وجهة نظر

في ذكرى انقلاب 23 يوليو 1952: بداية الانهيار!

يقول المغني/المنشد المثقف والملتزم المغربي، صاحب الصوت العبقري الأستاذ رشيد غلام في إحدى تغريداته في حسابه على التويتر: “عندما يُختزل الوطن في واحد، فيصبح يوم ميلاده عيداً وطنياً، ويوم تقلده الحكم عيداً وطنياً، وخطابه قانوناً وقولهُ سداداً، ورأيهُ حكمةً وحُكْمُهُ نعمةً إلهية ً، وبيعتهُ ديناً ونزعها جاهليةً، وطاعتهُ إسلاماً وعصيانهُ رِدةً، ومدحُهُ غنيمة ونقدهُ جريمة، فاعلم أنه وطن عربي.”..

وفي تغريدة ثانية يقول: “يصحب كل حكم استبدادي فرعوني بطانة هامانية مؤازرة، وطبقة قارونية داعمة، وملأ سياسي انتهازي وشعبٌ خانعٌ مطيع”…

وفي تغريدة ثالثة يقول: “لكي تؤمن بالديمقراطية يلزمك أن تكفر بكل أشكال الأنظمة الاستبدادية. ليس هناك نصف عدالة ولا نصف كرامة ولا نصف حرية.”… انتهى..

كلمات تصف حال الأمة بأقصر العبارات وأبلغها، ولذلك رأيتها مناسبة كمدخل لحديثي عن انقلاب 23 يوليو 1952 في مصر، وأثر (العسكرتاريا) المدمر على مجمل الإنجاز او (اللاإنجاز!!) في العالم العربي والإسلامي، وذلك في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية، على مدار 66 عاما منذ وقوع الانقلاب وحتى الآن.

(1)

من الملفت للانتباه ان تتزامن الذكرى السنوية ال – 66 لانقلاب 23 تموز/يوليو 1952، مع تطورات مفصلية في حياة الامة عموما، وفي حياة القضية الفلسطينية خصوصا، وفي حياة القدس والمسجد الأقصى على وجه أكثر خصوصية.

هذه التزامن دفعني الى ان أسأل السؤال الذي يفرضه التحليل غير المعمق ناهيك عن المعمق، حول العلاقة بين انقلاب 1952 والثقافة السياسية والمدنية التي فرضها، وبين أوضاع الامة على مدى العقود الست الماضية وحتى الان!

التغيير في حياة الأمم والانقلاب، او الثورة على أوضاع سلبية في حياتها، امر لا يمكن ان يُحكم له تلقائيا لمجرد وقوعه، إنما يُحْكَمُ له او عليه بناء على نتائجه المحكومة بمعايير لا يختلف البشر الاسوياء عليها: ديموقراطية حقيقية وحريات سياسية، عدالة اجتماعية، كرامة وطنية وتنمية اقتصادية ومدنية، واستقلال في القرار بعيدا عن الهيمنة الخارجية. فهل حقق (انقلاب 52) والذي تطور تعريفه فيما بعد الى (حركة) ف – (حركة الجيش المباركة)، ثم استقر أخيرا على (ثورة)، الأهداف المذكورة والى أي مدى، وما تأثير ذلك سلبا او إيجابا على مجمل القضايا العربية وقضية فلسطين، وما انعكاسات ذلك على واقعنا الراهن على جميع الجبهات بما في ذلك قضية الأقصى المبارك والتحديات التي يواجهها في الأيام الأخيرة؟!

(2)

سأحاول في هذه المقالة تتبع الخيط الواصل بين الأنظمة العسكرية وشبة العسكرية والمدنية ذات العقلية العسكرية، التي نشأت بسبب انقلاب 52، وعلاقتها بالحرب الضروس التي تشنها هذه الأنظمة على شعوبها وخصوصا القوى الحية فيها، حتى حولت الدول العربية والكثير من الدول الإسلامية الى (خرابات) ينعق وسط حطامها وركامها البوم ويصيح فيها الغراب، بعد ان أصبحت ساحات موت امتلأت بالدماء والأشلاء، وأصبح العربي في وطنه غريبا سجينا او طريدا شريدا او شهيدا..

ما هي الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع الكئيب؟ أهي النزعة الاستبدادية التي تميزت بها الانقلابات العسكرية من حيث عدائها لأي نفس ديموقراطي يمكن ان يهدد نهمهم في الحكم وحرصهم على السلطة التي احتكروها لأنفسهم دون غيرهم، وهم الأكثر غباء وفشلا وسوء إدارة، والاقل خبرة في إدارة الدول الحديثة ذات التطلعات التنموية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وعسكريا على أساس من التعددية والحرية والكرامة الوطنية وتداول السلطة السلمي والانبعاث الفكري والاستقلال الوطني، ام ان الأسباب أعمق من ذلك بكثير يتداخل فيها الداخلي مع الخارجي والسياسي مع المصالح والدين مع الدولة؟

واضح جدا ان حال الانظمة التي نشأت بعد ثورة 52 في مصر، وتلك التي تأثرت بها في العالم العربي منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، يدل على ان الدكتاتورية التي وَلَّدَتْها الانقلابات العسكرية ومنها ثورة يوليو كانت قرينة الحرب على قوى التغيير الثورية المعارضة، حيث ابتكرت لأجل نجاحها من وسائل البطش والقتل وخنق الحريات وتجريف المجتمع ثقافيا واخلاقيا وإغراقه بالملهيات المبكيات، ما ضمن لها بقاءها في السلطة لأمد طويل من جهة، وأيضا قرينة العمالة للأجنبي وتسخير طاقات البلد لخدمة مصالحه طمعا في حماية هذه الدكتاتوريات من شعوبها التواقة الى الحرية من جهة أخرى.

هنا يجب أن نطرح الأسئلة التالية: لماذا يحرص الغرب وبدرجات متفاوتة على دعم الأنظمة الدكتاتورية المستبدة رغم انها النقيض لما يؤمن به ويطبقه واقعا من منظومات الديموقراطية والحرية؟! ولماذا انخرط في الكثير من الثورات المضادة في العالم العربي التي انطلقت لإسقاط التجارب الديموقراطية التي نشأت في أكثر من دولة وفي أكثر من مرحلة تاريخية معاصرة، آخرها ثورات الربيع العربي ابتداء من العام 2011، والتي انقلبت عليها قوى النظام الاستبدادي القديم (الدولة العميقة)، بدعم مباشر او غير مباشر من ذات الدول الغربية (الحرة !!)؟! ما الذي يخشاه الغرب من نجاح التجربة الديموقراطية في شرقنا العربي والإسلامي، ولماذا يرتجف فزَعا من استرداد شعوبنا لحقها المشروع في حكم نفسها بحرية، وتحقيق نهضتها بما ينسجم مع قيمها الأخلاقية ومصالحها الوطنية ويتفق مع امنها القومي؟! وهل هنالك ما يمكن ان نفهمه من استهداف هذه الحرب التي تعلنها نظم الاستبداد والغرب الداعم لها والمؤيد لجرائمها والمبرر لانتهاكاتها، على ما يسمى بالإسلام السياسي والثقافة الإسلامية الاصيلة ومن يمثلها من القوى الشعبية (الاخوان المسلمون كمثل بارز) بالذات دون غيرها؟! وهل يمكننا ان نعتبر المؤامرة على فلسطين والمسجد الأقصى المبارك ومدينة القدس والتي ما زالت آخر فصولها تتدحرج حتى هذه اللحظة، عرضا من اعراض هذه المرض العضال الذي أصاب الامة العربية والإسلامية حتى أصابها بالشلل الكامل والعجز الشامل؟!

(3)

اثبت التتبع والاستقراء الحيادي لواقع النظم الدكتاتورية العربية منذ انقلاب يوليو 52 وحتى الان، سواء كانت جمهورية او ملكية او “جملكية”، انها ذات نسق واحد يشكل الاستبدادُ قاعدتَه والفشلُ ذروةَ سنامه. إحدى إسقاطات هذه الحالة، غياب مفهوم الامة والذي أنتج الدكتاتوريات، وفَرَّخَ العصبيات والصراعات السياسية والعسكرية والمذهبية والعشائرية والطائفية والإقليمية، وغَيَّبَ القيم وفتح الباب لطغيان الغرائز وانفلاتها..

هذا الواقع الذي نشأ في ظل الأنظمة العسكرية وشبيهاتها وبسببها، أدت الى نشوء هذا الوضع غير الطبيعي في امتنا، فضعفت وذلت وانهزمت وتخلفت وتمزقت ونزفت، واحتُلَّتْ اوطانها وانتُهِكَتْ حرماتها، وذلت رقابها واهينت مقدساتها (القدس والاقصى كنموذج)، ووثب عليها اعداؤها من كل مكان، حتى ما عاد لها وجود وكأنما هاجرت من التاريخ إلى غير رجعة…

الدكتاتورية السائدة في وطننا العربي والإسلامي والتي هي نتيجة حتمية مباشرة او غير مباشرة لانقلاب 52 في مصر، كما اعراضها المرضية التي ذكرت، لن تزول من حياتها الا إذا سعت شعوب الامة إلى تحقيق نقيضها، والذي يتجسد في الوحدة الجغرافية والسياسية، وإقامة أنظمة شورية ديموقراطية حقيقية، ووحدة للمرجعية الفكرية والقانونية، والتزام الامة قيادة وشعبا ومؤسسات بمنهج الإسلام قولا وعملا، وأخيرا تماسك أخلاقي وعدل وتنمية وكرامة وطنية واستقلال في القرار والإرادة والوعي، وتحرر من الارتهان الخارجي.. عندها وعندها فقط سيبدأ العد التصاعدي لنهضة الامة، والا فلن يكون هنالك الا المزيد من الكوارث والأزمات.

(4)

كيف كان انقلاب 52 نموذجا متكامل الأركان للنظام الفاشل الذي يحكم عالمنا العربي والإسلامي (الا ما ندر)، وما هي اركان فشله؟ أفرزت الثقافة السياسية والاجتماعية التي أسس لها انقلاب 52 حالة من الفشل لأسباب من أهمها: دكتاتورية واستبداد، احتكار السلطة والثروة، القضاء على القوى المعارضة الحية، غياب الرقابة الشعبية والمحاسبة المجتمعية والقانونية والسياسية المتمثلة في مؤسسات الامة الديموقراطية والحرة، بما في ذلك غياب السلطة الرابعة (الصحافة) والتي تعتبر في الأمم المتقدمة كلب الحراسة الوفي للحريات العامة.

أدى كل ذلك إلى غياب الروح الوطنية لدى النظام الحاكم إلا من شعارات لا يرفعها الا بقدر ما تخدم استبداده وتقوي قبضته على شعبه وتحكمه فيه، فاختلت الأولويات والتي اختُزِلَتْ في شيء واحد وهو الحفاظ على النظام وتامين تخليده في الحكم وإن جاءت على حساب المصالح الوطنية العليا والسلم الأهلي والتقدم والازدهار والتنمية وضياع الأرض والمقدسات.

أدى كل ذلك على تحول البوصلة من العدو الحقيقي المغتصب للأرض والمقدسات والاوطان إلى عدو متوهم هو الشعب نفسه، او بشكل ادق القوى الشعبية التي تمثل نبض الامة وبوصلتها، المصرة على المطالبة بحقوقها المشروعة التي تتصادم مع اجندة الأنظمة المستبدة.

إسقاط القضايا الوطنية الكبرى من اجندة انظمة الدكتاتورية والاستبداد إلا من ضريبة كلامية تدفعها لا تسمن ولا تغني من جوع، وتغييبها بقوة السلاح والبطش للقوى المطالبة بالتحرير عبر بوابة التغيير، كان له أثره السلبي الأكبر على قضية فلسطين، قضية العرب والمسلمين الأولى وفي قلبها القدس والاقصى. لذلك نحن لا نتجنى حينما نتهم انقلاب 52 وثقافته التي انتجها والتي أسست لنظامٍ استبداديٍّ أطبق على العالم العربي من المحيط الى الخليج، بأنه من وراء كل ما يصيب امتنا من مصائب. أليست هزيمة العام 1967 واحتلال إسرائيل لفلسطين والقدس والاقصى إضافة الى الجولان وسيناء من (بركات!!) النظام الذي أسس له انقلاب 52 في مصر، والذي ما زال يعطي ثماره النكدة والمُرَّةَ حتى الآن؟!!!

مع ذلك، فأنا لا أستغرب أن يكون للرئيس الراحل عبدالناصر معجبين في أرجاء الوطن العربي وربما في غيره، فالرجل كان في مرحلة ما (القائد الملهم !!!) الذي لا يشق له غبار… لكن الذي استغربته فيما نشرته وسائل الإعلام قضيتان. الأولى، غياب النظرة النقدية والموضوعية لتجربة عبدالناصر البشرية، بهدف الاستفادة منها لبناء الحاضر والمستقبل، حتى بلغ البعض درجةً رفع معها التجربة إلى مستوى التجارب المعصومة التي لا يرقى إليها شك أو يُقْبَلُ فيها نقد. والثانية، أنهم زادوا على خطيئتهم السابقة خطيئة أخرى، إذ صبوا جامَّ غضبهم على الحركات المعارضة ذات التأثير العميق في حركة المجتمعات العربية، إسلامية كانت ك – (الإخوان المسلمون) أو حركات (الإسلام السياسي) عموما، او ليبرالية متنورة، ووصفوها بما أثبتت الدراسات الحيادية بطلانه وكذبه …

(5)

رضي هؤلاء أن يكونوا في خندق واحد مع المتربصين بحركة الأمة في ظل التغييرات العميقة التي تجري في انحاء عالمنا العربي والاسلامي، والساعين إلى إحباطها وإفشالها وتكريس حالة الاستبداد والدكتاتورية التي جسد ناصر نموذجا سيئا من نماذجها …

تأخذ هذه الهجمة بُعدها الخطير في ظل التجارب الديمقراطية الوليدة في أكثر من بلد عربي خصوصا في مصر، فتحرك العسكر مدعومين بالناصريين والعلمانيين والليبراليين والراقصين والراقصات والفنانين والفنانات (إلا قليلا)، ليذبحوا هذه التجربة، وليُجْرُوا الدماءَ انهارا، فحولوا مصر خلال فترة قصيرة إلى سجن كبير لا مكان فيه إلا للمتملقين والمسبحين بحمد الانقلاب العسكري الدموي..

لم استغرب أيضا ان تقوم الأنظمة التي أقامها الاستعمار على نفس الاسس كبعض الدول في الخليج وغيره، بدعم انقلاب السيسي العسكري بكل الوسائل، واعلانه الحرب على نفس القوى التي حاربها وحاول اجتثاثها في حينه عبدالناصر قائد انقلاب 52 بعد إطاحته بمحمد نجيب القائد الفعلي الذي التقى مع الاخوان المسلمين في ضرورة عودة الحياة النيابية الديموقراطية لمصر، وعودة العسكر وضباطه الى ثكناتهم والقيام بمهمته الاصلية والوحيدة في الدفاع عن حدود مصر وامنها.

نفس الصورة تتكرر، فبعد 66 عاما مرت على انقلاب 52 ما زلنا نرى نفس اللاعبين على الساحة: أنظمة مستبدة دموية تُجَرِّفُ اوطانها وتخرب ديارها، وتحارب القوى التغيير الحية فيها.

اما النتيجة فذاتها: تخلف وهزائم وصراعات وحروب أهلية ودمار شامل وفقدان للدور محليا وإقليميا ودوليا. واما الضحية فذاتها أيضا: مصلحة الشعوب، وقضايا الأمة وعلى رأسها قضية فلسطين وفي قلبها القدس والاقصى.

هذا الواقع المتردي شجع إسرائيل على ان تخرج للعالم متحدية ومتنمرة بقانون “إسرائيل دولة اليهود”، والذي استحق أن يصفه الرئيس أردوغان في خطابه الثلاثاء الماضي أمام الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الرئيس التركي أردوغان حول قانون “القومية اليهودية”، بأنه أصدق شاهد وأصدق دليل على أن: “إسرائيل الدولة الأكثر صيهونية وفاشية وعنصرية في العالم بما لا يدع محلا للشك، وانه يكشف حقيقة نوايا تل أبيب فالقانون يبرر “لإسرائيل” كل جرائمها وسرقاتها، ويشرعن ما تمارسه من التهجير والتهويد، وانه لا فرق بين القانون الإسرائيلي الأخير (قانون القومية) وبين العنصرية الهتلرية، روح هتلر انتقلت إلى قادة “إسرائيل” اليوم .”…

كما وشجع هذا الوضع الذي انتجته الأنظمة البوليسية العسكرية العربية وريثة انقلاب 23 يوليو وشبيهاتها، إسرائيل على ان تعلن رسميا من خلال “قانون القومية”، عدم اعترافها الرسمي بالشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في وطنه فلسطين، وأن فلسطين من بحرها على نهرها (أرض إسرائيل) بما في ذلك القدس حق خالص لليهود الذين لهم فقط الحق في تقرير المصير على هذا الارض، وأما غيرهم فليسوا إلا رعايا لا حق أصيل لهم في الأرض ولا عليها.. بساطة: اعلن هذا القانون موت القضية الفلسطينية ودفنها!!

* الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *