في الإفطار العلني

نقاش الإفطار العلني في نهار رمضان هو حديث يتجدد كل سنة بين مؤيد له ومعارض. وساءني كثيرا أن الطرف المعارض يعتبر نفسه ممثلا للإسلام في هذه المسألة، وساءني أكثر مبالغة بعض الناس في التضييق على المفطرين في الشوارع واهانتهم والانتقاص من وطنيتهم أو إنسانيتهم، والضحية في النهاية هو هذا الدين لأن كل فعل رجعي متخلف ينسب ظلما إليه، وكأننا بحاجة إلى مزيد تشويه لصورة الإسلام في العالم.
أريد من خلال هذا المقال أن أقدم وجهة نظر في الموضوع أوضح من خلالها أن تجريم الإفطار العلني لا أساس ديني له.
في البدء كانت الحرية:
أولا، لا وجود لأي نص في كتاب الله ولا في سنة نبيه عليه الصلاة والسلام يستند عليه القول بأن غير المسلم لا حرية له في بلاد المسلمين، سواء أكان غير مسلم أصالة أو ترك الإسلام بعد أن كان مسلما. بل على العكس من ذلك، فإن الشريعة رفضت الإكراه في عدة مواضع وجعلت أمر الإيمان يتم عن اختيار: “لا اكراه في الدين”، “افأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”، “لكم دينكم ولي دين”، “فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر”، ” وَقلِ الْحَق مِن ربّكم فَمَن شَاء فليؤمِن ومَن شَاء فليكفُر “، “لمن شاء منكم أن يستقيم” وغيرها. ولا يتصور أصلا أن يكون هناك إكراه في الدين، لأن الإيمان مسألة قلبية. فهذا أمر حسم فيه الشرع في آيات محكمات متواترات واضحات، ولا اعتبار لآخبار آحادية أمام النص المتواتر التابث.
إن القرآن الكريم ينطق بحرية الأفراد تجاه خالقهم، وهو ما يعرفه كل من نظر في كتاب الله. فالأفراد أحرار تجاه ربهم وعلى هذا الأساس يحاسبون. إن الإنسان حر وفي نفس الوقت مسؤول عن أفعاله التي يحدثها، ومن هنا يستحق الثواب أو العقاب، وبه يستقيم التكليف، وهذا هو أصل العدل الإلهي.
وبناءا على مبدأ حرية الاعتقاد، بل وانسجاما معه، فليس في القرآن الكريم ولا في السنة أي نص يؤيد منع شخص غير مسلم من الإفطار علنا في نهار رمضان. بل حتى في حالة المسلم الذي أفطر عمدا وهو مأمور بالصيام، فإن الشارع لم يفرض السجن أو العقوبة بل فرض القضاء أو الكفارة حسب الحالة، وتفصيل ذلك معروف للجميع، وهو مما لا تتدخل فيه الدولة ولا المجتمع.
هل غير المسلمين مخاطبون بالفروع؟
فإن جواب هذا عليه خلاف بين الأئمة، وهو مبحث طويل متشعب لا داعي للتفصيل فيه. لكن باختصار، ففي المسألة عدة أقوال أشهرها اثنان أحدهما قول الحنابلة وجمهور الشافعية حين قالوا نعم هو مأمور، والقول الثاني، وهو ما نختاره لتناسقه مع القرآن الكريم، وهو قول السادة الأحناف والمالكية وبعض الشافعية حين قالوا أن غير المسلم غير مأمور بالفروع لانتفاء شرط الإيمان عنه. فللصيام مثلا شروط أولها الإسلام، فإذا انتفى الإسلام عن الفرد سقط عنه الواجب حتى يأتي بما هو أوجب منه -أي الإسلام-. ومن هنا أجاز العلماء فتح المحلات التجارية نهار رمضان لغير المسلمين، ومنه كذلك ما روي عن ابن تيمية جواز بيع الحرير للرجال غير المسلمين مستدلا بحديث إهداء النبي عليه السلام لثوب من الحرير لرجل مشرك..الخ
ومن أدلة ذلك أيضا أن السلف كانوا ينفقون على زوجاتهم الكتابيات وعلى خدمهم من غير المسلمين، ومن الطبيعي أنهم يأكلون ويشربون نهار رمضان، فلو كان السلف يمنعونهم من ذلك لوصلنا خبرهم. وهو ما لم يقع، أي أن السلف كانوا يتعاملون مع غير المسلمين بطريقة عادية نهار رمضان، فمن فرض عليه الصيام صام ومن لم يفرض عليه أفطر، وحتى في السنة النبوية فلا يوجد أي حديث يتحدث عن المسألة على الرغم من أن المدينة كان فيها يهود وتجار أجانب، وبعد فتح مكة كان هناك مشركون لم يسلموا، كما كان في الدولة الإسلامية بعد توسعها عدد كبير من المواطنين غير المسلمين، ومع ذلك لم يرد في حظر الإفطار علنا خبر. إذن فمن الواضح أن هذا مما أحدثه المسلمون في دينهم ومما لا أصل له في الشريعة.
السبب اجتماعي ونفسي:
أول حجة يواجهك بها من يؤيد قانون منع الإفطار العلني في رمضان هي أن الإفطار علنا يؤذي مشاعر الصائمين. إن الحساسية تجاه المفطرين علنا في رمضان لا تنبع عن سبب ديني بحت للأسباب التي ذكرتها ولغيرها من الأسباب التي تتعلق بمستوى الالتزام الديني لمسلمي اليوم، وإنما السبب نفسي واجتماعي/ثقافي لا أكثر، وهذا يحتاج لبحث علمي يدرس بتفصيل هذه الظاهرة، وأنا أخمن أن من بين الأسباب، التنشئة الاجتماعية السلطوية المبنية على رفض كل ما هو مخالف، لأننا شعب يخاف من الاختلاف، وهذا ضرب من التغطرس والتكبر وضيق الأفق، وإلا فهذه الهلوسات التي سميت زورا بـ”مشاعر المسلمين” لا علاقة لها بدين الله. ولو أن كل طائفة أو دين يجبرك على الالتزام بتقاليده داخل مجتمعه بحجة “احترام مشاعره” لاستحال عيش الإنسان خارج مجتمعه وثقافته.
إن الذي يفطر علانية في نهار رمضان يحتمل أن يكون ضمن عدة فئات، فيمكن أن يكون المفطر مسلما مريضا أو مسلما مسافرا أو مسلما ممن يشق عليهم الصيام وغيرهم ممن عندهم أعذار شرعية، كما يمكن أن يكون فردا مغربيا غير مسلم أو سائحا غير مسلم أو أجنبيا غير مسلم، و يمكن أن يكون مسلما غير بالغ أو رجلا مصابا بالذهان. فلماذا نحمل الأمر على الكفر والردة ونتصور أن كل مفطر نهار رمضان ملحد يريد النيل من الإسلام؟
وعلى أية حال، وبناءا على ما أوردته أعلاه فإن لكل فئة من هؤلاء حريته في أن يأكل ويشرب في بيته أو خارج بيته كما يشاء، لأن الصيام يلزم المسلم البالغ العاقل المستوفي لشروط الصيام فقط، أما غيره فأيام السنة عنده سواء، ولا حق للمسلم في أن يمنع غيره من الأكل بحجة “احترام المشاعر” التي ثم حشو أدمغتنا بها منذ نعومة أظافرنا حتى جعلناها جزءا لا يتجزأ من أصول الدين، والتي لو فكر المرء قليلا لوجد أنها مجرد كلام سخيف افترض الناس صحته بناء على مغالطة التوسل بالأكثرية، ومن تم تصادر به حريات الناس.
وماذا عن الفصل 222 من القانون الجنائي المغربي؟
أرى أن هذه المادة التي يتم بمقتضاها اعتقال أفراد في الشارع العام وإخضاعهم للتحقيق يجب إلغائها، فالمسلم المأمور بالصيام والذي أفطر عمدا لا يتم اعتقاله أو سجنه، فالله لم يفرض ذلك، وإنما أمره بالقضاء والكفارة.
إن استمرار وجود مادة كهذه أمر لا مبرر له ولا يستند على أي أساس لا من الإسلام ولا من القانون الدولي.
ورغم وضوح هذه المسألة وإشارة الكثير من الناس إليها، إلا أن هذا الفصل مازال مطبقا.
سد الذرائع
قد ينكر علي بعض الإخوة ويتحدث من باب سد الذرائع (وهو مما استحدثه المسلمون في الدين) لأن إتاحة حرية كهذه سيفسد المجتمع ويجرئ بعض الفئات ويضعف الإسلام في أرضه وغير ذلك، ورأيي في مثل هذا الكلام أنه يحمل في طياته عدم ثقة في قوة دين الإسلام على الصمود في مجتمع تعددي حر، وأن قوة الإسلام تكمن فقط في تسلطه على رقاب الناس، وبحضوره مهيمنا وحيدا على المجتمع قامعا كل الأيديولوجيات الأخرى المخالفة، وهذا كلام ساقط لما فيه من طعن في الإسلام، ومخالف لما نراه في الواقع، فها هي ذي السعودية تمتلك وحدة خاصة من الشرطة تسمى بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقوم هذه الهيئة بملاحقة أي مخالف وتتدخل في خصوصيات الناس، وتصدر عقوبات قاسية في حق كل من أفطر علنا في رمضان أو لم يصل الجماعة..الخ.
ومع ذلك تنبئنا الإحصائيات بأن نسبة الإلحاد في تلك البلاد في ارتفاع مستمر، وهي حاليا 20 في المئة1 وهي أعلى نسبة عربيا وإسلاميا ولا تجد هذه النسبة لو جمعت نسب الإلحاد في الدول العربية الأخرى كلها. بينما نجد دولة علمانية كتركيا لا تتجاوز فيها نسبة الإلحاد 9 في المائة. واقل من ذلك في الدول العربية التي تتيح قدرا من الحريات لشعوبها كتونس ولبنان.
إن “الديكتاتورية الدينية” لا تؤدي إلا إلى سخط الناس على الدين، وعلى المدى الطويل تؤدي إلى ثورات لادينية جارفة كالتي حدثت في أوربا، وحينها لن تنفعنا عمليات التجميل والتحسين.
بالإضافة إلى أننا كمسلمين أصحاب رسالة للعالم، فهل سيستبدل الأوربي والأمريكي مشروعنا الإسلامي بصيغته الحالية بمشروعه اللبرالي الديمقراطي؟
ختاما
إن أي حديث عن التقدم والحرية والكرامة يظل مجرد كلام فارغ ما لم نتخلص من النفاق والسلطوية الاجتماعية، وذلك بتحقيق حرية كاملة للأفراد أيا كانت اديولوجياتهم في أن يتحكموا في مصائرهم دون تدخل من أي جهة. فلا يعقل أن ندعو إلى الديمقراطية والحرية ونحن لا نمارسها فيما بيننا.
أغلب المسلمين يتحدثون عن البديل الإسلامي العالمي وأن الإسلام هو الحل، لكن شرط ذلك أن يقدم الإسلام مشروعا يشمل كل إيجابيات النظام اللبرالي العلماني الغربي الحالي وزيادة، لأن العالم يسير تقدميا، فلا يمكن أن تقبل البشرية بمشاريع تعود بها إلى الوراء، خصوصا في مسائل الحريات الفردية وحقوق الأقليات.
اترك تعليقاً