مجتمع

قرار حق المرأة في مهنة العدل يثير جدلا بين تيار “إسلامي” وآخر “حداثي”

بعد قرن من الزمن وما يزيد عن صدور أول منشور ينظم مهنة العدل في المغرب، تقف النساء المغربيات لأول مرة في تاريخ هذا البلد على شفا الولوج لهذا القطاع الذي ظل حكرا على الرجال. وذلك بعد أن أعلن بلاغ للناطق الرسمي باسم القصر الملكي، عبد الحق المريني، يوم الاثنين 22 يناير الماضي، عن موافقة العاهل المغربي على ولوج النساء مهنة العدل (مأذونات أو موثقات شرعيات) وتكليفه وزير العدل بفتح خطة العدالة أمام المرأة. موضحا أن القرار جاء «بناء على الأحكام الشرعية المتعلقة بالشهادة وأنواعها، والثوابت الدينية للمغرب، وفي مقدمتها قواعد المذهب المالكي ..».

القرار تم الإعلان عنه عقب انعقاد المجلس الوزاري الذي احتضنه القصر الملكي في الدارالبيضاء، وهو مجلس يرأسه الملك ويتألف من رئيس الحكومة والوزراء. ومن صلاحيات هذا المجلس، حسب الفصل 49 من دستور المملكة، التداول في التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة ومشاريع مراجعة الدستور ومشاريع القوانين التنظيمية. وتناول الملك في مستهله، بـ»صفته أميرا للمؤمنين، موضوع ممارسة المرأة لخطة العدالة» (مهنة العدل).

ويعكس اتخاذ هذا القرار من طرف أعلى وأهم سلطة في البلاد، أهمية الموضوع وحساسيته. فهو أمر يتداخل فيه القانوني والفقهي. ويثير جدلا لمدة طويلة حول إمكانية امتهان النساء مهنة عدل، خاصة بعد أن تم إقرار قانون في سنة 2006 ينظم مهنة العدل لا يشترط الذكورة ضمن شروط ممارسة هذه المهنة. فالقانون يتحدث على أنه من ضمن شروط أخرى يجب أن يكون المترشح «مسلما مغربيا» وهي صيغة وردت في قوانين تنظم مهنا أخرى تلجها نساء، مما دفع بنساء للترشح لمباراة قصد دخول مهنة العدل سنة 2010 فلاقى طلبهن الرفض ليس بسبب القانون بل بسبب أمور فقهية تتعلق بالإشهاد.

حضور هذا الجانب الفقهي هو الذي أدخل المجلس العلمي الأعلى على خط النازلة ليفتي أمره فيها. وهو مجلس يرأسه الملك كذلك. و»يعتبر الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا، في شأن المسائل المحالة عليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف ومقاصده السمحة» حسب الفصل 41 من الدستور. وذلك بعد أن رفعت الهيئة الوطنية للعدل رسالة للديوان الملكي بشأن هذا الموضوع، أحالها هذا الأخير على المجلس العلمي الأعلى، الذي أفتى مؤخرا بجواز ممارسة المرأة مهنة العدل.

وبموجب هذه الفتوى، ثم القرار، ستتمكن أي امرأة مغربية مسلمة حاملة لإجازة محصل عليها في المغرب من إحدى كليات الشريعة أو اللغة العربية أو أصول الدين أو الآداب- فرع الدراسات الإسلامية أو الحقوق-، ومستوفية لبقية الشروط التي تعلنها وزارة العدل بموقعها الإلكتروني، كشرط للترشح لمهنة عدل، أن تصير «عدلة». وهي مهنة حرة ويعتبر ممتهنوها من مساعدي القضاء يقومون بتوثيق عقود الزواج والطلاق والبيع.

الأعراف والتقاليد والفقه

ستضاف تاء الثأنيث إلى مهنة العدل. وستنافس النساء المغربيات لأول مرة الرجال على هذه المهنة. وذلك في مباراة من المزمع تنظيمها في أكتوبر المقبل من طرف وزارة العدل، للتباري على 700 منصب شغل في هذا المجال. فهل اقتحمت النساء فعلا حصنا ذكوريا آخر، بعد أن دخلن القضاء وترأست بعضهن محاكم وبعد أن صرن مرشدات دينيات وتقلدن منصب الوزيرة والبرلمانية وعميدة الكلية والقاضية، بل ومستشارة لـ»أمير المؤمنين»؟ هل سيكسر القانون ما بنته الأعراف والتقاليد وحتى الفقه من صور نمطية ترى أن من يوثق الزواج والطلاق هو رجل بلباس تقليدي يقرأ الفاتحة للزوجين الجديدين ويسمي صداقهما ويدعو لهما بالرفاه والبنين؟ هل سيدخل للمخيال المغربي سريعا صورة امرأة توثق الزواج والطلاق والرجعة؟ وهل سيرتاد المغاربة مكاتب «العدلات» كما يرتادون مكاتب «العدول»؟

الحديث حول الموضوع في فضاءات النقاش العمومي المغربي، طفت على سطحه ثلاثة توجهات. واحد حقوقي وقانوني، والثاني شرعي وفقهي، والثالث عرفي ويحتكم للتمثلات والصور النمطية أكثر من احتكامه للشرع والقانون. الحقوقيون أشادوا بالقرار واعتبروه سيرا على الاختيار الدستوري الذي أقر بالمساواة بين المرأة والرجل، وتفعيلا للفصل 19 من الدستور الذي يقول «يتمتع الرجل والمرأة على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وفي الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها».

غير أن ما نص عليه الدستور في هذا الباب يتسلل إليه ما يعيقه أو يرفضه من نافذة «الثوابت» في الدستور ذاته. مسألة الثوابت التي جاءت في الفصل الدستوري كانت وما زالت مسألة خلافية، يراها البعض مشجبا يعلق عليه رفض، بعض مشاريع القوانين أو القرارات، والبعض الآخر يراها تكريسا للخصوصية المغربية وقد أجملها الدستور في «تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والمملكة الدستورية والاختيار الديمقراطي»- الفصل الأول من الدستور. وهناك من يرى أن تقوم المرأة بالتزويج والتطليق أمرا منافيا لأحد الثوابت، أمرا منافيا للشرع، منافيا للمذهب المالكي.

الشيخ الحسن بن علي الكتاني، وهو أحد شيوخ السلفية المثيرين للجدل في المغرب، اعتبر أن مسألة مهنة العدالة أمر شرعي وليس «تنظيميا محضا» وربطه بموضوع فقهي هو شهادة النساء. وبناء على استدلال فقهي اعتبر أن «فتوى المجلس العلمي الأعلى لا علاقة لها بمذهب الإمام مالك ولا المالكية» حسب ما صرح به في صفحته على فيسبوك. وموقف الشيخ الكتاني ينزع شرعية المذهب المالكي عن قرار الملك الذي اتخذه بناء على فتوى المجلس العلمي الذي يرأسه، وحسب منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية فإن المذهب المالكي هو المذهب الرسمي للدولة.

«يا علماء المجلس العلمي الأعلى لا تقحموا مالكا ومذهبه في أمر لا علاقة لهم به». هكذا يتوجه الكتاني بالقول للمجلس العلمي الذي أفتى بجواز أن تصبح المرأة «عدلة». مضيفا «تأنيث القضاء والعدالة وغير ذلك لا يغير شيئا والحكم الشرعي لا تنسخه إلا آية محكمة أو حديث صحيح». ويضيف الكتاني، ويؤصل موقفه بناء على كون «العدل» بمثابة «نائب للقاضي» و»إن دفع إليك وصل الزواج جاز لك الدخول فيها، بل وتنجز بهذا الوصل كل الأمور الإدارية التي للزواج فيها دخل. فلا يكون العدل في هذه الحالة، مجرد موثق، بل يزوج أيضا»، معلنا أن الزواج الذي تعقده امرأة «باطل» وهو يستشهد بحديث نبوي «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها» وقول للإمام مالك «ولا تعقد المرأة النكاح على أحد من الناس ولا تعقد النكاح لابنتها».

فاتحة خير

وعلى عكس هذه الدعوى، يترافع آخرون بحجج شرعية كذلك على أهلية المرأة في أن تمتهن مهنة العدل. منهم عبد السلام آيت سعيد، عدل وأستاذ باحث في الحكامة والتوثيق ومقاصد الشريعة وعضو في لجنة الحوار في الهيئة الوطنية للعدول، وهو من السباقين الذين أثاروا هذا الموضوع من خلال كتابه «المرأة ومهنة العدول ..إشكالية الولوج بين الفقه والقانون والعرف». ويرى آيت سعيد أنه «لا يوجد مانع شرعي» يحول دون امتهان النساء مهنة العدول وأن القرار الملكي هو «فاتحة خير لتغيير جذري للمهنة» معتبرا أن الرافضين هم من «تيار تقليدي» وأن قضية «العدول» النساء كقضية الإجهاض وباقي الحريات الفردية التي تثير الكثير من الجدل بين التيار «التقليدي والمحافظ» والتيار «المتفتح» في المغرب. موضحا في حديثه لـ»القدس العربي» أن الإشكالية في هذا الموضوع تتأى من كون أنه من خصوصية مهنة التوثيق العدلي أنه ينطلق من مرجعيتين: مرجعية قانونية وليس فيها ما يمنع المرأة من مزاولة المهنة في نظره، ومرجعية الفقه الإسلامي وبالخصوص المذهب المالكي، الذي يزاوج بين الكتابة والشهادة. فأما التوثيق العصري، يقول آيت سعيد، فله صبغة رسمية للمعاملة مرتبطة بالقانون الوضعي، في حين أن موضوع الشهادة يبقى إشكاليا، فالرافضون في نظره ينطلقون من «عقل فقهي قديم» مؤكدا أنه «ليس هناك ما يمنع شرعا المرأة من مزاولة هذه المهنة بشكل صريح وأن المذهب المالكي فيه نقاش».

وهناك صور نمطية في موضوع المرأة «العدل» هي التي تعيق أكثر مما يعيق الفقه والقانون. ويقول آيت سعيد أنه في عرف الناس الرجل «العدل» هو من يعقد القران لأن «عقد الزواج عقد مقدس» و»ميثاق غليظ» فـ»كيف أن تقوم المرأة بتوثيقه؟» وهي كلها أمور مرتبطة في نظره بصور نمطية حكمت عمل المرأة حتى في مهن أخرى لكنها بدأت في التلاشي شيئا فشيئا.

هل يسير المغرب على طريق تونس؟

هل يسير المغرب على هدى تونس؟ سؤال يطرحه الكثيرون حول موضوع ولوج النساء مهنة «العدول». ويرى فيه البعض تمهيدا لنقاش المساواة في الإرث. وهو الأمر الذي أثاره الشيخ الكتاني «إذا بقيت الأمور على ما هي عليه فكونوا على يقين أن المساواة في الإرث مجرد مسألة وقت». وفي «الحداثي» الصف المناقض له، تروج فكرة أن المساواة في الإرث فعلا مجرد مسألة وقت. وقت يكون فيه المجتمع مستعدا. وسبق للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو مؤسسة رسمية، أن رفع في إحدى توصياته «المساواة في الإرث بين الجنسين» وهو ما يبيح السؤال الأول، هل يشق المغرب طريق تونس فيما يتعلق بحقوق المرأة إجمالا؟

الكثير من المحسوبين على الصف الديمقراطي في المغرب يضعون التجربة التونسية نصب أعينهم، ويرون فيها نموذجا لديمقراطية فتية في المنطقة المغاربية. وفي موضوع المرأة تتطلع أنظارهم ويتابعون ما حققته الحركة النسائية هناك، خاصة في ظل حكومة يشارك فيها حزب النهضة الإسلامي، وهو ما يشبه، من الناحية الشكلية، الوضع في المغرب، وجود حكومة يشارك فيها حزب العدالة والتنمية الإسلامي المتصدر للانتخابات التشريعية الأخيرة، وفي عهده تطرح أمور كثيرة لها علاقة بالمرأة. وكما كان موضوع الإرث الذي طرحه الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي قد أثار صدى في المغرب، وقسم الصف المغربي بين مشيد بالدعوة معتبرا أن النخبة التونسية كانت دائما «متقدمة ومتنورة» وبين منتقد لها يرى فيها نوعا من «الاستدعاء المالي للنساء» واستغلالهن في أمور تتعلق باستقطاب انتخابي بين الإسلاميين واليساريين، ففي موضوع إباحة مهنة العدل للنساء يرى الرافضون والمؤيدون أنه سير على خطى تونس التي تمارس فيها المرأة هذه المهنة منذ زمن.

وبين المشيدين بخطوة المغرب الأخيرة ومنتقديها، يبرز موقف ثالث يلفت الانتباه لما هو بعيد عن الفقه والقانون، لكنه مرتبط بالسياسة. موقف يرى في طرح النقاش خلفيات أخرى لا تتعلق فقط بموضوع المرأة بل بخلق نوع من القطبية في المجتمع المغربي بين تيار «إسلامي» و آخر «حداثي» وهو ما تعكسه ردود الفعل من كلا الجانبين حول القرار الأخير، وحول مواضع مشابهة، كموضوع نسب الأطفال المولودين خارج مؤسسة الزواج، وكل ما له صلة بموضوع المرأة والحريات الفردية، ويلاحظ أنه يذكي هاته القطبية ويقسم بالخصوص الصف الإسلامي.

*القدس العربي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *