وجهة نظر

نظيمة المخزن، تركيبتها ودورها في تكريس التقليدانية

كثر الحديث هذه الأيام في المغرب عن ترديد كلمة المخزن؛ عبر وسائل الأعلام وعبر شبكات التواصل الاجتماعي وأثناء الحديث في بعض اللقاءات الفكرية، وبالأخص بعد صدور الحكم على معتقلي حراك الريف، الذي أظهر أن المخزن لا يقبل المنافسة.

لقد عرف المجتمع المغربي تحولا كبيرا في العقود الأخيرة، دون أن يتمكن المحزن من مواكبة هذا التغيير، باعتماد سياسة جديدة لها علاقة بالدولة الحديثة وبالحداثة السياسية.

جاء في محاضرة الأستاذ محمد سبيلا بالفضاء الثقافي للكنفدرالية الديمقراطية للشغل بالدار البيضاء يوم 30 مارس الماضي:” إن المدرسة الفلسفية المغربية نشأت من قلب الصراع السياسي بين التيار التقدمي والتيار التقليدي الذي مثله المخزن والقوى المحافظة في الحركة الوطنية. وجاءت في سياق عالمي يتسم بصعود الحركات التحررية والتيارات الاشتراكية، لكن النظام المخزني فطن إلى أن هذه المدرسة تشكل خطرا عليه لأنها تغذي اليسار المغربي والقوى السياسية التقدمية فقام بخنق الفلسفة في الجامعة بأن ألغاها بقرار سياسي، وفي المقابل قام بتشجيع الأصولية من خلال اعتماد تدريس مادة الدراسات الإسلامية حتى يقضي على منابع التفكير الفلسفي العقلاني”. من هذا المنطلق، سأركز في هذه الورقة على معنى”المخزن” كنظام؟ وجذوره ضاربة في عمق الماضي المغربي، وكثابت ومتحكم في المسار التاريخي للمغرب والمغاربة؟ ما هي العوامل الكامنة خلف استمراريته، انطلاقا من مفهومه في المشروع الفكري للأستاذ عبد الله العروي.

إلى حدود عام 1956، كان يسوس المغرب سلطان، ويحف بحضرته مخزن، وليس ملكا تساعده حكومة. وهو في الواقع نسق في التسيير يعكس طبيعة العلاقة بصانع الكون، على اعتبار أن السلطان خليفة الله في الأرض. وتقوم القاعدة الأصلية المؤسسة للسلطة السياسية على البيعة كصيغة لإضفاء الشرعية على النظام، و تعبر في شكلها ومضمونها على فكرتي اليمين والعقد الواردة في الآية: “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله”.

” المخزن” في نظر ابن خلدون هو سلطان، قبيلة أو زاوية. في الحالة الأولى تغلب على الدولة خصائص القبيلة في تنظيماتها وسياستها وغاياتها كما كان الأمر أيام المرابطين والمرينيين وغيرهم. وفي الحالة الثانية تغلب صفات الزاوية كما عند الأدارسة والفاطميين والسعديين و بأحرى الدلائيين. وفي الحالتين المخزن تنظيم مضاف، يتلخص في جيش وديوان، ( سيف وقلم). من يحمل هذا أو ذاك، الجندي والكاتب، فهو مخزني، وأسرته مخزنية متى توارث فيها المنصب. المخزني صاحب ” كلمة”، يتلقاها ويبلغها، له مأمورية، يأمر ليطاع لأنه هو مأمور مطيع”.

المخزن بالتحصيل هو البنية البشرية للدولة: في معناه الضيق، يتعلق الأمر بالمشتغلين في الجهاز الإداري أي الجيش والبيروقراطية. وهما العنصران الأساسيان المكونان له، وكل من يتقاضى أجرا من الخزينة السلطانية، وليس ممن يتم تعويضهم من مال الأحباس كأعضاء الإدارة الحضرية، والهيأة المكلفة بالحفاظ على الأمن في المدن، وإلى حد ما في القرى. أما في معناه الواسع فيشمل جميع الجماعات المشكلة لأعضاء المخزن الضيق؛ الخاصة وقبائل الكيش، الشرفاء والعلماء والأعيان والمرابطون المنتشرون في البوادي. وهم إجمالا من يحضون بالصلاة، أي الهدايا ويملكون ظهائر التوقير والاحترام أو بإمكانهم الحصول عليها، ومن يعتبرون أنفسهم جزءا من المخزن تأسيسا على إقراره لهم بفضائل لا تتوفر في العامة. بهذا التعريف يؤكد المؤرخ عبد الله العروي على الطابع الأساس للمخزن أنه مؤسلم وعربي ومعرب، ويستند إلى القوى المحلية لمقاومة البلاد التي تقاومه ويفرض نفسه بشكل شبه مستديم على المناطق الخارجة عن سلطته بالاعتماد على قوى محلية كالزوايا والزعامات، مفندا مقولة كون المخزن قبيلة حاكمة أو إقطاعية أو نموذجا للاستبداد الشرقي.

العامة هم من يباشرون الأشياء؛ من فلاحين وكسابين وصناع وتجار، أصحاب مهن متميزة، وعلاقتهم بالإنتاج أظهر وأوثق. والخاصة هم من يباشرون البشر من شرفاء وعلماء وشيوخ وقادة. وفوق هؤلاء و أولائك يوجد الحكام أهل الحل والعقد، أصحاب الأمر والكلمة. فهم إما عسكر(السيف) وإما كتاب (القلم) وإما قضاة (الشرع): الشرفاء والعلماء والشيوخ… هيئآت متميزة، لكن تجمعهم ظاهرة، كونهم لا يباشرون الإنتاج. فهل من شريف فلاح أو عالم صانع إلا مضطرا أو زاهدا !! إلى حدود القرن التاسع عشر ظل الجيش يرمز إلى النظام القديم ولم يحدث فيه أي تغيير، بينما شهد الجهاز البيروقراطي تطورا ملموسا دون أن يصل به الأمر إلى درجة حصول قطيعة مع الماضي. لكن هذا القرن شهد تطورا في المراتب المرتبطة بالإدارة المركزية المتمثلة في “البنيقات” بشكل يمكن الحديث عن بيروقراطية وازنة، بسبب اتساع حجم العلاقات بين المغرب وأوربا. و دأب المتعاملون الفرنسيون معها في نهاية القرن إلى الإشارة إليها بعبارة “Administration maure “.

يشير الأستاذ عبد الله العروي إلى ارتباط ظهور أجهزة المخزن ببذور فكرة الدولة بمفهومها العصري، حيث أضحت الكلمة تطلق على مجموع أرض المغرب على شكل هيأة إدارية وتراتبية اجتماعية وعلى سلوك ومراسيم، بمعنى أن المخزن كان سيفا وقلما، نما وتطور في كل دولة وإمارة تعاقبت في المغرب، حتى في الدولة الزيانية التي كانت أقل اتساعا وغنى، مما يقيم البينة على أنه:” وجد في المغرب خلال القرن التاسع عشر دولة ومجتمع بكل ما يعنيه المفهومان، أي أن البلاد لم تكن كما يعتقد شتات قبائل مستقلة.” المهم أنه ” توجد عندنا ذهنية مخزنية تفوق في تميزها و فرادها ما يماثلها اليوم في مجتمعات أخرى”. وتعد الخدمة المخزنية بابا من أبواب الثروة والترقي وفرصة سانحة للإثراء، بشرط الولاء والتفاني في الخدمة، منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر:”الولاء عند مخزنيينا تام وكذلك الخضوع وكذلك الكتمان. لا شخصية لرجل المخزن سوى المخزنية؛ بانتمائه إلى المخزن باحتمائه به، يكون قد حط الجمل عن كتفه، لا غاية له لا شغل له، سوى انتظار الأوامر وتبليغها. هذه الذهنية لا تنحصر في رجال المخزن، وهم قلة بل تنتشر آليا في سائر المجتمع”.

والمنصب الحكومي يوفر لصاحبه النفوذ والسلطة كما يتيح له اقتناء أموال منقولة وعقارات يحصلها في غالب الأحيان مما للدولة أو مما للجماعة. وتجار السلطان فئة من المحظوظين يحصلون على امتياز يمنه إياهم السلطان لممارسة التجارة الخارجية مع الأجانب، في إطار سياسي عام كان أساسه التحكم السلطوي في المال. والسلطة عندما كانت تخول أحد المستفيدين نصيبا من الجاه، فقد كانت تعطيه فرصة تحصيل “ثروة غير عادية”. والجاه أساس السلطة، وهو السبيل إلى الاغتناء كما قال ابن خلدون، فإن كان متسعا كان الكسب الناشئ عنه كذلك وإن كان ضيقا قليلا فمثله. فكل من لم يملك جاها أي صلة وطيدة بماسكي الأمور في الدولة، بما يمكنه من ممارسة القهر والعسف والتسلط على مراتب المجتمع الفاقدة للجاه وللتحصيل. والمخزن يغدق على خدامه الأوفياء ويجازيهم خير الجزاء، لكنه يتصرف مع خدامه المثرين وكأنهم مستغرقو الذمة. يفرض الضرائب ويستخلصها دون أية معايير موضوعية، ويترك لأعوانه ضمنيا هامشا لأخذ نصيبهم من تلك الضرائب. وضع لا يختلف عما يجري اليوم في الألفية الثالثة. باختصار، النظام المخزني قائم على ابتزاز فئات واسعة من المجتمع، مقابل تمتيع فئات محظوظة بامتيازات ريعية غليظة. يقوم على هاجس الأمن والتخويف وليس على النجاعة الاقتصادية. وما شهدته أحداث الحسيمة وجرادة شاهد على ذلك.

وتميزت طائفة من النخبة السياسية بعداء شديد للإصلاح ولأي تغيير في الأوضاع القائمة في البلاد. وقد سعى الاستعمار منذ توقيع اتفاقية الحماية سنة 1912، إلى الحفاظ على ثيوقراطية الحكم السلطاني، للوقوف ضد أي محاولة ترمي إلى الأخذ بأسلوب المؤسسات البرلمانية الفرنسية، بهدف الحفاظ على المظاهر الخاصة بالتقاليد، وفطن إلى منفذي النزوع التقليدي الوراثي عبر الاتكال على ذوي النفوذ المحليين، فأوكل للأعيان مهمة مراقبة العالم القروي التقليدي، وتم تلقيح “المخزن التقليدي” ب “إدارة الحماية”، مع الاحتفاظ بمسألة التداخل بين الديني والزمني، وركبت السياسة انطلاقا من هذه المستويات المتناقضة؛ فلجوء النظام السياسي المغربي بعد الاستقلال إلى تبني مفهوم الدولة الحديثة لم يمنعه من الإبقاء، موازاة مع ذلك، على أنظمة ومفاهيم تقليدانية، يوظفها بالطريقة التي تمكنه من الحفاظ على استراتيجيته المحبوكة في الحكم. وهي إفراز الحماية يقول:” كانت الدولة المغربية مزدوجة (وإن توحدت رمزيا في القمة): لغتان، ثقافتان، اقتصادان، قانونان. كانت هناك “دولة” وافدة، بمعالمها ونظمها، هيئاتها، يرأسها المقيم العام، ودولة أصيلة على رأسها إمام شريف.”
مخزن الحسن الثاني 1961- 1999

واصل الامتداد المخزني حضوره في مغرب الحسن الثاني، باعتماد سياسة الريع أسلوبا في الحكم، لدرجة أضحى معها السمة المميزة له، وباعتماد الدولة الحديثة مع الاحتفاظ بالتقليدانية. تم تفكيك بنية “المخزن” كجهاز سلطوي تقليدي، ذي عمق تاريخي وتراتبية خاصة وشبكات امتدادات وهيمنة متجذرة في أعماق المجتمع، وإعادة هيكلته بميكانيزمات العصر الحديث، مع تقوية وتعميق آليات السيطرة والهيمنة القديمة، ليضحى النظام المغربي خاضعا لمنطق المساكنة والمجاورة بين التحديث والتقليد، بمعنى أنه مبني على خطين متوازيين لا يلتقيان أبدا :
الأول: خط مخزني مغرق في التقليد المتوارث والتقليدانية. وهو صورة عامة للنظام المغربي التقليدي في مرحلة كان فيها ما يزال في منأى عن مصادر التأثير الأوربي.

الثاني: خط تحديثي ممثل بالمؤسسات الحديثة الناجمة عن الاتصال بالآخر(الغرب)؛ حيث مر الزمن وتغيرت الظروف ومعها الألفاظ والتعابير( شعب ونخبة وحكومة، جيش وبيروقراطية وقوانين، سيادة وتفويض وتنفيذ:” عاد الجيش وعادت الإدارة في غالبيتها مستحدثة بيد ممثل الدولة الحامية لكون معاهدة الحماية عقد تفويض. كلف الممثل المذكور بإصلاح ما هو قائم، وإنشاء الدوالب الناقصة والضرورية في مفهوم الدولة الحديثة. وهكذا في ظرف نصف قرن شيد على أرض المغرب مجتمع جديد بقاعدته الإنتاجية وتنظيماته الاجتماعية ولغته وثقافته وعقيدته الخاصة، مجاور للمجتمع الأصلي، غير متداخل معه.” وعبر هذه التركيبة تتعايش المؤسستان وتشتركان في عملية التسنين (retraditionalisation) بتعبير الأستاذ العروي، أي الانتماء لنظام اجتماعي معين يتجسد في سلوك محافظ تكراري، بمثابة حاجز وقائي ضد عوامل التغيير والتحول، يقوم على إعادة إنتاج النظام، بثقافته التقليدية الحية، بتربيته الأولية الغالبة، وإعطائه مبررات الاستمرارية والقوة الرمزية والإيديولوجية والتي تتقوى فاعليتها زمن الأزمات، له قاعدة إنتاجية، يبحث فيها الاقتصاديون تتداخل فيها عوامل عتيقة وأخرى مستجدة يقول:” تتعاقب الأجيال، يتتابع الحكام، يتبدل الأشخاص، ويبقى النظام على حاله، ثابتا راسخا، وكذلك الذهنية العامة.”

والتسنين اختيار تقليدي واعي بذاته وبأهدافه، وليس وصفا موضوعيا لما مضى وانقضى، بل هو تركيب حداثة/تقليد. واختيار يتم وفق مصالح قوى اجتماعية معينة تروم الحفاظ على وضعها وتطلعها للمستقبل، بجعله أداة توظيف سياسي لخدمة مصالحها، حيث تعيد البنية إعادة إنتاج النخبة وثقافة المجتمع المغربي بصفة عامة: الفقه باعتباره ثقافة العلماء، الآداب بما فيها الفلكلور بوصفها ثقافة المخزن، التصوف يشكل ثقافة الشعب، غير أن وراء تنوع الإبداعات الثقافية توجد منهجية وحيدة تؤسس للإيديولوجيا التي هي الضامنة للنزعة التقليدية المغربية.
مخزن محمد السادس 1999…

في مغرب محمد السادس تغير النظام لكنه في العمق حافظ على المنطق نفسه، إذ لم يدخل أي تغيير جوهري على المخزن، ذلك أن السمة الغالبة على الأنشطة الرسمية حافظت على تركة الحسن الثاني بكاملها، والهدف هو جر الملك الشاب إلى تتبع إرث والده. ترويضه وإجباره على تقمص الدور التقليدي رضي بذلك أم أبى. و سوف يتركز أكثر عند تنظيم حفل أول بيعة للعامة يوم 20 أغسطس 1999، في زمن حكومة التناوب التي كانت بدورها تناوبية بالاسم سلطانية في الواقع. و الأسلوب العتيق يدل على أن كتاب السلطان لا يزالون في الخدمة. يقول الأستاذ العروي:” كان علال الفاسي لا يقبل يد الملك وقبلها محمد بوستة، كذلك اليوسفي لا يقبل يد الملك الجديد وقبلها مرتين الوزراء الشبان. تنتعش المخزنية بتجدد الأجيال حيث تكثر المنافسة.” ويعلق “حب الولاء هوى كل مغربي.” إذ يتأكد عجز النخب عموما والنخبة المثقفة على الأخص و السياسية على وجه الخصوص وأوهامها عن مقاومة التطويع.

من المؤكّد أن كتابات العروي، بقدر ما تشخص وتعري معضلات التحديث في المجتمع المغربي والعربي، لا تكف تؤكد على ما يسعف في استنباته وإدماجه في نسيج الدولة والمجتمع والثقافة. ومنذ أن دشّن مشروعه ب “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” في الستينيات، مرورًا بـ “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية” ثم “أزمة المثقفين العرب” وسلسلة “المفاهيم”، إلى “الفلسفة والتاريخ”، والأمر عنده يتعلق بضرورة العودة إلى أصل المشكلات لكشف جذور الخلل وقياس اتجاهها من زاوية ما توحي به للفكر وللعمل. وهو مسكون بشروط نهضة المغرب، ومفجوع من تأخره، ومندهش من ضعف نخبه وتقلبها. يقول في “الأيديولوجيا العربية المعاصرة”:”لقد ولدت محاولتنا من تأمل وضع خاص، وضع المغرب اليوم. وما من شخص يتمالك نفسه من إبداء الدهشة إزاء العجز السياسي والعقم الثقافي اللذين تبديهما النخبة المغربية”. استنتاج مازال سائر المفعول وقد يجتهد أي واحد منا للقول إنه لا يزال يمتلك راهنية مثيرة، لأن المتأمل للوضع المغربي الحالي قد تنتابه الدهشة، كذلك، مما يسود العمل السياسي من عجز، وما يسيطر على الحياة الثقافية من رخاوة تسطيح. وتهافت النخبة على اصطياد المصالح بأية طريقة، بل لم تعد تميز بين اليمين واليسار، بين التقدمي والأصولي !!

ركز محمد السادس منذ توليه العرش، على بعض المشكلات الاجتماعية التي كانت لا تخطر ببال والده، وبعبارات تنم على اهتمام شخصي لدرجة وصفته بعض المجلات الأجنبية ب”أب الفقراء”. وبعد تسعة عشرة سنة من حكمه عاش المغرب ظهور بعض الأوراش الكبرى: بناء الطرقات والجسور ومشاريع تشييد البنيات التحتية لكن ما لم يمسه التغير هو الوضع الاجتماعي للمغاربة، إذ ازداد الفقر وتنامت البطالة و واتسع التهميش، بل تدني مستوى العيش لدى الفئة المعدومة التي تخرج يوميا في تظاهرات عبر تراب المملكة، أما الفئة الوسطي فإمكانياتها لا تسمح لها سوى بالبقاء على قيد الحياة. ولعل هذا ما جعله يتساءل في إحدى خطبه كيف أنه رغم المجهودات المتواصلة وغير المتوقفة، ورغم ما يتوفر عليه المغرب من ثروات فسفاطية وسمكية ومعادن ومقالع، لا ينعكس مردودها على الحياة الاجتماعية للمواطنين؟ لذا أعلن عن فشل التنمية في المغرب، داعيا في الآن ذاته إلى العمل على إعداد نموذج تنموي يستجيب لتطلعات المغاربة، وبطي صفحة الريع والفساد والتعليمات والتحالف مع الأعيان، وتقوية الجهاز الأمني المتحكم في البلاد، يقصد الأثرياء الذين يتهربون من تسديد الضرائب ويستفيدون من امتيازات خاصة، كما يستفيدون من الريع الذي يثقل كاهل ميزانية الدولة، واللوبيات السياسية والاقتصادية، التي تضرب كل الحقوق والقوانين القاضية بالعدالة والإنصاف الاجتماعيين عرض الحائط، لجشعها المفرط.

نموذج النظام المغربي هجين: فهو عبارة عن إرث مزدوج كما مر بنا تلقيح المخزن التقليدي بإدارة الحماية. لا هو ديمقراطي يتحرك ببطء نحو التقدم دون أن يتراجع كما يحدث في الهند، ولا هو استبدادي كما هو الحال في الصين التي تتبنى نموذجا اقتصاديا استطاع أن يحقق نسبة نمو جد مهمة سنويا، ويمكن ملايين الصينيين من الارتقاء كل عام من الطبقة الفقيرة إلى المتوسطة. البرلمان مقيد بالإمامة والحكومة مقيدة بالملكية. السياسيون واعون باللعبة لكن كل واحد منهم يود أن يشارك في السلطة دون تحمل أية مسؤولية، من هنا تكوين مشيخة…المنصب موجود، وهو منصب ريعي، لذا تدفع الملايين في الانتخابات التي أصبح يتهافت عليها وعلى الأحزاب الأغنياء الذين لم يكن لهم أي حضور في سنوات القمع القاسية، لأن السياسة كما تمارس عندنا تضمن لهم تنمية المزيد من الثروة، وحتى ونحن نعيش اليوم حمى فوضى ديني طقوسي، ونري آثارها الآن في المجتمع وبدلا من اكتساب القيم العقلية وفرضها كقيم أساسية، بدأنا نفرض قيما أخري باهته، ليتواري دور العلم.

الدولة المغربية التقليدية (المخزن) كما يقول الأستاذ العروي:”جيش ونظام، شرف وشرع وقيادة، الحاصل تطابق بين النوازع النفسانية والهيئات الاجتماعية والتنظيمات السياسية والوظائف التي يقوم بها متولي الأمر، فهو بذلك سلطان وأمير وإمام وشريف وقاض. جمع الحسن الثاني بصفته ملك المغرب كل هذه المعطيات، ولم يتوانى عكس الموقف التقليدي المشار إليه سابقا في إعطاء اللقب مضمونه الحرفي، للتفرد في مسؤولية تسيير الجيش والشؤون الدينية والعدل والأمن الداخلي والعلاقات الخارجية، بمعنى التحكم في وزارات “السيادة،” في انتظار أن يأتي التهذيب من التاريخ، من التطور الموضوعي المستقل عن إرادة الأفراد. وإلى أن يحصل ذلك فالمغربي هو الوحيد الذي يستعمل التكنولوجيا الحديثة في التواصل ويذهب إلى قارئة الحظ أوصاحب الرقية الشرعية. هو الوحيد الذي يركب أرقى أنواع السيارات ويعلق على زجاجها هذا من فضل ربي، أو يعلق الخمسة ظانا أنها ستذهب عنه العين. هو الوحيد الذي يتفرج على “ناسيونال جيوغرافي” وبرامج “علم وحياة” وينكر نظرية داروين. هو الذي يشهد توالي الفديوهات الناقلة لحالات الاغتصابات والاعتداءات الجنسية في الفضاء العمومي، وفي وضح النهار، وأمام الملإ ، من يغتصب ومن يتقن التصوير بواسطة التقنية الحديثة… أمثلة تعكس ازدواجية المجتمع المدعي الحداثة والغارق في التقليدانية. هكذا سيبقى المغاربة شاعرين بالانفصام والتناقض الذي يحيونه يوميا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *