 من النظام الداخلي يجعلها غير مطابقة لمقتضيات “أسمى وثيقة حزبية” (النظام الأساسي)؛ وذلك حين أضافت لصلاحيات المجلس الوطني اختصاصا أصيلا للمؤتمر الوطني، بإجمال تعديل كلا النظامين بمبادرة من جهتين يغيب عنهما المؤتمر صاحب الصلاحية الأصل. وفي هذا الإطار، تم اقتراح إسناد مهمة مراقبة “نظامية القواعد التنظيمية” (مثل مراقبة دستورية القوانين) لهيئة حزبية، من اختصاصاتها السهر على ضمان مواءمة الأنظمة والمساطر الحزبية للإطار القانوني الوطني الذي يشتغل فيه الحزب (من جهة)وضمان احترام مبدأ تدرج القواعد القانونية في جميع الوثائق الداخلية التي تصدرها هيئات الحزب ولجانه بما يضمن عدم تضاربها أو شططها (من جهة أخرى)؛ ويمكن التأسيسفي ذلك على تطوير مقتضيات المادة 104 من النظام الأساسي بشكليعزز الديموقراطية الداخلية ويحصنها.

ثانيا: واستنادا لمبدأ التراتبية التنظيمية؛ فإن إعطاء المجلس الوطني الحق لنفسه بالتشريع لهيئة أعلى منه، بل وإقصاءها من حق أصيل يدخل في صميم اختصاصاتها الحصرية المنصوص عليها، هو أيضا أمر معيب قانونا.
ذلك أن أحد ركائز الديموقراطية أن يكون هناك فصل بين السلط بشكل يجعل أي هيأة لا تُشرِّع حتى لنفسها ما تنفذه بنفسها؛ فكيف تعطي الحق لنفسها بأن تشرع لهيئة فوقها؟!وبالتالي فإن المؤتمر سيد نفسه، بل و”وصي قانوني” على ما دونه من هيئات تقريرية من خلال ما ينعقد له من صلاحيات أصيلة وتبعية تطبيقا لهذا المبدأ. وفي إطار الاقتراح؛ نعيد التأكيد على ضرورة العمل القاعدي الذي يروم (أ)تطوير آليات التأهيل والتأطير العضوي، وربط التدرج التنظيمي بدرجات التحصيل والاستيعاب لمنهج المدرسة الحزبية ومقرراته (النظرية والتطبيقية)، إضافة إلى (ب)التوظيف الأمثل للتكنلوجيات الحديثة بما يضمن تحديث إدارة الهيكل الحزبي وتدبير مختلف استحقاقاته. وفي صلب الموضوع؛ فقد تم اقتراح إصدار مسطرة “تعديل النظام الأساسي” في المؤتمر على غرار “مسطرة انتخاب الأمين العام” وباقي المساطر التي يتم بها تدبير وتصريف صلاحيات مختلف الهيئات. مع التوصية بالمرور إلى الجيل الثالث من الأنظمة؛ حيث تنعقد صلاحية تعديل النظام الأساسي للمجلس الوطني في أبواب محددة ووفق نصاب مطلق (من جهة)، في مقابل تحصين المواد والمقتضيات التي لا يجوز حتى للمؤتمر الوطني مراجعتها، بما يكسب مرجعيات ومبادئ ومنطلقات الحزب حصانة تضمن استمرار مشروع العدالة والتنمية على نفس المنهج القويم.

أخيرا: واستنادا لمبدأ توازي الأشكال؛ فإنه يتأكد أن المؤتمر الوطني صاحب الاختصاص الأصيل في “التعديل” باعتباره مصدر القواعد القانونية للنظام الأساسي ومُنشئها الأول/الابتدائي. وتأسيسا عليه؛ تكون مبادرة التعديل حقا أصيلا للمؤتمرين لا يمكن انتزاعه إلا بالقوة القانونية للنظام الأساسي وليس بأي مقتضى/مسطرة تقل في قوتها القانونية عنه؛ ويبقى دور المجلس الوطني في هذا الجانب مقتصرا على “تنظيم ممارسة حق التعديل” من خلال المساطر الصادرة عنه بصفته جهة اختصاص في ذلك (فقط)، طبقا للنظام الداخلي ولائحته الداخلية؛ على أن قضية “تنظيم ممارسة التعديل” ستصبح من القضايا الطارئة إذا لم يقم المجلس الوطني بمهمته في دورة استثنائية؛ وبالتالي يمكن عرضها على رئاسة المؤتمر الوطني للبث فيها طبقا لمقتضيات المادة 26 من النظام الداخلي للحزب.

والله خير الحاكمين وهو يتولى الصالحين
=========================
[1] فيما يلي مواد النظام الداخلي ذات العلاقة، مع المواد التي تستند إليها في النظام الأساسي بين قوسين: المادة 12 (م13): شرح الواجبات المالية، والمادة14و15 (م24-28-56-59-69-72-81): اجتماع الهيئات، والمادة21 (م18): قرارات الهيئات، والمادة23 (م24): المؤتمر الاستثنائي، والمادة 28 (م27): اللجنة التحضيرية، والمادة 34 (م26): انتخاب أعضاء المجلس، والمواد50-51 و53 (م53و66 و78) الهيئات الجهوية والإقليمية والمحلية، والمادتان59 و62 (م64 و76): انعقاد اللجنة الجهوية والإقليمية، والمادة67 و68 (م88 و63): هيئات التحكيم بين جهوية/تكوين هيئة التحكيم الجهوية، والمادة71 (م11و12و91): المتابعة الانضباطية، والمادة76 (م27و89): الطعن في القرار الانضباطي، والمادة86 (م18): الإعفاء من رئاسة هيئة تنفيذية، والمادة95 (م95-97): الترشيح والتزكية، والمادة99 (م103): حل الحزب مجاليا، والمادة 100 (بدون): اقتراح تعديل النظامين الأساسي والداخلي.
[2] المادة10: مقرونة بالجزاء الانضباطيفي حال تسجيل العضوية أكثر من مرة، والمادة 33: مقرونة بأجهزة المجلس واستمرار ممارسة المهام فيها.
[3] سأنشر قريبا في هذا السياق ورقة بحثية تنظيمية أخرى تحت عنوان: “نظرية العضو الفاعل”، وهي خلاصة عقد ونصف من التتبع التنظيمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *