رمضانيات

“من الوهابية إلى الإسلام” .. لشهب بين “المسيد” والمدرسة العمومية (الحلقة الثالثة)

ضمن هذا الشهر الكريم، نعرض عليكم متابعي جريدة “العمق” سلسلة جديدة مع الكاتب خالد لشهب. يروي فيها تجربته من “اعتناق” مذهب بن عبد الوهاب إلى مخاض الخروج إلى رحابة الإسلام، بما يبشر به من قيم الجمال والتسامح والرحمة …

السلسلة هي في الأصل مشروع كتاب عنونه مؤلفه بـ «من الوهابية إلى الإسلام»، حيث يُحاول من خلال عرض تجربته بأسلوب يزاوج بين السرد والاسترجاع والنقد.

جريدة “العمق” ستعرض طيلة هذا الشهر الفضيل، الكتاب في حلقات، يحاول من خلالها الكاتب نثر الإشارات التي قد تكون دافعا ووازعا لكثير من الشباب للخروج من ظلمة الوهابية إلى رحابة الإسلام عملا وظنا.

الحلقة الثالثة: المدرسة

كان ارتباطي الأول بالتعلم في الجامع (المسيد)، كان هذا النوع من التعليم شائعا في الحي لمرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية. أذكر أنه كان ما يقرب من خمسة جوامع منتشرة في الحي، يقصدها الصبيان لتعلم أبجديات القراءة ويصدحون بتلاوة القرآن بشكل جماعي. عند “با الشرقاوي” كنا نقضي اليوم نصرخ بكلمات لم أفهم معناها إلا في ما بعد، خاصة وأنا كنا ننطقها بطريقة لاحنة “والتين والزيتون وطون سيليلا”.

كنت أكره الذهاب للجامع، وكنت أقضي جل وقتي وأنا بين الصفوف باحثا عن طريقة للهرب، نجحت مرات عديدة وفشلت مرات عديدة حين يلاحقني زبانية الفقيه ويعيدونني إلى با الشرقاوي الذي يجلدني بما استطاع من قوة بسوط مصنوع من القنب.

قضيت فترة قصيرة هناك، ليأتي بعدها الفرج وأنتقل إلى مدرسة قريبة للتعليم الأولي العصري، وفيها تعلمت أبجديات القراءة، حتى أني عندما ولجت التعليم الابتدائي كان ذلك بالنسبة لي تحصيل حاصل، لأني كنت أستطيع أن أقرأ وأنقل الحروف على السبورة. ولو أنه في تلك السن وجد من يأخذ بيدي وولجت واحدة من المدارس العتيقة لكنت اليوم من الحفاظ لأنه كانت لي قدرة عجيبة على الحفظ بشهادة المعلمتين في السنتين الأولى والثانية.

في الحقيقة، لقد كان انتقالي للتعليم العمومي خطأ فادحا، فما هي إلا السنة الأولى والثانية عند معلمتين فاضلتين حتى انقلب كل شيء، ودخلت في متاهة مدرسة حكم عليها بالفشل في بداية تسعينيات القرن الماضي. درست عند معلمين ومعلمات لا أدري لحد الساعة بأي ضمير كانوا يفكرون.

كانت لنا في السنة الثالثة من التعليم الابتدائي أستاذة ما أزال أذكر اسمها، كان اسمها فتيحة. وكان الكسل والخمول ظاهرا في تضاريس جثتها الضخمة، كانت كثيرة التمارض لدرجة أن قدومها للفصل كان نادرا، وحتى عندما تقدم للفصل كان في كثير من الأحيان يقدم معها ابنها المراهق الذي يطوف بين الصفوف ويتعلم فيها ألوان الضرب وكأننا قطيع من الأغنام.

كنا بؤساء جدا وخانعين، لم نتعلم شيئا في تلك السنة التي كان من المفروض أن تكون بداية تعرفنا على أبجديات اللغة. أما أستاذ الفرنسية الذي أذكر اسمه كما يذكره غالب الذين مروا في مدارس الحي، كان اسمه عبيد وكان يقضي جل وقته في الغزليات والحرص على تتبع لائحة المكلفين بجلب وجبة الإفطار التي يتقاسمها الجسم التعليمي في الاستراحة، بل إن هذا كان دأب غالبية المعلمين هناك إلا قليل من قليل من قليل، غزل وطعام فطور وابتزاز التلاميذ باسم الساعات الإضافية.

بعد هذه السنة الجوفاء بدأت علاقتي بالمدرسة تفسد، خاصة وأن السنوات التي توالت لم تكن تتميز عنها بشيء، فالمدرسة في منطقة نائية، والمعلمون هناك يتعاملون معنا كمجموعة من السافلين الذين وجب تجهيلهم واستغلالهم لا غير.

في هذه السنة، أي الثالثة من التعليم الابتدائي كان درس معي بالصدفة تلميذ هو ابن واحد من مؤسسي الفكر السلفي الجهادي في المنطقة. كان ابنه صديقي وكنت أقدم عندهم للمنزل، وقد صادف هذا أن كان أخي الأكبر على معرفة بوالده لتكتمل القصة أو تبدأ.

كان السي بنداود رجلا منتصب القامة، نحيف الجسم، متوسط الطول قوي البنية، سريع المشية قاصدا تلتصق قدماه بالأرض حين يمشي بقوة، يفضل من الأقمصة الأفغانية مع لحية شبيهة بلحية رجال الشاولين. كان يمتهن حرفة بيع الأعشاب، بل إنه كان أول من أدخلها للحي وعلى يده تعلمها كل السلفيين من بعده تحت قاعدة كنا نبسط بها: “للي تاب إولي عشاب”.

لم يكن السي بنداود أميا على عادة كثير من السلفيين، بل كان منظرا قارئا للفكر الجهادي المتشدد جدا، يجادل بقوة من داخل مؤلفات الحنابلة المتأخرين، وتسمع في كلامه صدقا وغلظة، يومئ بوجهه ويتفاعل بيديه. كان شيخا في التكفير والتبديع والتفسيق يحكم على الناس بظواهرهم ويترك الحكم على البواطن لله. كان هذا النوع من الفكر السلفي هو المنتشر في بداية تسعينيات القرن الماضي قبل أن يتخفف عبر مراحل سأتحدث عنها لاحقا.

كان السي بنداود يعقد جلسات لتحفيظ الحديث، وكنت أنا وابنه نجلس في المقدمة، وكنت أستطيع أن أحفظ الحديث سماعا بعد أن يردده علينا مرات، بينما كان ابنه لا يتوفق في ترداد الحديث كاملا، فما هي إلا برهة حتى يضربه بمؤخرة كفه على جبينه فيرتمي إلى الخلف ملقى على ظهره يبكي…

كان يقول لنا بحسرة: “أنا كنت مجتهدا في المدرسة، وكانت أستاذة الفرنسية تقول لي: كم تريد في المعدل، وأقول لها امنحيني العلامة كاملة”. وأخبرنا أنه كان طالبا في كلية القانون قبل أن ينقلب ويكفر القانون الوضعي وواضعيه والحاكمين به والمحتكمين إليه ..

في هذه المرحلة كان الفكر الذي انتشر ليس فكرا وهابيا خالصا، ولكنها تنظيرات المصريين من جماعة الإخوان المسلمين المتشددين، ولهذا كان المغاربة وإلى اليوم يطلقون على كل ملتح “إخواني” حتى وإن لم يكن تربطه بالإخوان رابطة. فأفكار شكري مصطفى والسيد قطب وعمر عبد الرحمان وغيرهم كثير من منظري هذا التيار كانت تلعلع في مجتمعات الصفيح، وكانت السلطات في المغرب تحاول في كل مرة السيطرة على هذا التيار بتحويل سلفيين إلى جواسيس أو اعتقال بعضهم كما حصل مع السي بنداود وبعض من رفاقه بداية تسعينيات القرن الماضي.

وأبجديات هذا التيار الأعلى تشددا في تاريخ الحركات السلفية والإخوانية، رغم أنها تظهر متشددة مقارنة بما نراه اليوم، إلا أنها ما تزال تحافظ على غاياتها وبعض من مفاهيمها، وإن كانت قد غيرت في الوسائل والأدوات. فقضية النظر للمجتمع باعتباره مجتمعا جاهليا والتفريق بين المسلمين على أساس الانتماء، ومسألة الحاكمية لله والكفر بالطاغوت والتمكين والاستضعاف والهجرة والتبديع والتفسيق بظواهر النصوص… كلها مفاهيم لم تتجاوزها الحركة الاسلامية اليوم إلا تجاوز الوسائل لا تجاوز الغايات ماعدا فئة قليلة جدا.

يُتبع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *