منوعات

“من الوهابية إلى الإسلام” .. لشهب يسترجع طفولة أحياء الصفيح بالبيضاء (الحلقة الثانية)

ضمن هذا الشهر الكريم، نعرض عليكم متابعي جريدة “العمق” سلسلة جديدة مع الكاتب خالد لشهب. يروي فيها تجربته من “اعتناق” مذهب بن عبد الوهاب إلى مخاض الخروج إلى رحابة الإسلام، بما يبشر به من قيم الجمال والتسامح والرحمة …

السلسلة هي في الأصل مشروع كتاب عنونه مؤلفه بـ «من الوهابية إلى الإسلام»، حيث يُحاول من خلال عرض تجربته بأسلوب يزاوج بين السرد والاسترجاع والنقد.

جريدة “العمق” ستعرض طيلة هذا الشهر الفضيل، الكتاب في حلقات، يحاول من خلالها الكاتب نثر الإشارات التي قد تكون دافعا ووازعا لكثير من الشباب للخروج من ظلمة الوهابية إلى رحابة الإسلام عملا وظنا.

الحلقة الثانية: في البدء كانت الطفولة

لم تكن طفولة سلفية بالطبع، ولكنها طفولة تستحق الوقوف عليها لما لها من أثر في ما سيأتي، بل هي ما عليه المدار والمحار في تشكل شخصيتي السلفية في فترة المراهقة والبلوغ. لقد نشأت في حي صفيحي هو الأكبر في مدينة الدار البيضاء من حيث المساحة وعدد السكان. لم يكن حيا صفيحيا طبيعيا مثل ما عليه الأحياء الصفيحية في تكتلات بشرية صغيرة يحيط بها التمدن غالبا أو يخالطها، لقد عشنا في الضواحي منعزلين نطل على البداوة ونعيش كثيرا من تفاصيلها، بينما ظل ارتباطنا بالمدينة محدودا في عمل أو سفر أو قضاء حاجة ضرورة…

كان الشباب في الحي الصفيحي الكبير يشرئبون لحياة التمدن، بل إن كثيرا منهم كانوا يعيشون تفاصيلها الكاملة حتى وهم تحت سقوف البراريك أو جلوسا في أزقة الصفيح الضيقة حينا والشاسعة أحيانا، والتي تخترقها مجاري الوادي الحار الكريهة.

أتحدث هنا عن بداية تسعينيات القرن الماضي. كانت الحياة بئيسة وجميلة وساذجة في الآن نفسه، هكذا أتصورها عندما أتذكرها بهذا الروح الذي يسكن جسدي الآن وأنا الشاب الثلاثيني، لا أعلم كيف كان سيكون الوضع لو أن الزمن عاد بي للوراء وأنظر كيف كان سيكون ردي وأنا أرى نفسي مبتهجا أقضي جل وقتي بين الحقول المجاورة أمارس هواياتي المفضلة في صيد العصافير وجمع المتلاشيات وكل ما يملأ به وقته صبي شقي عاش طفولته في أزقة مظلمة جدا.

ليس هذا مقام للحديث عن هذه الأمور، ولكن الإشارة لها لازمة ليفهم القارئ الكريم كيف أمكن لطفل عاش الحرمان أن يتحول إلى مراهق مندفع يحلم بدولة الخلافة. لقد كانت جل الظروف سانحة لتبدأ القصة وسط حي صفيحي يجتمع فيه كل شيء وكأنه دولة صغيرة في جزيرة معزولة عن العالم. فهناك تدار الصراعات بمنطق الغاب، يأكل القوي الضعيف، يغيب القانون وينتشر دونه الفساد.

أذكر يوما أنه سألني أحد الأصدقاء عن “لماذا الفقراء والبؤساء يتكاثرون بقوة ويتوالدون بكثرة، حتى وهم لا يجدون ما يسدون به رمقهم، بينما الميسورون على عكسهم تماما لا ينجبون إلا بمقدار رغم أن حالتهم الاجتماعية تسمح لهم بالإنجاب الكثير..؟”، فقلت له: لقد أنجبت أمي عشرة أنفس وحالتنا المادية كانت شبه متوسطة لأن أبي كان دخله الشهري محترما شيئا ما في ذلك الوقت، وكان ممكنا أن نقتني منزلا في حي وسط المدينة خاصة وأن بداية تشكل أسرتنا كانت في أحد أحياء المدينة القديمة، التي شهدت ولادة ثلاثة من إخوتي الأوائل، لكن ظروفا ما اضطرتنا للبقاء في الكاريان ولم يعد ممكنا الانتقال إلى حي آخر، خاصة وأن أمي استمرت في الإنجاب بلا هوادة.

فالفقراء يتوالدون لأنهم لا يحسون بالأمن، بينما الأغنياء يحسون بالأمن. الفقراء يفقدون الثقة بالسلطة ويبحثون عن الأمن في تكثير الأبناء بمنطق الحمية والغاب كما كانت تفعل القبائل القديمة. الأغنياء يشعرون بالارتياح في مستقبلهم بينما يفقد الفقراء هذا الشعور، فيبحثون عن تأمين مستقبلهم في كثرة العيال؛ الذين يتحولون بعد حين إلى مشاريع مدرة للدخل. الفقراء لا يمرضون عادة، لذا فهم لا يكلفون المال الكثير، وأعرف كثيرا من أبناء الحي لم يكلفوا آباءهم شيئا يستحق الذكر، بل إنهم تحولوا في وقت وجيز إلى مصدر دخل لأسرهم المعوزة.

ربما أنا أمي كانت تفكر هكذا، فهي إلى اليوم تذكرني بشكل يومي أو دوري أني مشروع مدر للدخل، ورغم سفسطتي الكثيرة اتجاهها أستطيع أن أقتنع بهذا الأمر وأسلم به من غير جدل. لكن ما لا أنساه أبدا هو أن أمي لعبت دورا كبيرا في حياتي وفي ما أنا عليه اليوم، فهي لم تجعلني أحس في يوم من الأيام أنها كانت تريد مني أن أكون شيئا غير أن أتعلم وأرتقي في مدارك المدرسة، لم تكن تطلب مني شيئا غير التعلم، وهي الرسالة التي فهمتها بعد حين وإلى اليوم.

فرغم أني في طفولتي كنت كما هي عادة أبناء الحي نمتهن خفية أو علنا بيع المتلاشيات بانتشالها من وسط النفايات القادمة من وسط المدينة، لكن أمي لم يكن يرضيها مطلقا أن أقوم بهذا الأمر الوسخ حسب تعبيرها، لكنها بالمقابل كان يرضيها أن أمتهن بيع الميكا السوداء في الأسواق، إذ كان هذا بالنسبة لها فعلا رجوليا.

لا أتذكر يوما أني استطعت أن أحس طفولتي كما يحس بها الأطفال عادة. لم أشارك في المخيمات الصيفية ولم ألج يوما دار الشباب ولا أي ناد ثقافي، ولكن بالمقابل كنت أتلقى تكوينا رصينا في البراري لا يعرف تفاصيله كثير من الأطفال اليوم. وعندما أزور الحلاق مافتئ يذكرني بأن طفولتي لم تكن طفولة عادية من كثرة الخدوش على رأسي التي من أجل إخفائها أكون مضطر للحفاظ على مستوى متقدم من الشعر…

يُتّبع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *