وجهة نظر

قضية القرن

ليس من المبالغة في شيء إن قلت بأن القضية الفلسطينية هي من أكثر القضايا الدولية إثارة للتساؤلات الأخلاقية وطرحا للإشكالات القيمية، وذلك نظرا لطبيعة الصراع الذي يحكمها، وتأثيرات أحداثها على أكثر من صعيد بفعل امتداداتها المتشابكة سواء في التاريخ أو في الواقع، فقد عمّرت هذه القضية طويلا وتمنّع حلها على امتداد عقود غير يسيرة من الزمن، ورغم التحولات الهائلة التي شهدها العالم على المستوى السياسي، وكذلك الفتوحات الضخمة التي شهدتها الإنسانية على المستوى الحقوقي والفكري فإن القضية مازالت تراوح مكانها، بل الغريب أنها شهدت العديد من الانتكاسات في العقدين الأخيرين زادتها تعقيدا وبعدا عن الحل كما هو الحال مع نقل ترامب لعاصمته إلى القدس، بحيث لا يظهر أن ثمة حلا ممكنا في الأفق المنظور.

ولعل أهم التحولات التي طرأت على العالم في مجالي “السياسية” و”الفكري” والتي لم يكن لها للأسف أي أثر إيجابي على المواقف العامة التي تحكم الدول والأفراد بخصوص هذه القضية يمكن الإشارة إلى ما يلي:

أولا: فيما يخص “السياسية”.

شهد العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتفجر القضية الفلسطينية مع النكبة وقرار التقسيم الجائر واقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه سنة 1948 أحداثا ومسارات عديدة غيّرت العديد من أسس النظام العالمي وتجلياته السياسية، فمن ذلك:

-نهاية حقبة الاستعمار المباشر وتصفية أغلب القضايا العالقة المرتبط به.

-تقلب الوضع الدولي في أشكال متعددة من الهيمنة والسيطرة من الثنائية القطبية إلى هيمنة القطب الواحد بعد انتهاء الحرب الباردة، ثم الانفتاح على إمكانية وجود نظام عالمي متعدد الأقطاب مع صعود قوى جديدة خصوصا القوة الصينية الواعدة.

-ظهور موجات متعددة من الديمقراطية التي نقلت الكثير من البلدان من أنظمة شمولية إلى نظم حكم ديمقراطية وتعددية خصوصا في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية.

هذا على المستوى العالمي أما على المستوى المحلي فقد اختلفت الشروط المحلية المحيطة بالقضية من جوانب عديدة، ومن ذلك:

-تغيّر الكثير من الأنظمة العربية إما بفعل التطور الطبيعي للمجتمعات أو بفعل الصراعات السياسية الداخلية على السلطة، أو بفعل الغزو الخارجي.

-تحييد أغلب الدول العربية وإخراجها من الصراع بفعل اتفاقيات السلام الثنائية مع إسرائيل، أو بفعل انقلاب ميزان الصراع في المنطقة لصالح تغيير أغلب هذه الدول لمفهوم أمنها القومي وعدوها الاستراتيجي.

– تبدل المرجعيات الحاكمة للدول والمنظمات التي لها علاقة مباشرة بالقضية، فكان صعود القومية العربية بزخمها الشديد ثم انهيارها الكبير بفعل إخفاقها في هذا الصراع، ثم سيادة نوع من الأنظمة والمرجعيات الهجينة من ليبرالية معطوبة أو اشتراكية مزورة والتي لم تقو جميعها على الصمود، وأخيرا صعود “الإسلام السياسي” الذي لم يلبث أن عرف هو الآخر انتكاسات كبيرة بفعل مآلات الحراك العربي.

-انفجار الرغبة في التحرر والانعتاق لدى غالبية الشعوب العربية التي عبّر عنها الحراك العربي الكبير فيما سمي ب”الربيع العربي”، وما رافق ذلك أو نتج عن محاولات إجهاضه من أحداث مروعة مازالت المنطقة تشهد صراعاتها المجنونة في أكثر من بلد عربي.

ثانيا: فيما يخص الجانب “الفكري والحقوقي”.

فقد شهد هو أيضا العديد من التطورات المهمة والإيجابية منها:

-تجاوز الكثير من النظريات العنصرية الضيقة، والأحكام النمطية المبنية على التفوق العرقي والاستعلاء الحضاري، والانفتاح بشكل غير مسبوق على قبول الاختلاف والتعدد الثقافي والتعايش السلمي وبناء المشترك الإنساني، وذلك رغم التأثيرات السيئة المرتبطة بالتنميط العولمي.

-النزوع نحو الحقوقية الكونية التي أصبحت معيارا تقاس به الكثير من السياسات الدولية.

-تعدد المنظمات الحقوقية العالمية المهتمة بالدفاع عن حقوق الإنسان وصون الكرامة الآدمية، بحيث أصبح العديد من هذه المنظمات عابرا للقارات، ومتمتعا بقوة ناعمة للضغط والتأثير لا تنكر.

وقد اقتصرت على هذين الجانبين فقط نظرا لأنهما مظنة إحداث تغييرات عميقة في طريقة النظر إلى القضية الفلسطينية ومعالجة إشكالاتها سواء من الناحية القانونية لدى الدول منفردة أو ضمن المجموعة الدولية أو في أروقة المنظمات العالمية، أو من الناحية الأخلاقية والقيمية لدى “الإنسان المتحضر” الذي يزعم أنه قطع مع كل أشكال الميز العنصري والحيف التاريخي، لكن للأسف لم يشكل هذان التطوران في الواقع أي فارق معتبر بخصوص القضية الفلسطينية، فقد ظلت السياسات الدولية العامة ومواقف المنظمات الدولية ونظرة “الإنسان المتحضر” إليها دون تغيير يذكر اللهم إلا استثناءات قليلة غير مؤثرة.

لهذا يصبح التساؤل مشروعا لماذا لم تستطع كل تلك التحولات العميقة التي طرأت على مجالات السياسة والفكر الإنسانيين على إحداث التغيير المطلوب في نظرة وتعامل العالم مع القضية الفلسطينية رغم عدالتها الظاهرة وأحقيتها القانونية والأخلاقية التي لا مراء فيها؟ وما الذي يجعل الشعب الفلسطيني رغم عدالة قضيته يستمر في دفع ثمن باهظ من دمه وأرضه أمام عجز واضح للمؤسسات الدولية عن إيجاد حل عادل ونهائي لقضيته؟

سأحاول تلمس بعض عناصر الجواب على هذه المعضلة السياسية والأخلاقية من خلال البحث في العوائق الكبرى التي تقف حائلا دون الحل النهائي لهذه القضية والتي تجعل منها قضية القرن بامتياز، وهو التوصيف الصحيح للقضية بدل التوصيف المضلل الذي شاع في وسائل الإعلام وأروقة السياسة عن صفقة القرن التي تعتزم الإدارة الأمريكية طرحها والتي لن تكون بكل تأكيد إلا في صالح إسرائيل.

وأزعم أن القضية الفلسطينية هي قضية القرن لأنني أعتقد أنها ستكون محور الصراع العالمي في المستقبل لقرن أو يزيد ولن يكون هناك حل سلمي ودائم للقضية في المدى المنظور، والشواهد الدالة على هذا الزعم كثيرة، فهي ليست مجرد قضية استعمار تقليدي ينحصر الجزء الأكبر من الصراع فيه على الأرض ولكنها في الحقيقة صراع على الدين والتاريخ والوجود والحاضر والمستقبل، وتفصيل ذلك أجمله فيما يلي:

أولا: كونها قضية صراع على الدين.

تمتح الصهيونية العالمية المؤسسة لإسرائيل من نصوص ووعود وأساطير دينية خالصة مثل أسطورة “أرض الميعاد” وأسطورة “شعب الله المختار” وغيرهما، ورغم تطور مفهوم “الهوية اليهودية” كما أبرز ذلك عبد الوهاب المسيري في كتابه “من هو اليهودي” عبر قرون طويلة من الزمن، واحتكاكات مختلفة مع الحضارات المتعددة في الشتات، ودخول عناصر تاريخية وحضارية ثم عناصر حداثية علمانية على المفهوم وهو ما يسميه ب”التركيب الجيولوجي التراكمي للهويات اليهودية”، فإن الهوية اليهودية تستند في جزئها الثابت الذي لا يتغير على الدين اليهودي.

وآثار ذلك واضحة للعيان في السياسة الإسرائيلية غير مضمرة مثل إصرار إسرائيل على تعريف نفسها بأنها دولة يهودية، وكذلك إصرارها على السطو على القدس واعتبارها العاصمة الأبدية لإسرائيل، وأيضا سيطرة التيار الأرثوذكسي الديني على السياسة والدولة في إسرائيل.

ومن هنا نفهم مقولة ناثان وينستوك: “لو ألغينا مفاهيم الشعب المختار والأرض الموعودة لانهارت الصهيونية من أساسها” (جارودي: الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية ص155).

والشيء نفسه نجده عند الأصولية الإنجيلية الداعمة لإسرائيل، فقد بيّنت غريس هالسل في كتابيها “النبوءة والسياسة” و”يد الله” الطريقة التي تعمل هذه الحركة الدينية مؤسسات وأفراد داخل الولايات المتحدة الأمريكية لدعم إسرائيل، وفسرت كيف تطورت الفكرة الصهيونية عند المسيحيين البروتستانت منذ الآباء المؤسسين وصولا إلى اليمين المسيحي المتطرف والذين دافعوا جميعا على عودة يهود الشتات لفلسطين. (النبوءة والسياسةص105-106). وبناء الهيكل المزعوم تمهيدا للعودة الحتمية الثانية للمسيح، لهذا فإن أغلب هؤلاء المسيحيين الأصوليين “يجعلون من تأييد إسرائيل نوعا من العبادة” (النبوءة والسياسة ص27).

والمشكلة نفسها نجدها في تفسير بعض المحسوبين على التيار الإسلامي للصراع، والذين يجعلونه صراعا دينيا على المقدسات ويرفضون علمنته، فمثلا محمد عمارة في رسالته “إسلامية الصراع حول القدس وفلسطين” يؤكد على أهمية الصراع الديني في القضية ويجعل التناقض الرئيس في هذا الصراع هو مع “اليهودية الصهيونية” و”الصورة التلمودية لليهودية”، وإذا كان مفهوما توصيفه للصراع على أساس أنه تناقض مع الصهيونية فإنه غير مفهوم أن تكون المشكلة مع الصورة الأخرى لليهودية والتي يسميها “الصورة التلمودية لليهودية” والتي يعتبر أنها نسخت ومسخت توحيد اليهودية الأصلية (إسلامية الصراع ص6) باعتبار أنه ليس هناك اليوم يهودية حقيقية ومسيطرة غير اليهودية بالمعنى التلمودي، الشيء الذي يجعل الصراع على مقتضى هذا التناقض صراعا دينيا مفتوحا بين المسلمين واليهود وليس فقط مع الصهيونية، ورغم أنه يستنكر الصراع الديني في موضع آخر من كتابه (إسلامية الصراع ص23) لكن منطلقه التعريفي يجعل من الصراع صراعا دينيا بالضرورة.

وكون القضية صراعا دينيا فهو شيء مفهوم من خلال ما سبق، وأما كونها صراعا على الدين فيظهر في كون أغلب القراءات والتأويلات التي أشرنا إليها تستند في مجملها على مفهوم أحقية الخيرية الدينية ونظرية الاصطفاء الإلهي عند أتباع الديانات التوحيدية الثلاثة.

ثانيا: كونها قضية صراع على التاريخ.

تستمد الصهيونية مشروعيتها من التاريخ، وتستند في مرافعتها على أحقية الشعب اليهودي في أرض فلسطين على مقولة “الحق التاريخي لليهود في فلسطين”، وتستعمل تقنية تزوير التاريخ وتحريف أحداثه من أجل تزييف الوعي التاريخي لدى الغربيين واستقطاب دعمهم السياسي والمالي لاستيطان الأرض المقدسة والتاريخية للشعب اليهودي، ومن أهم تحريفاتها للتاريخ التي تلجأ إليها هي استحضار التاريخ العبراني لفلسطين اعتمادا على المصادر التوراتية وإنكار كل الحقائق التاريخية الأخرى واستبعاد كل المصادر المناوئة.

ثم إنها من أجل إثبات هذه الدعاوى التاريخية في الواقع تلجأ بقوة لتنشيط الحفريات ومحاولة اكتشاف الآثار التاريخية المتعلقة بالهيكل المزعوم وبقايا ممالكها الدارسة، وتعمل في المقابل على طمس المعالم الحضارية الإسلامية والمسيحية مثل هدم حارة المغاربة التي استهل بها الاستيطان الإسرائيلي سيطرته على القدس عام 67.

ثالثا: كونها قضية صراع على الوجود.

يعلم قادة إسرائيل منذ البداية أن استمرار كيانهم ووجودهم رهين باقتلاع السكان الأصليين من أرضهم وإجلائهم، فإحدى أهم أساطيرهم التي سوّقوا بها لقضيتهم هي أسطورة “أرض بلا شعب”، لهذا تركز السياسة الإسرائيلية على ما يلي:

-تهجير أصحاب الأرض الحقيقيين منذ اليوم الأول للاحتلال، ثم رفض عودتهم بعد ذلك ضد كل القرارات الدولية في هذا الباب.

-سياسة الاستيطان، فالمشروع الصهيوني ذو طبيعة استيطانية يتناقض وجوده مع الوجود العربي الإسلامي والمسيحي في فلسطين لهذا يسعى بكل الطرق والأساليب إلى مصادرة الأراضي والعمل على الامتداد الاستيطاني في كل فلسطين لا فرق بين تلك التي احتلها قبل 67 أو التي احتلها بعد ذلك. وأيضا تشجيع يهود الشتات على الهجرة إلى فلسطين، ف”المعيار الوحيد لتقييم صهيونية اليهودي هي الهجرة إلى المستوطن” (من هو اليهودي ص79).

-الحرب الإفنائية التي يحاول من خلالها الإسرائيليون قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين دون أدنى مراعاة للتناسب في الاستعمال القوة القاتلة كما تنص على ذلك المواثيق الدولية، وإلا كيف يمكننا أن نفسر قتل العشرات من المتظاهرين العزل في مسيرة العودة الأخيرة إذا لم يكن هدف إسرائيل هو إفناء الفلسطينيين والقضاء على وجودهم.

لهذا فالصراع هو صراع وجود وأي تعريف أو تقديم له باعتباره صراعا على السيطرة على الأرض أو إعادة رسم الحدود فقط فإنه تبسيط مخلّ للموضوع سقط ضحيته قادة منظمة التحرير منذ شروعهم في المفاوضات العبثية مع قادة الكيان منذ اتفاق أوسلو الرخو، هذه المفاوضات التي كانت ولا تزال غطاء لاستمرار الاحتلال في ممارسة جرائمه التي أشرنا إليها.

رابعا: كونها قضية صراع على الحاضر والمستقبل.

الصراع في فلسطين ليس صراعا بين العرب واليهود الصهاينة فحسب ولكنه أيضا واجهة الصراع الأساسية بين الغرب من جهة والعرب والمسلمين من جهة أخرى، فدعم الغرب لإسرائيل لا يستند فقط على الرؤية الدينية كما أسلفت ولكن ينبني كذلك على مقتضى المصلحة السياسية بالمفهوم الإمبريالي، والتي لا يمكن للغرب المحافظة عليها إلا من خلال ضمان تفوقه في “الصراع الحضاري” كما نظّر لذلك كبار مفكريه.

ويمكننا أن نبين ذلك من خلال ما يلي:

-تمثل إسرائيل مصالح الغرب الدائمة في المنطقة، وهو يراهن عليها لديمومة سيطرته على المنطقة وثرواتها الطبيعية، لأن ضمان مصالحه ليس رهينا بنظام حكم مغشوش أو حزب سياسي قد يهتز في أية مناسبة، بل تحالف استراتيجي يضمن الغرب من خلاله استمرار إسرائيل في محيط معاد وجغرافية سياسية معزولة، وتضمن في المقابل إسرائيل مصالح الغرب الإستراتجية في المنطقة.

-تمثل إسرائيل إحدى أدوات السيطرة الغربية على المنطقة، فهو ببقائها يضمن: الحروب المستمرة وما يتبعها من فوضى ودمار-سباق التسلح-خلق العداوات بين دول المنطقة على أساس الموقف من إسرائيل كما هو مشاهد الآن.

-بقاء الريادة الغربية وسيطرتها على المستقبل رهين ببقاء بقية العالم ومنه العالم العربي والإسلامي يرفلان في تخلفهما وصراعاتهما، وتمثل إسرائيل إحدى بؤر هذه الصراع الذي لا ينتهي والذي يضمن للغرب النتائج المرجوة في السيطرة ودوام التقدم.

وفي الأخير ومن خلال استحضار كل جوانب الصراع المشار إليها في القضية الفلسطينية، وهي جوانب حقيقية لا مبالغة فيها فإنه يصبح من الصعب توقع التوصل إلى حل تفاوضي لهذه القضية من خلال مفاوضات عقيمة تركز على القضايا الشكلية مثل التنسيق الأمني والحدود وتستبعد قضايا الحل النهائي الأساسية: القدس وعودة اللاجئين والمستوطنات من النقاش الحقيقي، ذلك أن الطرفان يعلمان أنه لا يمكن إيجاد حل عادل ودائم لهذه القضايا نظرا لارتباطها بجوانب الصراع الحقيقية التي أشرت إليها، وهو ما يجعل الحل التفاوضي شبه مستحيل في ظل الوضع الدولي والعربي القائم، ويجعل القضية مفتوحة على آفاق جديدة من الصراع والمناكفة يجعلها تتبوأ قضية القرن بدون منازع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *