وجهة نظر

دروس المقاطعة الشعبية

بغض النظر عن المحاولات المشبوهة للتشكيك في النوايا والدوافع وبناء الفعل الشعبي الواعي الذي شهدناه للمجهول، لا يملك المرء إلا أن يحي بصدق هذا التحول العميق في بنية الوعي المجتمعي المغربي والانتقال الذي يعرفه من حالة الانتظارية السلبية والقبول بالأمر الواقع إلى حالة النضال الشعبي الميداني بأشكاله المختلفة. ليست المرة الأولى بطبيعة الحال التي يستثمر فيها المجتمع فضاءات التواصل الاجتماعي للمحاولة في التأثير على القرار العمومي، فقد شهدت بلادنا سوابق في هذا المجال متفرقة في الزمان والمكان، لكنها بصدق المرة الأولى التي نشهد فيها حراكا نوعيا من حيثُ حجم التفاعل معه ومن حيث الفاعلين الموجه إليهم.

ولعل من حسنات النكوص السياسي الذي عرفته بلادنا منذ البلوكاج سيء الذكر أن أصبحت المعركة اليوم تدور بين المجتمع وبين فاعلين كانوا لغاية اليوم يختبئون خلف الدولة ويستفيدون من مساحات الفراغ السياسي والقانوني في جنح الظلام، وها قد انقلب السحر على الساحر وأصبح ما ظنوه بالنسبة إليهم فوائد لتبخيس أدوار الوساطة السياسية – التي كانت تقوم بها الهيئات الحزبية والفعاليات المدنية – مصائب جعلتهم وجها لوجه أمام المجتمع الذي اضطر إلى الدفاع عن نفسه في غياب مَنْمِنَ المفترض أن يدافعوا عنه وعن مصالحه.

لقد كانت اللوبيات الاقتصادية لحد اللحظة في منأى عن المحاسبة والمراقبة بفعل قوانين صيغت على المقاس، وأعراف جعلت منها فاعلا يؤثر في القرار ولا يتأثر، لتجد نفسها اليوم تحت الشمس، مطالبة بأن تقدم الحساب للمجتمع في مشهد ينبئ بالتطور النوعي الذي حصل ولا زال يحصل في الوعي المجتمعي.

ولعل من أهم ما يمكن استخلاصه من دروس حملة المقاطعة الشعبية ما يلي :

1- اختيار ثلاث مواد ضرورية للمعيش اليومي للمواطن كان رسالة قوية مفادها أن المطلب منصب على ضرورة ضمان الحد الأدنى من العيش الكريم للمواطن، فليست القضية قضية غلاء أسعار مرتبط بمواد كمالية يمكن الاستغناء عنها، بل هو تعبير عن أن الغلاء وصل إلى مواد من المفترض أن تكون في متناول المواطن البسيط، وهو ما جعل الحملة تمتد إلى جميع الأوساط الاجتماعية من فقراء وطبقة متوسطة بل وكثير من الميسورين؛

2- في وقت كان يظن البعض أن خيار تبخيس العمل الحزبي سيعزز من مقولة التنمية دون ديمقراطية وسينهي أي أمل في حالة وعي سياسي جماعية، جاء تركيز المقاطعة على فاعلين اقتصاديين لهم علاقة مباشرة بالشأن السياسي ليعلن فشل هاته المقاربة ويظهر بما لا يدع مجالا للشك أن المغاربة لهم من الوعي السياسي ما يكفي لإدراك التناقضات الحقيقية داخل السلطة والوعي بخطورة زواج المال والسياسة على الدولة وعلى المجتمع؛

3- معركة المقاطعة الشعبية كانت اختبارا حقيقيا لجميع الفاعلين، في وقت اختار فيه بعض من كانوا يعدون أنفسهم كبديل سياسي دفن رؤوسهم في الرمال، بينما اختار البعض الآخر مواجهة الحراك الشعبي ولعب دور “البارشوك” بدل اللوبياتالاقتصادية في مشهد جعل المجتمع أكثر يأسا من قدرة الأحزاب على الدفاع عن مصالحه وأكثر عزما على استعادة زمام المبادرة ومواجهة لوبيات التجارة المتغولة بنفسه.

وتبقى الخلاصة أن هاته الهبة الاحتجاجية المبدعة سيكون لها نتائج مهمة ليس فقط على مستوى العلاقة بين المجتمع والفاعل الاقتصادي، بل أيضا على مستوى بنيات التأثير المختلفة في القرار في ظل تحول نوعي ما فتئت تغذيه وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة التي أتاحت متنفسا وفضاء للتعبير عن تطلعات المجتمع وهمومه أمام الفشل الذريع للفضاءات التقليدية للتعبير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *