وجهة نظر

تسول الأطفال بمدن الهامش

وأنا أتصفح الجرائد في الصباح كالعادة بالمقهى، وقف على رأسي طفلان لايتعدى عمرهما إثنا عشر سنة تقريبا، يرتدي كل منهما جلبابا أبيضا، يحملان لوحة من الخشب مكتوبة عليها سورة من القرآن الكريم، وبدون مقدمات طلبا مني ” صدقة ” فقلت لهما ألا تخجلان وأنتما تتسولان بكلام الله، فرد أحدهما وعلامات الارتباك برزت واضحة على وجه المائل إلى السمرة قائلا : ” إنها تعليمات الوالد ياسيدي ” فحكى لي قصتهما كاملة ، وأطلعاني على المنطقة التي يقطنان بها وتسمى ” منطقة البروج ” وهي المنطقة التابعة لإقليم سطات المشهورة بسوق السيارات المستعملة وأغلب ساكنتها يهاجرون إلى ايطاليا .

هذه الحكاية البسيطة في الظاهر، تحمل الكثير من الأسئلة في العمق، وتجعلنا جميعا نتساءل ؟ لماذا هؤلاء الأطفال يتنقلون من مدينة إلى أخرى وهم يتسولون بسور من القرآن ؟ كيف يمكن أن نبني مجتمعا قويا ومتوازنا ونحن نصادف كل يوم أطفالا كل واحد يخترع طريقة جديدة للتسول ؟ من السبب في صناعة هذه الظاهرة ؟ ولماذا الدولة تعطي ظهرها على هذه الظاهرة الحاطة من الكرامة ؟

أسر إلي الطفل” المتجول ” وهو يحكي لي قصته مع التسول واضعا يده على طاقيته الخضراء، بأنه يمقت هذه الحرفة مقتا شديدا وأن أباه رجل جشع جدا، فقد قام بتدريبنا يحكي، بعد أن ألحقنا بالكتاب لفترة وجيزة ، بعدها كنا نسافر معه وفي كل مرة يوصينا بالطريقة المثلى لجلب عطف الناس، وبعد أن اشتد عودنا قال لنا : ” أروني حنة أيديكم ” أيها الأبطال. ومند أكثر من سبع سنوات ونحن على هذا الحال، لانعرف طريقة أخرى في العيش في هذه الحياة سوى الكذب والاحتيال، لقد شخنا مبكرا في هذه الحرفة الحقيرة.

كان هذا الطفل يتكلم كأنه رجل بالغ، يعرف جيدا أنه محتال أكثر من كونه متسولا، لأن وضعهم المادي كان ميسورا ، ” الوالد يتوفر على أراضي وعلى قطيع من الغنم ورؤوس من الأبقار ” كما أقر لي وهو يحرك رأسه متأسفا. وعندما سألته لماذا تستعملون ألواح القرآن في حرفتكم هذه ؟ أجابني : أنا مثلك لاأعرف، فالفكرة فكرة الوالد وهو من يستطيع أن يجيبك عن هذا السؤال.

اليوم بمدن الهامش، ظاهرة تسول الأطفال، أصبحت جد مقلقة، كل بطريقته وبأسلوبه الفريد في التأثير على قلوب الناس، فهناك من يحكي لك قصة طلاق والدته وأنه يعيل والدته المريضة وأخته الرضيع، وهناك من يتحدث عن أبيه المقعد، أو المصاب بالشلل الكلي ولايستطيع العمل أو حتى التحرك، وهناك من يقص عليك روايته المؤلمة بأنه يعيش مع إخوانه الأربعة وكل واحد مكلف بتأدية واحدة من متطلبات البيت، وقد تكون فاتورة الماء أوالكهرباء أو غيرها.

قصص كثيرة ومأس متعددة، وفي كثير من الأحيان يصعب أن تحدد من الضحية، هل هؤلاء الأطفال المشردون، الذين اختاروا كرها هذه الحرفة أم المجتمع الذي يتعاطف معهم ، فيتقاسم معهم حزنهم ومعاناتهم، وينهرهم تارة أخرى، وهو يصب غضبه عليهم مفرغا كبته وامتعاضه من بؤسهم وتشردهم .

الدولة لم تقف مكتوفة الأيدي في التصدي لظاهرة التسول، خاصة أن نسبة المتسولين في ارتفاع مستمر وقد بلغ العدد التقديري حسب إحصائيات وزارة التضامن والأسرة والتنمية الاجتماعية إلى حوالي 250 ألف بمعدل 51.1 في المائة ويشكل الأطفال 10 في المائة، فقد حاولت التخفيف من الظاهرة بإدراجها في القانون الجنائي بمقتضى الفصول 623، 723، 823 التي تنص على عقوبات حد الاعتقال والحبس من 3 أشهر إلى سنة، لكن الأمر يختلف كثيرا عندما يتعلق بالأطفال لأن الفعل الذي يقومون به في غالب الأحيان يكون خارج عن إرادتهم الحرة.

وبفضل جهود الجمعيات الحقوقية التي تدافع عن الطفولة، أرتأت كل حكومة جديدة أن تسن مجموعة من الإجراءات لحماية الأطفال في كل الوضعيات، وقد اختارت وزارة التضامن والأسرة والتنمية الاجتماعية اعتماد 3 مقاربات لمعالجة الظاهرة، أولا المقاربة الاجتماعية، تم ثانيا المقاربة الزجرية ، وثالثا المقاربة التحسيسية، من أجل القطع مع ثقافة الكسل والتواكل، لكن كل هذه الجهود باءت بالفشل لأن المعالجات كانت متسرعة ولم تبلغ عمق المشاكل الحقيقية لاستفحال هذه الظاهرة وتغلغلها المستمر.

ووجب تأكيد أن مدن الهامش تعرف نسبة أقل من المتسولين مقارنة بمدن المركز، لذلك، فإن تنزيل مشروع الجهوية الموسعة كفيل بخلق ديناميكية اقتصادية وتنموية تسهم بشكل مباشر في استقطاب وإدماج الأطفال في وضعية صعبة في النسيج المجتمعي المنتج، وكذا إشراك الجمعيات المختصة بحقوق الطفل ودعمهما، سوف يسهل التصدي لظاهرة تسول الأطفال ومحاصرتها أو على الأقل التخفيف منها، لكن على الدولة أن تدعم الإعلام الجهوي، كذلك ليقوم بدوره الفعال في نشر ثقافة الاعتماد على الذات، والتخلي بصفة نهائية على ثقافة “الصدقات “.

*كاتب وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *