منتدى العمق

صلاة الإستوزار

وصف من أوصاف كثيرة أطلقها شعب الفيسبوك على الركعة التي أداها وزير التربية الوطنية أثناء تعيينه أمام الملك. هناك من تنذر على الرجل بأن قال أن الوزير يبحث عن أربعة ريالات سقطت و أبى إلا أن يجدها (المال العام في أيد أمينة!)، آخرون أكدوا أن “الركيعة” ما هي إلا رمز انحطاط التعليم و معه السياسة في بلد القانون و الحق. أكثر الموضوعيين قال أن “عصب” ركبة الوزير انحنى أكثر من اللازم ما أظهر الوزير لحظة التصوير في وضعية ركوع مبالغ فيها! الركعة سواء كانت مقصودة لإبداء الولاء التام لرئيس الدولة، أم مجرد خطأ أسهمت فيه جاذبية الأرض و التواء ركبة الوزير، تبقى علامة من علامات مرض الوطن، سياسة و تسيير، قاعدة و قاعا.

لا يمكن فهم كيف تُسيَّر أمور السياسة في أجمل البلدان دون إلقاء نظرة على تاريخ المعارضة فيه، و كيف تدرجت من معارضة “شرسة” تطلب رأس النظام و تهدف الانقلاب عليه، إلى معارضة “وطنية” أكثر تعقلا تعارض سياسات النظام، و صولا لمعارضة “أليفة” تعارض الحكومة. تعارض من أجل المعارضة!

المعارضة الشرسة التي انطلقت مع فجر “الاستقلال”، و امتدت لنهاية عقد الثمانينات، عارضت النظام في جوهره و طبيعته، فسعت لإسقاطه مرة بالعمل المسلح، و أخرى بالتآمر و ثالثا بتجييش الشارع، و رابعا بالتحالف مع ما كان سَيُعرف بالضباط الأحرار النسخة المغربية ” انقلابات الصخيرات” و محاولة إسقاط طائرة الحسن الثاني سنة 72، إضافة لألاعيب و خطط الجنرال المتوفى أمام قصر النخيل: أحمد الدليمي 1983.

أزيد من ثلاثة عقود أُضيعت على المغرب في مجال التنمية و صناعة الإنسان لحساب لُعبة كسر عظام بين نظام لا يقبل الإصلاح و معارضة توفر للنظام مشروعية ضربها بأن اشتغلت في الظلام بشكل غير مشروع.

بعد التخلص من الشرسة، انتقل ما تبقى من الرجال لصنف المعارضة الهجينة، الوسطية التي تقبل بطبيعة النظام لكنها تعارض سياساته. قامات أمثال محمد بستة، عبد الرحمن اليوسفي و باقي زعماء الكتلة الديمقراطية لم يجدوا حرجا في اتهام النظام بالنفاق و التزوير و إفساد الحياة السياسية، سواء من منابر خارجية أو من قلب برلمان الأمة. وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري كان يستقبل غضب زعماء الأغلبية بعد كل تلاعب في انتخابات أو تزوير لاستفتاء بأنه “عبد مشرط لحناك ديال سيدنا”، في دلالة على كونه يد الحسن الثاني في السياسة، و أنه عبد مأمور ، و أن النقد حقيقة الأمر يجب أن يوجه للآمر و ليس للمأمور.

مرحلة معارضة سياسات النظام ستعرف نهايتها بعد تولي عبد الرحمن اليوسفي رئاسة الحكومة نهاية التسعينات، آملا في أن تكون سُنة التناوب الديمقراطي بداية عهد استجابة النظام لمطالب المعارضة التي ما فتأت تلوم و تشتكي من سياساته، غير أن الزمن كانت له كلمة أخرى.

2002، و بعد أن ظن اليوسفي أنه سُنة التناوب ستتحول لقانون، و أن الالتزام الشفوي سيغدو مكتوبا، فوجئ الرجل بعد دخوله قصر مراكش أن أُخبر أن “ورقته” قد أُحرقت، و أن احتلال حزبه المركز 1 لم يشفع له لإكمال “المسلسل”، ليعين مكانه تقنوقراط هو إدريس جطو بداعي الحفاظ على توازن هش بين أحزاب كانت نتائجها جد متقاربة.

أُنهك المعارضون، و باتوا أكثر تفكيرا في مستقبل الأولاد و الأحفاد، أقل حرصا و حماسا للدفاع عن حاضر المغاربة و مستقبلهم، لتنجح سياسة “أعطيني أعطيك” في تهجينهم و إدخالهم لعبة التحكم في السياسة مقابل ملايين و مناصب و امتيازات عديدة. حينها أُعلن عن ولادة الشكل الأخير المُدجن من المعارضة: معارضة الحكومة، و سياسات الحكومة تحت شعار :”الخايبة للحكومة و الزوينة للنظام”.

مع الموضة الجديدة، ظهرت طبقة سياسية أشبه ما تكون بالغشاء المعدني الحامي لأواني الألومونيوم المنزلية من الصدأ. طبقة سياسيين انتهازيين تشكلت بين الشعب و القصر. رؤساء مجالس البرلمان و مؤسسات دستورية و سيادية مختلفة منتفعين من مظاهر الريع و الاغتناء غير المشروع و الهروب من المحاسبة، نجحت في تكييف أوضاعها كل مرة تتعرض مصالحها و مصالح من يحميها للخطر. فترى مبادئ و عبارات بمثابة صخور عظيمة في الدستور من قبيل ربط المسؤولية بالمحاسبة و حق المواطن في تتبع المعلومة، تتحول لحصا صغيرة لا ترى بالعين المجردة ساعة تنزيلها بقوانين تنظيمية.

الخلاصة أن طبقة الألمونيوم تحولت لغشاء واق مضاد للصدمات الصاعدة من شعب فقير يائس من جهة، و قناة لتنزيل كل القرارات غير الشعبية تحت شعار “صوتوا عليهم دبرو معاهم”. لا ضرر في استبدال الطبقة بين الحين و الآخر، أو التضحية بقربان كل “سخنات القضية”، و تدوير للسياسيين، شبيه في آلياته بتدوير النفايات.
أخيرا ، و عقب دستور 2011، مُنحت الحكومة بعض صلاحيات، فأزاحت هَمَّ تدبير أمور الشعب الفقير و المتوسط عن كاهل الكبار، الذين تفرغوا لصيد الحيتان الكبيرة في الداخل كما في الخارج ( أوراش كبرى، مشاريع إفريقية…).

ركعة وزير التعليم إذن، و سواء كانت إرادية أم لا، تُعبر عن واقع نُخبة تركع لمن فوقها ضمان لمصالحها و حفاظا على دورها المزدوج في امتصاصا الصدمات و تنزيل القرارات الحارقة بغلاف ديمقراطي متين.

ـــــــــ

أيوب رضواني، باحث في الجغرافية السياسية و كاتب رأي مغربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *