وجهة نظر

الحوار الإسلامي المسيحي في الغرف الزرقاء

قبل خمس عشرة سنة، لم نكن نعتقد نحن المغاربة، أنه سيأتي يوم نستعمل فيه الأطروحات والبحوث التي تتناول المسيحية والأناجيل، أو بعبارة أشمل الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد)، في نقاشات محلية على صفحات الجرائد، لأننا كنا في هناء وراحة بال لا يشغلنا أحد بادعاءاته أنه تنصر أو بدأ يكتب ويملي على المغاربة فكرا مسيحيا مزيفا، فكنا نستعمل هذه الأطروحات كسلاح نواجه به الأقباط على الخصوص في حوارات نهارية وليلية طويلة في غرف زرقاء متطورة جدا تسع المائات من الزوار والأعضاء. كما كنا نواجه بها، بحجم أقل، بعضا ممن يدعون أنهم تنصروا من المغاربة في غرف من مثل غرفة “الإسلام يتمجد في المغرب” التي جاءت ردا على غرفة “المسيح يتمجد في المغرب” وإن كانت كلتا الغرفتين لا ترقيان إلى المستوى المطلوب من حيث النقاش والكم المعرفي الذي يحمله أعضاء هذه الغرف، ولا من حيث القدرة الاستيعابية للزوار والأعضاء، لأنها في أحسن الأحوال لا تتجاوز المائة عضو، ولا من حيث طريقة التسيير والإدارة، ولهذا فالتحليق كان لزاما أن يكون صوب أرض الكنانة أرض الأقباط والقساوسة أرض البابا شنودة والقس زكرياء بطرس.

ولكن بما أن تلك الغرف المغربية قد اندثرت وما عاد لها وجود، يبدو أن النقاش أصبح مطروحا على صفحات الجرائد التي قبلت أن تكون ساحة حوار مفتوحة تنشر الرأي والرأي الآخر.

ولابد أن أقر أننا لسنا من أهل التخصص، ولكن نظرا لأن الإخوة الخبراء المتخصصين في علم مقارنة الأديان في سبات عميق أو في غفلة يكتفون بنقد المسيحية في المدرجات في حوار أحادي الجانب، ارتأينا أن نأخذ المبادرة من باب الشعور بضرورة عدم ترك الساحة فارغة يتجول فيها مغاربة ادعوا أنهم تنصروا.
لقد كانت تلكم الغرف الحوارية في العالم الافتراضي عبارة عن مدرسة تؤدي رسالتها على أكمل وجه من حيث التأطير والتربية وتعليم ميكانيزمات الحوار وفن المناظرات.

ولكن لابد أن نسجل الفوارق العجيبة التي كانت بين غرف المسلمين وغرف المسيحيين الأقباط. فبشهادة كل من دخل غرف المسلمين من محايدين أو من بعض المسيحيين أنفسهم، كانت غرف الحوار الإسلامي تتميز بصرامتها في احترام الضيوف المسيحيين، فالمسيحي عندما يدخل الغرفة أو تتم دعوته للجلوس إلى مائدة الحوار، يتم الاتفاق معه على جميع الإجراءات التي من شأنها أن توفر حوارا جادا في إطار الاحترام والأخلاق، وكان للضيف الحق في اختيار المسير، طبعا من أحد أعضاء الغرفة المسلمة، كما من حقه أن ينال الحظ المتفق عليه من الوقت المحدد لكل جولة، وفضلا عن هذا فإن ما يميز الغرف الإسلامية هو انضباط أعضائها الذين يخاطبون على مستوى “التيكست” أي الحوار بالكتابة على الشاشة. وأي عضو تملكه الغضب مما جاء في الحوار وعلق بأي كلمة تحمل دلالة السب أو الشتم أو التحقير من الضيف يطرد فورا، أي يتلقى (BOUNCE) من طرف الأونر. كما يمكن الاتفاق على وضع (التيكست) في حالة جمود تام (Mute) ، احتراما للضيف وحتى لا يتم التشويش على المناظرة أو الحوار.

ومن الملاحظ أن العديد من المسيحيين عندما يريدون أن يحاوروا في موضوع ما يأتون إلى الغرف الإسلامية ولا يدخلون إلى الغرف المسيحية نظرا لما يميز هذه الأخيرة من قمع وتسلط وعدم فتح المجال إلا لأعضاء معدودين على أصابع اليد الواحدة الذين هم وحدهم من يتناوبون الحديث في الغرفة كما سيأتي تبيانه.
فعندما يدخل مسلم لغرفة مسيحية، سواء عن قصد أو خطإ، فإذا طلب الكلمة أعطيت له، فإن هو أبدى معرفة وعلما واسترسل في الكلام وأخذ بزمام الأمر رادا على شبهاتهم بشكل منطقي ومقنع، وفاضحا لهم ولزيف ديانتهم، يسحب منه “المايك” فورا. وإن هو تلعثم وأدخل الأخماس في الأسداس تداولوا عليه الأدوار وسخروا منه وطرحوا عليه كل موضوع يجهله حول الإسلام، وربما تحولت القاعة إلى ضحك واشتهزاء وتشف وبالتالي محاولة دعوته إلى المسيحية.

دخلت يوما فتاة مسلمة اسمها خولة لإحدى هذه الغرف، ولما سمعت خولة السب والقذف في أمنا عائشة، طالبت ب”المايك” لترد وتدافع عن دينها وعن أمنا عائشة، فقبل أن تُمنَح الكلمة قال لها الأونر: “مرحبا يا خولة ولكن قبل أن أعطيك (المايك) لابد أن أخبرك أن اسمك قد ذكرني بكلبة كانت عندي اسمها خولة”. فخرجت خولة فورا من هذه الغرفة لإدراكها أنهم أناس يعبثون.

كثيرا ما كان يعلن بعض الأقباط إسلامهم داخل هذه الغرف، ولن أنسى أحد المسيحيين الذين دخل الإسلام عن قناعة تامة، وذلك بعد مناظرات طويلة مع بعض الإخوة المصريين المتخصصين في مقارنة الأديان، ممن يحفظون نصوص الأناجيل عن ظهر قلب مع ذكر رقم الآية والسفر، فسمحت له الغرفة بأن يتحدث طويلا في حلقات عن الغرف المسيحية وعن كيفية تسييرها وعن الأموال التي يتلقونها وعن خلايا البحث المختلفة والتي تختص كل واحدة منها في مجال محدد مثل أن تتخصص خلية بدراسة صحيح البخاري والبحث في الأحاديث الغريبة التي لا يستطيع المسلمون (ذوو الفهم السطحي للإسلام) الإجابة عنها كحديث السحر الذي تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعدما يذكر القبطي الحديث يذيله بسؤال يقول فيه: كيف تأخذون دينكم عن مسحور؟ ألا تشهد عائشة بقولها أن محمدا كان يخيل إليه أنه أتى أشياء وهو لم يأتها، ويخيل إليه أنه جامع نساءه وهو لم يجامعهن؟ بهذه الصيغة يتم طرح السؤال بعد النبش في صحيح البخاري والحديث صحيح لا نقاش فيه.

وهذا يدل على أن المسيحيين قد طوروا من آليات البحث وتجاوزوا الاستشهاد بأحاديث ضعيفة أو موضوعة لا تعتبر حجة عند المسلمين. كما أن خلية أخرى تكلف بقراءة القرآن والبحث عن الأخطاء اللغوية وما يعتبرونه تناقضات، ومن مثل ذلك قوله تعالى (حتى يقولُ) وقوله (إن هذان لساحران) وقوله (لو أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) فيكون السؤال: إن الله في القرآن يأمر بالفسق كما هو مبين في الآية، فضلا عن البحث في الناسخ والمنسوخ، والبحث عن الآيات التي تمجد النصارى من مثل قوله تعالى: ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليهم وأني فضلتكم على العالمين) فيكون السؤال ألا يقر القرآن بأننا أفضل الأمم؟

كما يبحثون في كل ما يوحي كأنه خيال جامح أو أسطورة ككلام النملة، وقصة الهدهد، والجن والعفاريت…وأسئلة أخرى كثيرة فيصطادون بها ضعاف العلم والمعرفة فيقف المسلم المسكين مشدوها مقرا فعلا بأن الله تعالى قال هذا ولكنه لا يعلم جوابا عن ذلك.

كما يبحثون في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أي شيء يبدو غريبا ويمكن تحويره وتحويله إلى سؤال يصعب على ضعيفي العلم أن يجدوا له جوابا مثل زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بطفلة صغيرة اسمها عائشة ألا يعد هذا اغتصابا؟

ومن الأمور التي حكاها لنا هذا المسيحي المسلم عندما كان في فرنسا بإحدى الكنائس الكاثوليكية كيف أنه شاهد مسلمين تم استغلال فقرهم وحاجتهم وعدم امتلاكهم لوثائق الإقامة، فكانوا في النهار يقيمون القداس والطقوس طمعا في الأكل والمأوى وفي الليل يبيتون في الاستغفار والصلاة والبكاء شعورا منهم أنهم خانوا دينهم كرها وطمعا.

إن ما يمكن أن يستنتج من تلكم الحوارات والمناظرات العظيمة هو أن المصريين المسلمين، نظرا لاحتكاكهم اليومي مع الأقباط، أصبحوا على إلمام كبير بعلم الأديان ومنهم من يحفظ الكتاب المقدس عن ظهر القلب الشيء الذي لم يستطعه راهب أو قس أو قمص أو مطران أو بابا. كما أنهم امتلكوا تجربة كبيرة في علم المناظرات حيث لا يخاطبون أو يحاورون الخصوم انطلاقا من القرآن الكريم لعلمهم أن هذا الخصم أصلا لا يؤمن بالقرآن ولا بالدين الإسلامي، وبالتالي فهم دائما ينطلقون مما يؤمن به الخصم من عقيدة وكتاب مقدس حتى يفندوا ما عنده انطلاقا مما يؤمن به. كما أنهم اكتسبوا طرقا رائعة ومدهشة في أساليب الحجاج منها حسن التملص من المآزق، كأن يجيب الشخص عن سؤال بسؤال، أو أن يجد مخرجا منطقيا ومقبولا من حصار معرفي ما، إذا غاب عنه شيء ما، حدث يوما أن سأل مسيحي أحد الإخوة سؤالا مؤرقا في اللغة العربية من خلال آية في القرآن الكريم هي (لنعلم أيُّ الحزبين) والمسيحي يعتقد أن الصواب هو (لنعلم أيَّ) على أساس أنها مفعول به. فلم يكن الأخ المسلم يملك جوابا وربما بدا أن المسيحي كان مقنعا بأنه خطأ لغوي في القرآن، ولنتخيل الأمر مع وجود مئات الحضور والشهود على هذا الحوار، فكان أن قال الأخ للمسيحي: إن القرآن كلام الله وهو المعيار الذي نقيس عليه اللغة ولا نقيسه على ما عندنا من لغة..وبما أنك أنت قد استطعت في زعمك أنك استدركت خطأ لغويا على القرآن الذي هو أصل اللغة، فهذا معناه أنك لغوي كبير ومتضلع في اللغة، ولذلك أثبت لي أنك كذلك وقل لي ما هي أنواع الواوات في اللغة العربية؟ فتلعثم المسيحي ثم سكت. مع أن الأخ الكريم غاب عنه أن من أهم آليات الحوار مع الآخر الإلمام باللغة العربية في مجملها وخصوصا فيما يتعلق ببعض الآيات الكريمة التي ظاهرها يوحي بأن بها خلل ما مثل الآية محل النزاع، والتي إعرابها كالتالي: (لِنَعْلَمَ) اللام لام التعليل و (نَعْلَمَ) مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر (أَيُّ) اسم استفهام مبتدأ مرفوع، وليست منصوبا على أساس أنها مفعول به لفعل نعلم. وبالتالي فالخطأ كان في ذهن المسيحي والجهل كان في ذهن المسلم. ورغم أنه أحسن التخلص ولكن حسن التخلص لا يكفي لأن الناس يدركون أنه لم يجب بل تهرب من الجواب ليس إلا. وهذا أمر غير مقبول إطلاقا.
عموما إن جودة الحوار في مثل هذه الغرف رهينة بقدرة أصحابها على تسييرها وقدرتهم على تدبير الحوار مع توفير الأجواء الكاملة حتى يمر هذا الحوار في ظروف صحية بعيدة كل البعد عن الفوضى ولغة السب والشتم والاستهزاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *