وجهة نظر

الفراغ

(السياسة جنة المتبجحين) جورج بيرنارد شو

أخطر شعور يمكن أن ينتاب المرء، هو حين يشعر بنوع من الخواء المسيطر من كل الجوانب، يسير وهو لا يدرك إلى أين يمشي، يفكر فلا يجد موضوعا للتفكير، يرى الأزمة ولا يرى أفقا لحلها، يحاول أن يفهم فلا يعرف أي موضوع يمكن أن يتم فهمه، ينظر حوله فلا يفهم شيء في السياسة.
ولأن السياسة تهم حياة الناس، ولأن السياسيين يقررون في مصير الناس، فإن أخطر ما يهدد العلاقة بين السياسة والناس هي حين يحكمها الفراغ، فتختفي القضايا الجوهرية من الوجود السياسي، وتظهر مواضيع إما أن تكون زئبقية تتمدد حول نفسها، أو قضايا هامشية تصبح بسبب الفراغ ملفات جوهرية.

إن المتتبع للحياة السياسية اليوم، ولكل ما نعيشه، وما يدور حولنا، سيشعر لا محالة بفراغ سياسي خطير، بات الجميع يطرح حوله السؤال التالي: إلى أين نسير؟ لا مشروع سياسي واضح؟ ولا مشروع اقتصادي نافع؟ ولا حتى مشروع فكري واعد؟ نسقط في هاوية بعض من الجهل، أو كثير من الفتات الفكري، نتبادل التهم حول حقيقة الولاء للوطن وللملكية، و في أقصى الحالات نبعثر الاتهامات بالفساد، ونوظف بشكل انتهازي كلمات كبيرة مثل الريع والامتيازات واستغلال النفوذ، حتى فقدنا لغة حوارنا، وأفقدنا معه للغة العربية قيمتها وقدسيتها.

أحيانا ينتابني شعورا بأننا نعيش أقبح مرحلة سياسية في تاريخنا المعاصر، تركنا فيها اهتمامات الناس تهيم لوحدها في الشارع، واختفينا كسياسيين وكأحزاب وكمثقفين وكنخب، فصعب أن يتوارى السياسي إلى الوراء تاركا وراءه من هب ودب ليعطي دروسا ورأيا في القضايا الكبرى للوطن، صعب أن تنزوي الحكومة في زاوية غير مبالية، ويختبئ السياسي وراء أبواب المؤسسات، فتشعر أن الشارع يموج لوحده، والسياسة تهيم في واد، والنخب في واد آخر، وكأن لا أحد يبالي بها، فذلك حتما سيؤدي إلى انزلاقات، وسننتج أشخاصا بزعامات وهمية، تحتل الشارع وتقرر بشعبوية قد تقود الوطن في اتجاه غير محمود العواقب.

إن كل غيور على هذا الوطن، أصبح يخشى على راهنه ومستقبله من الفراغ السياسي الذي بات يتحكم في التفاصيل، فلا يعقل أن نأتي اليوم وبعد 60 سنة من الاستقلال ونعيش الفراغ، لا يعقل بعد كل هذه العقود من الممارسة والتراكمات لازلنا عاجزين عن صنع سياسيين، و فاشلين في تحويل بعض الموظفين إلى قيادات، أو حتى بعض من التجار إلى زعماء.

إن للسياسة رجالاتها الذين يصنعون التاريخ، وتصنعهم المواقف، يصنعهم الفكر، وتصنعهم القدرة على التحليل وعلى إبداع الحلول، يقولون إن السياسي الناجح هو ذلك السياسي الذكي، الجريء، الشجاع، الكريم والصادق، أو على الأقل الذي يتوفر على بعض من هذه الأوصاف التي تعوض بعضها البعض، أما إذا انعدمت كلها فإنها نهاية شعب بكامله.

لا يمكن بعد كل هذا التراكم، أن نقف مشدوهين، متسائلين: ألهذه الدرجة انعدمت القيادات السياسية في هذا الزمن؟ وإذا كان الأمر كذلك أين الخطأ؟ هل في تهميش الأحزاب لفائدة التقنوقراط؟ أم في هيمنة ذلك التفكير المحاسباتي الضيق على الفكر السياسي المفتوح على الآفاق؟.

وفي جميع الأحوال، لا يمكن أن نغفر لأنفسنا أن يكون لنا وطن بدون رجالات ولا نساء، لا نريد أن يهيمن الرعاع أو الفراغ على القرار السياسي، أو نخضع لكل من استطاع أن يفتح فمه دون أن يدري ماذا يخرج منه، نريد وطنا برجالات ونساء يتسمون بالذكاء والشجاعة والنزاهة، وهم دائما من كانوا يحمون هذا الوطن عبر التاريخ، فكيف لا نجدهم اليوم؟ ومن المسؤول؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • منذ 6 سنوات

    قرات المقال بامعان واتفق مع ماجاء فيه جملة وتفصيلا واعتقد ان كل من يقراه سيتفق مع كاتبه لكن لا اعتقد ان الاجابة عن الاسئلة المطروحة صعبة المنال على مغربي متوسط الثقافة شريطة ان يكون متتبعا للشان السياسي ببلدنا الحبيب فما بالك بمن هو غارق فيه الى الاذنين ككاتب المقال.وسادلي ببعض الاجابات لكنها عبارة عن اسئلة واترك للقارئ الكريم حرية الاستنتاج . 1) الم يظهر ببلدنا زعماء سياسيين كبار مختلفي التوجهات السياسية واغلبهم جمعوا بين الثقافة بمفهومها العام والفكر السياسي ؟ 2) الم ينشا هؤلاء وتربوا في اطار احزاب كانت ولادتها ولادة طبيعية ؟ 3) لماذا كان المغاربة يحترمون هؤلاء السياسيين رغم الاختلاف معهم سياسيا؟ 4) الا تعتبر الاجابات عن الاسئلة السابقة السبب الرئيسي في انخراط المغاربة في الاحزاب المختلفة حسب القناعة الايديولوجية لكل واحد؟ 5) الا يعتبر تفريخ الاحزاب منذ تجربة الستينات سببا في هروب اغلب المغاربة من السياسة والسياسيين تدريجيا منذ التاريخ المذكور وبشكل واضح خلال العشرية الاخيرة من القرن العشرين وبشكل اوضح خلال القرن الواحد والعشرين وربما بشكل ينذر بالكارثة مستقبلا 6) الا يعتبر انخراط بعض الرموز ناهيك عن الاخرين من المهرولين وراء المصالح الشحصية سببا في تكريس الوضع المتردي للساسة والساسيين ببلدنا ؟ يكفي هذا على الرغم من ان هناك اسئلة كثيرة لا تزال مطروحة ويبدو لي ان المغاربة بدهائهم قد تلمسوا الطريقة الصحيحة للتغيير الايجابي وبدون ضجيج اعتمادا على ذواتهم وبما راكموه من تجارب تجاوزوا به الصياح المبحوح لاشباه السياسيين عندما تيتعلق الامر بمصالح الشعب والصياح الواضح عندما يتعلق الامر بمصالحهم هم .