وجهة نظر

مسار الثقة: نموذج تنموي أم مخططات قطاعية؟

الحلقة 1

لا يخلو الاعتراف بفشل النموذج التنموي من أعلى مؤسسة في هرم الدولة من خطورة، ولكنه أيضا مفعم بالجرأة، لأنه إعلان صريح بضرورة وقف الحلول الجزئية والترقيعية التي تزيد الأزمات حدة على المديين المتوسط والبعيد، رغم ما يبدو عليها في الوهلة الأولى من نجاعة وإنقاذ، وما قد تعرفه من حماسة وتجاوب، وما تخلفه من إحساس بالتغيير، لأن كل ذلك سرعان ما يتبخر ويعمق انعدام الثقة في المؤسسات وفي سياسة الدولة ويفاقم الإحساس بالخوف من المستقبل . أما خطورته فتتمثل اساسا في أمرين اثنين:

1- الآثار النفسية على الأفراد، حيث يشعرون أن سني أعمارهم قد ذهبت هدرا، وأن كل آمالهم بتغيير أوضاعهم الاجتماعية قد تبخرت ولم يعد لهم ما ينتظرونه، كما يستثقلون بداية مسار جديد دون ضمانات، فيشعرون بأنهم مهددون بتكرار تجربة فاشلة يختمون بها حياتهم، خصوصا الجيل السابق منهم، وهي ضمانات تبقى ضعيفة مادام النموذج الجديد المنتظر سيقود مقترحاته النظرية وتطبيقاته العملية الأشخاص عينهم ممن كانوا جزءا من الفشل السابق، بل حتى من الفساد السابق. وذلك لأن الفضاء السياسي والحزبي لم يعرف أي تغييرات جذرية في العقليات والطرائق التي عرقلت النمو وأجهضت الفعل الديمقراطي سواء عن سوء تقدير كما هو الأمر مع بعض القيادات الوطنية والتاريخية، أو سوء نية كما هو شأن القيادات الادارية والتقنوطراية التي سيطرت فيما بعد فخدمت أجندات الهيمنة الاقتصادية والتحكم السياسي لفئة معينة.

2- الآثار السلبية على الاستثمار، خصوصا الذي يبحث عن فضاءات تنافسية شفافة ومنظمة، والذي لا يستند إلى المواقع السياسية بقدر ما يعتمد العرض والطلب وجودة الخدمات، ويحتاج إلى جو عام تسوده الثقة والأمل، وإلى كفاءات ويد عاملة مؤهلة لا يمكن لنموذج تنموي فاشل أن يكون قد هيأها، وإنما سيتم تهييئها لاحقا بالنموذج الجديد إن نجح؛ فالفشل في هذه الحالة ليس اقتصاديا فحسب، بل إنه قيمي وتعليمي وتكويني، والخلاصة أنه لا يوجد الانسان المسئول القادر على رفع التحدي وإعادة البناء، بل يوجد بشر يحتاج بناؤه استنهاض الهمم واستنبات القيم، نظرالتراجع قيم المواطنة والمسئولية بسبب السنوات الطويلة من التهميش والتحقير والاستغلال والغموض، ناهيكم عن فساد السياسة التي تحولت إلى ينبوع الريع والتسلق وخدمة المصالح الشخصية ولو على حساب الوطن ومستقبله دون محاسبة فعلية يمكن أن تعيد ولو جزءا يسيرا من الأمان.

تلازم الاقرار بفشل النموذج التنموي الحالي بتوجيهين رئيسيين: الأول هو ضرورة صياغة نموذج جديد وليس مجرد إصلاح للقديم، لأن جميع محاولات الاصلاح السابقة كانت في حقيقتها إقرارات بفشل جزئي لذلك النموذج، لكنها لم تبلغ درجة التسليم التام بضرورة صياغة كلية جديدة، لأن التشخيص لم يكن سليما حينها لتوكيد جوهرية الفشل لإعادة البناء، وربما كانت تلك الاصلاحات الجزئية في حد ذاتها سببا رئيسا في بلوغ نهاية النفق، مما فرض شق طريق آخر للاستمرار. أما التوجيه الثاني فيتمثل في ضرورة مشاركة الجميع أفرادا ومؤسسات، بمعنى أن الأرضية السياسية والحزبية باتت أضيق من المنتظر، خصوصا وأن الأحزاب لم تراكم غير تجربة تدبير الانتخابات وتوزيع المناصب وتنفيذ المشاريع في أحسن الأحوال، وليس إعداد الرؤى والمشاريع. وقد توقف دورها كمؤسسات للاقتراح منذ أن ولى زمن الزعماء والمنظرين الكبار وتفريغها من الحمولة الاديولوجية التي عوضتها إجراءات تقنوية سطحية بات الجميع يلهث وراءها، فصار السياسي عندنا هو الاطار الاقتصادي والمالي والاداري، وقد زاد كسالى الطبقة الفرنكفونية ذوي التفكير المسطح طين الأزمة بلة، لأن تكويناتهم التقنية التي بوأتهم المناصب غير متشربة بفلسفة الغرب ورؤيته الحداثية إضافة إلى جهلهم بالمجتمع المغربي ومقوماته، فبات واقعهم الحقيقي والمنسجم الذي ينتمون إليه هو الطائرات التي تربطهم بين ضفتي المتوسط.

انبرت الأحزاب المختلفة تعقد الاجتماعات واللقاءات استجابة للتوجيه الملكي باقتراح مشروع تنموي بديل، وهي في كثير من الأحيان مجرد حركات كرنفالية كلما تعلق الأمر بالإرادة الملكية، ولا يملك أغلبها الجرأة المطلوبة ولا الرؤية المفروضة، كما أن معظمها فارغ إلا من الانتخابويين والانتهازيين المتربصين بهذا الموقع أو ذاك، ناهيكم عن جحافل المتملقين المعتاشين من فتات القيادات. لكن ليس كل شيء مظلما بطبيعة الحال، وبصيص الأمل باق مهما قلت منافذه، والإيجابي لابد من ذكره، ومثاله ما قام به حزب التجمع الوطني للأحرار، فقد صاغ ما يراه صالحا لأن يكون مشروعا لنموذج تنموي جديد، وطرحه للعموم من أجل مناقشته وإبداء الرأي فيه، الشيء الذي دفعني إلى قراءته مرات كثيرة والتدقيق في شكله ومضمونه وكشف قوته وتناقضاته، متمنيا أن يكون في صدر التجمعيين متسع لتقبل النقد الذي غالب قراءتي، لكنني فعلت ذلك متحصنا بموضوعية الأكاديمي غير متحيز لرؤية إيديولوجية او انتماء حزبي، ولا متحامل أو متوجس. فماهي مكامن القوة في مسار الثقة ومكامن الضعف فيه؟ وهل يصلح فعلا مشروعا لنموذج تنموي جديد؟

لا يقتصر النموذج التنموي على مجرد النمو الاقتصادي، مهما بلغت درجة هذا النمو، ومهما كانت خططه ناجعة، ولا يعتمد تقييمه على إحصاءات عددية مجردة، لأن النمو الاطرادي للإحصائيات ليس مؤشرا على النجاح، وإنما مخطط شامل غايته تغيير المجتمع في سلوكاته من خلال تحسين ظروفه المعيشة، ليتحول هذا الانسان المتغير بدوره إلى جوهر التغيير المنشود والتقدم المنتظر وضامنه الحقيقي.

ولا يقدم النموذج التنموي جزئيات قطاعية بالضرورة، وإنما ينكب على التمفصلات بين تلك القطاعات، حتى يتم البناء الكلي، وهو يفترض تضحية في الحاضر من أجل المستقبل، هذه التضحية تحتاج تعبئة اجتماعية، لان الذي سيضحي هو المواطن. لهذا، فإن ما يحدث عادة في الدول النامية كما لاحظ أندريه دوما (André Dumas)هو تنزيل نماذج للنمو الاقتصادي مستوردة من الدول المتقدمة ويتم تكييفها مع بيئتها، مما يخلق تناقضات يتعاظم تفاقمها مع الزمن حتى تصل للباب المسدود ليتم استبدالها بأخرى وبالعقلية ذاتها ، فتتكرر الأخطاء عينها وتعود الأسئلة في حركة دائرية تعيدنا باستمرار إلى نقطة البداية أو إلى مقربة منها، وربما هذا ما حدث في المغرب، إذ يمكن القول أنه لم يكن هناك نموذج تنموي أصلا بقدر ما كانت هناك نماذج نمو اقتصادي تم استنساخها خصوصا من فرنسا، وأنه ربما اليوم نكون قد طرحنا أفضل سؤال منذ الاستقلال: ماذا يحصل؟ ومالعمل؟

المهم أننا فهمنا أخيرا أن ثمة فشلا، حتى وإن أخطأنا في موضعته، إذ هو في الحقيقة فشل في المخططات القطاعية المتعاقبة وليس في نموذج تنموي ربما غير موجود أصلا، سواء تلك المخططات التي وصلت إلى نهايتها أو تلك التي أجهضت في الطريق لأسباب مختلفة، أهمها الفساد بمختلف أشكاله، والترضيات الحزبية في مناصب المسئولية بدل الكفاءة وهو ما نبه إليه خطاب داكار وقبله خطاب افتتاح الدورة التشريعية، وهدر الميزانيات الذي نبه إليه خطاب “أين الثروة”، ثم الإخلال بالواجب وسوء التقدير وهو ما لمحت إليه الإعفاءات المتتالية منذ أشهر، بدءا من الوزراء وصولا لصغار المسئولين على خلفية مشروع منارة المتوسط.

ربما أكون مخطئا في التقدير فيما يتعلق بوجود نموذج تنموي أصلا أو لا، ولكن المهم هو أننا بتنا نمتلك الوعي بضرورة نموذج تنموي، سواء أكان هو أول نموذج سنبنيه أو نموذجا لاحقا نؤسسه على أنقاض السابق الفاشل، بمعنى أن المؤسسة الملكية قد وصلت إلى الاستنتاج النهائي بعد سلسلة من الاستنتاجات الجزئية، وبناء على هذا الاستنتاج يمكننا وضع منطلقات سليمة، لكنها منطلقات متمفصلة (articulés) وليست مفصولة (isolés) أومعزولة عن بعضها بعضا مع تحديد الأهداف البعيدة أولا، ثم المتوسطة ثانيا، فالقريبة ثالثا، ثم نعمم القناعة بواسطة التعبئة الاجتماعية لتتحول إلى إرادة جماعية، درءا للاصطدامات الكبرى التي تهدده بالانهيار في أي لحظة وإعادتنا إلى نقطة االصفر؛ أما الاصطدامات الصغرى وجيوب الرفض فلا بد من وجودها كما هو الحال في أي مجتمع ومع كل تغيير ممكن، ورغم ما تحدثه من إزعاج إلا أن وجودها إيجابي، حيث تلعب دور المنبه الدائم والموقظ الملازم لكل تراخ أو غفلة محتملة، كما أنها تؤدي دورها في التقييمات المرحلية، لأنها عادة ما تركز على السلبيات التي قد تسقط من حسابات المسئولين، فتسهم في المعالجات المبكرة لمكامن الخلل، لهذا السبب تكون حرية التعبير شرطا أساسيا لنجاح أي نموذج تنموي.

مقدمة عزيز أخنوش: الانتساب للأسرة السياسية بدل الانتماء الايديولوجي

استهل عزيز أخنوش مقدمته لمقترح النموذج التنموي “مسار “الثقة” بإقرار مفاده أن لرجل السياسة دورين اثنين: أولا إنتاج الأفكار المنسجمة والواضحة والمنبثقة عن التفاعل مع المواطنين ومع مختلف المتدخلين من هيئات مدنية وقوى حية، وثانيا تطبيق تلك الأفكار على أرض الواقع، أفكار يشترط فيها الانسجام مع قيم ما يسميه “الأسرة السياسية” بدل الايديولوجيا أو المرجعية المذهبية، وهو مصطلح جديد تماما في القاموس السياسي والحزبي المغربي، ولكن أخنوش يفضله لأنه جامع حسب رأيه، بينما الايديولوجيا مفرقة، وهو أمر غريب تماما، لأن الايديولوجيا هي التي تؤدي دور الادماج في جماعة معينة، سواء كانت دولة أو طبقة اجتماعية أو هيئة سياسية، وهي تفرق فعلا، لكن في إطار الصراع الموضوعي بين الطبقات والفئات، مما يحقق التقدم في التاريخ. بينما يحيل مصطلح الأسرة على القرابة الدموية والبيت المشترك وعلى التعاون المصلحي في دائرة ضيقة ، ولا ينفي الصراع نهائيا وإنما يقلص أفقه فحسب، بمعنى أن تغيير الوضع من التموقع في الايديولوجيا والمرجعية المذهبية إلى التموقع في الأسرة السياسية لا يغير من واقع الصراع والتنافر، بل يضيق دائرته فقط، وهي النزعة التقنوقراطية التي بدأت تسيطر على العديد من دول الغرب مستغلة التخمة الايديولوجية للشعوب لإبعادها عن السياسية تيسيرا لسيطرة اللوبيات الاقتصادية عليها، ومن أبرز مظاهرها تتفيه العقل السياسي الشاسع والناجع ذي العمق التاريخي، وتكريس ذهنية الحكامة الضيقة والتافهة، وهو ما يحول الدولة إلى أرخبيل من السلطات المعزولة والقطاعات المنفصلة والهيئات ذات التخصصات الوحيدة، فيسهل اختراق الشعوب في قيمها واستغلال قوتها الاستهلاكية وثروتها الانتاجية، تماما كما يسهل التحكم في قرارت الدول ومواقفها.

إن الحديث عن الأسرة السياسية بدل الايديولوجيا والمرجعية الفكرية والمذهبية معناه ترسخ الآلية في أداء الأدوار والتقنوية في إنجاز المهام، وتعطيل للانتماء المبني على القناعات الفلسفية والفكرية عند الأفراد، واجتثاث للفهم المستند إلى آليات التحليل العميق والنقد البناء، وتعويض كل ذلك بالارتباط بجماعة ما اعتمادا على المشاعر الجميلة من جهة، وعلى التبعية والخضوع للقادة من جهة ثانية، تماما كما يخضع الطفل لأبيه في الأسرة التقليدية وكما يتبع أخاه الأكبر ولا يسابقه أو ينافسه، بينما الدولة لها حاجات أكبر من مشاعر الأفراد ومن ضمائرهم.

حاول عزيز أخنوش في مقدمته لمسار الثقة أن يمسك العصا من الوسط مما أوقعه في بعض القياسات الخاطئة، فهو من جهة يشيد بما تم إنجازه، ومن جهة أخرى يقر بأننا مقبلون على مرحلة جديدة تحتاج بعض إشكالاتها لأجوبة جديدة لأن الوصفات السابقة أبانت عن قصورها، تماما كما يقر بمشروعية بعض التوترات التي تظهر هنا وهناك وتترجم حسب تعبيره مطالب مشروعة ناتجة عن اتساع الفوارق، ثم استغلال بعض الجهات – التي وصفها بالمغرضة – لتك المطالب. لكن الحقيقة التي لم يقلها اخنوش هي تلك المرابضة في ثنايا التنقل بين الايجابي والسلبي، والمختفية في غبار الفضفضة التي اعترت كلامه، لأن البداية السليمة تقتضي تحديدا دقيقا لنسبة الايجابي والسلبي في مسارنا عبر عقود من الزمن، والاعلان الصريح عن ضرورة نموذج تنموي جديد معناه ان السلبي قد غلب على الايجابي وان القلق والاحباط نتيجة طبيعية للوضع، والغضب الذي حرك تلك التوترات هو من التجليات القوية للرغبة في التغيير؛ ومادام عزيز أخنوش يريد استبدال تلك المشاعر السلبية، التي سماها خطأ أو سهوا بالقيم، بأخرى إيجابية، فإنني أؤكد أن مشاعر الغضب الذي عبرت عنه تلك التوترات أفضل من مشاعر اليأس الذي سيطر على الفئة العريضة الصامتة، لأن اليائس المحبط أقل نفعا من الغاضب الجامح وأكثر ضررا منه، واستثمار الغضب وتحويله إلى عطاء أيسر من استنبات الأمل في نفوس يائسة مسترخية تعاني القلق والاكتئاب. وباختصار، يحتاج الغضب إلى إسفنجة إيديولوجية تمتصه وتحوله إلى قوة اقتراحية وإنتاجية، بينما يحتاج القلق والاحباط إلى علاج تدريجي يأخذ من الزمن الكثير إن تكلفت به “الأسرة السياسية” الطيبة الودودة، بينما يمكن للإسفنجة الايديولوجية أن تعصر عليه الغضب الذي امتصته من الفئة الأولى فتعالجه بالصدمة بدل الحنان الزائد والخطاب الشعري الرقيق، وكل هذا في إطار نموذج تنموي يرسم بدقة مسار الفعل السياسي ويحدد حيثيات الخطاب الذي يجب توظيفه، لأن خطاب التطمينو”اللابأس” الذي وظفه عزيز أخنوش وما يصاحبه من غزل عفيف بشمطاء الواقع المأزوم هو في حد ذاته من أسباب الأزمة، ومولد رئيس لتلك المشاعر السلبية، فقد بات الجميع يعتبرونه من باب الضحك على الذقون، خصوصا حينما يصدر عن أشخاص كانوا جزءا من المسار السابق بكل إخفاقاته، أو ينتمون “للعدو الطبقي” لغالبية المجتمع.

إن أقوى حقيقة في مقدمة عزيز أخنوش هو مطالبته الصريحة بتغيير السلوك وعدم النطق بغير الحقيقة، لكنه بقي يلوك علقة الحقيقة في فمه دون أن يرميها، يقترب منها ليبتعد، لأنه مازال وفيا للخطاب السياسي السابق مكرها، وهو أمر طبيعي مادام من الصعب الانعتاق بتلك السرعة التي نريدها مهما حسنت نوايانا، هنا لابد من مراكمة التحليلات والقراءات لمختلف الخطابات بكل جرأة وموضوعية سواء كانت صادرة عن الهيئات والمؤسسات أو عن الشخصيات الفاعلة، فعزيز أخنوش عاد ليناقض كل تطميناته السابقة حول النصف المملوء من الكأس ليؤكد على “الحكرة” والظلم والاقصاء، وليتحدث عن الخطر الذي يهدد التلاحم الاجتماعي، خصوصا حينما اعتبر وعود محاربة الفساد والقضاء على الزبونية وعودا حالمة، وهي إشارة ضمنية للفشل الذريع لمشروع حزب العدالة والتنمية، الحزب الذي استثمر الحراك الاجتماعي ووصل إلى السلطة من خلال الركوب على مطلبه الجوهري: “محاربة الفساد”. وبدل هذا الشعار الفضفاض يرى أخنوش أن ثمة أولويات وهي التي انكب عليه مشروع حزبه للنموذج التنموي: الشغل والتعليم والصحة. لكن مالجديد في هذا؟ وهل يمكن لنموذج تنموي أن يبنى على هذه القطاعات الثلاثة أم أنها يجب في حد ذاتها مجرد آليات للمشروع وليس غايات له؟

يتغيا النموذج التنموي تغيير سلوكات المجتمع ليستمر التقدم بعد ذلك بسلاسة، بعيدا عن التطاحنات التي تعرقله والانتهازية التي تفسده، وتتم الاصلاحات والمعالجة الدائمة للمشاكل بيسر نتيجة الاستجابة الواعية للأفراد االواثقين في القادة وفي المسئولين ومختلف الفاعلين الذين يحملون تلك القيم ويتمسكون بها أكثر من غيرهم، بمعنى بناء “مسار الثقة” كما هو عنوان مشروع حزب التجمع الوطني للأحرار، فهو عنوان قوي ويعبر عن روح نموذج تنموي حقيقي، لكن جسد المضامين قد زاغ عن الروح التي حملها العنوان، كأنها روح سكنت جسدا غير جسدها، مما يقتضي عملية جراحية لخلق التوافق بين الاثنين وهو ما يتم من خلال النقد والتحليل بلغة “الحقيقة” على حد تعبير أخنوش، ولا أنكر أن العنوان هو الذي جذبني إلى الاهتمام والقراءة لأنني وجدت فيه تعبيرا عميقا عن جوهر النموذج التنموي.

وبناء على ما سبق، فإن الشغل والصحة والتعليم ليست غايات وإنما آليات، إذ بالتربية على القيم الانسانية وقيم المواطنة والتكوين الجيد للانسان يمكن بناء “مسار الثقة”، وبتكافؤ الفرص واعتماد تلك الكفاءات التي تم تكوينها حسب الاستحقاق يمكن بناء “مسار الثقة”، والعناية بصحة الانسان يحقق الاطمئنان والانتاج معا وبناء “مسار الثقة”، بمعنى أن ثمة غايات أكبر هي تلك القيم التي تغير السلوك والعقليات، وإن تم ذلك فستتغير كل القطاعات، بل أكثر من ذلك سيتحول الانسان إلى حامل للتغيير والتطور، وسيسير كل شيء نحو الأفضل دون الحاجة إلى التدخلات الكبرى باستمرار. لكن البداية ليست في المجتمع في حد ذاته وإنما في الارادة القوية للقائد واستعداده لمواجهة نفسه أولا، إذ لا يمكن تغيير المجتمع كما تغير الأشياء، فهناك بداية، والبداية لا يصنعها إلا الزعيم الذي يبدأ بنفسه، فيشرع في التضحية ويصير نموذجا للآخرين، لتتناسل التضحيات وتتعاظم القناعات، ثم يبحث عن مرافقيه ومعاونيه في شتى المجالات، يبحث عن الناطقين بلغة الحقيقة ولا يحيط نفسه بالمتزلفين والمتملقين وذوي المصالح الضيقة والمتسلقين ممن ينثرون حوله الأوهام، ففريق العمل هو بصر الزعيم الذي ينظر من خلاله، ويجب ان يكون بصرا حديدا لا أعمشا ولا أحولا، أما أن يحتفظ الزعيم بوضعه السابق وبالأشخاص السابقين من حوله ثم ينشد التغيير وإعادة التأسيس للقيم فذلك – لعمري –مفقدة للثقة لا بناء لها.

يتبع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • التريدي
    منذ 6 سنوات

    تحليل وتفكيك دقيق للواقع السياسي المغربي الراهن وتشخيص للمنتظر احسنت ياابراهيم علهم يسمعون ويعون وينطلقون الى العمل احسنت صنعا وابدعت تحليلا