وجهة نظر

هل رئاسة النيابة العامة سلطةدستورية؟!

يتابع الجميع النقاش الدائر حول رئاسةالنيابة العامة وعلاقتها بباقي المؤسساتوالسلط الدستورية، خاصة بعد تقديمرئيس النيابة العام تقرير عن سير أعمالها وتنفيذ السياسة الجنائية خلال ندوةصحفية، وكذا إحالته على المجلس الأعلىللسلطة القضائية والبرلمان.

وسأسعى من خلال هذا المقال إلى الإسهامفي قراءة النصوص الدستورية والقانونية،حيث أن الوقوف على وضعية رئاسة النيابةالعامة ورصد ما يتعلق بتدبير انتقالها منالتبعية لوزير العدل إلى الوكيل العامللملك لدى محكمة النقض بصفته رئيساللنيابة العامة، يجعلنا أمام مرحلة تأسيسيةتقتضي من كافة الفاعلين الإسهام فيتثبيت قواعد وآليات هذا الانتقال، بما لايتعارض والنصوص الدستورية والقانونية،وبما يسهم في تَشَكُّل علاقات مؤسساتية مبنية على التعاون والتكامل بين السلطدون المس باستقلالية هذه السلطة كمانص على ذلك الدستور المغربي.

وبالرجوع إلى بعض اللقاءات الإعلاميةللسيد الوكيل العام للملك لدى محكمةالنقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، نلاحظأن هناك رغبة لإعطاء مؤسسة رئاسةالنيابة العامة وضعية قانونية ومؤسساتيةخاصة ترقى بها إلى مكانة السلطةالدستورية، وهو في تقديري تجاوز للحدودالتي سطرتها الوثيقة الدستورية والقانونيالتنظيمين الخاصين بالمجلس الأعلىللسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاةوالتي جعلت منها “سلطة” رئاسية.

و وجب التذكير في البداية أن الوظيفة أوالمهمة القضائية في عمومها، من الناحيةالدستورية والقانونية، كانت تمنح للقاضيكامل الاستقلالية في اتخاذ ما يراه مناسباأثناء نظره في النزاع المعروض عليه قبل أنيرتقي دستور 2011 بهذه الوظيفة إلىموقع السلطة الدستورية ويمنحها استقلالاعن السلطتين التشريعية والتنفيذية، غيرأن هذا الانتقال لا يعني أن القضاء خلالمرحلة ما قبل دستور 2011 كان تابعاللسلطة التنفيذية، وإلا سنكون أمامالحاجة إلى مراجعة كل ما بت فيه القضاءالمغربي خلال هذه المرحلة بداعي عدمالاستقلالية وتبعيته لسلطة أخرى أثناءقيامه بمهامه القضائية.

ويمكن الوقوف على تموقع رئاسة النيابةومحددات نشأتها الجديدة من خلال ثلاثمداخل أساسية:

أولا: في القول أن رئاسة النيابة العامةسلطة دستورية:

إن وجهة النظر التي قام عليها القول بأنرئاسة النيابة العامة سلطة دستوريةمستقلة، قائمة على كون الفصل 110 منالدستور قد أحدث سلطة دستورية جديدةيتبع لها قضاة النيابة العامة، غير أن هذا لا يعني، وبمقتضى نفس الفصل، سوىالتنصيص على ضرورة تبعية قضاة النيابةالعامة لسلطة رئاسية، على خلاف ماهوعليه الامر بالنسبة لقضاة الأحكام الذين لايمكن أن يكونوا تابعين لأي سلطة رئاسيةعلى مستوى قيامهم بمهامهم القضائية،ومرد ذلك هو خصوصية عمل قضاة النيابةالعامة الذين يعهد إليهم بتنفيذ السياسةالجنائية، فالنيابة العامة في أصلها سلطةاتهام يلتزم قضاتها بتنفيذ التعليماتالكتابية القانونية الصادرة عن سلطتهمالرئاسية المتمثّلة سابقا في وزير العدلبصفته رئيسا للنيابة العامة بمقتضىالفصل 51 من قانون المسطرة الجنائية.

وما يعزز رأيي في كون رئاسة النيابة العامةليست سلطة دستورية، كما هو الشأن بالنسبة لباقي السّلط المنصوص عليهادستوريا، هو إجراء مقارنة بسيطة بيننسختي الدستور المغربي العربيةوالفرنسية، ففي النسخة الفرنسية يتمالحديث عن السلطة التشريعية أو السلطةالتنفيذية وكذا السلطة القضائية بمعنى« pouvoir »، على خلاف السلطة التييتبع لها قضاة النيابة العامة والتي تموصفها ب « l’autorité hiérarchique » والفرق كبير بين المفهومين، فمفهومالسلطة الرئاسية مفهوم دقيق يحددالعلاقة البينية بين الرئيس والمرؤوس،والتي يدققها الفصل 110 في كونها تنظبطلما هو كتابي وقانوني، على خلاف السلطةالدستورية التي تحوز مجموعة منالامتيازات في علاقتها بباقي السلطوالمؤسسات، كما تبرز مظاهر السلطةالرئاسية كذلك من خلال الفصل 116 منالدستور الذي نص على أن “يراعيالمجلس الأعلى للسلطة القضائية فيالقضايا التي تهم قضاة النيابة العامة،تقارير التقييم المقدمة من قبل السلطةالتي يتبعون لها”

ثانيا: تبعية النيابة العامة للوكيل العامللملك لدى محكمة النقض اختيار تشريعيوليس دستوري

يذهب البعض إلى القول باستقلال النيابةالعامة عن السلطة التنفيذية هو اختياردستوري جاء به دستور 2011 في سياقتعزيز إستقلالية القضاء، وهو ما لا يستقيمفي اعتقادي مع ما جاء به دستور 2011 ومع السياق العام الذي واكب إصلاحمنظومة العدالة، حيث أنه في البدايةوجب التأكيد على أن تبعية النيابة العامةلأي جهة غير سلطة تندرج ضمن سلكالقضاء لا يعد بالضرورة مدخلا للقولبعدم استقلال السلطة القضائية، وإلاوالحالة هذه، فكيف سنفسر تبعية النيابةالعامة أو المدعي العام في الكثير منالأنظمة القانونية الاخرى للسلطة التنفيذيةأو حتى انتخابه من قبل البرلمان، ومردذلك يرجع بالأساس، كما سبقت الإشارةالى ذلك، الى طبيعة مهام ووظائف النيابةالعامة وعلى رأسها أنها سلطة اتهام يعهدإليها بتنفيذ السياسة الجنائية.

ومن جهة أخرى ميز دستور 2011 بينقضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة، الذينيتبعون لسلطة رئاسية لم يحددها الدستوروترك للمشرع سلطة تقدير من هي هذهالسلطة الرئاسية، ورغم أن المجلسالدستوري في قراره رقم 992 وتحديدا مايخص رقابته لمدى دستورية المادة 25 منالقانون التنظيمي رقم 103.14 المتعلقبالنظام الأساسي للقضاة، قد اعتبر أنالنيابة العامة لا يمكن أن تكون تابعة لأيجهة غير الجهة القضائية، مستندا في ذلكعلى إشتراك قضاة النيابة العامة وقضاةالأحكام في صفة القاضي، وجعل هذهالصفة هي المحدد في طبيعة السلطةالرئاسية التي يتبع لها قضاة النيابة العامةعِوَض اللجوء إلى طبيعة المهام المسندةإلى قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامةومدى تأثير هذه الجهة على استقلالالقضاء، خاصة وأن الفصل 116 منالدستور قد اشترط شرطييْن أساسيين فقطفي علاقة السلطة الرئاسية للنيابة العامةبقضاة النيابة العامة وهما أن تكونتعليمات السلطة الرئاسية تعليمات كتابية،وقانونية، وهذا جوهر طبيعة العلاقةالدستورية التي تربط بين رئاسة النيابةالعامة وقضاة النيابة العامة، وعليه يكونإختيار الوكيل العام للملك لدى محكمةالنقض ليكون رئيسا للنيابة العامة اختيارمن بين الاختيارات التشريعية التي كانتمطروحة على المشرع.

وما يعزز هذا الطرح في نظري هو الفصل54 من الدستور الذي نص على إحداثمجلس أعلى للأمن والذي ضم في عضويتهوزير العدل، وهنا يطرح السؤال عن الصفةالتي سيكتسب بها وزير العدل عضويته فيهذا المجلس من غير إمكانية إشرافه علىمؤسسة الإتهام وأساسا إمكانية رئاستهللنيابة العامة، وإلا ما جدوى عضوية وزيرمشرف على الإدارة في مجلس ذو طبيعةوصلاحية تهم الأمن الداخلي والخارجيللبلاد .

كما أن تحديد السلطة الرئاسية للنيابةالعامة في شخص الوكيل العام للملك لدىمحكمة النقض جاء بمقتضى الموادالمدرجة ضمن القوانين التنظيميةالمتعلقة بالمجلس الأعلى للسلطةالقضائية والنظام الأساسي للقضاة، وقدكان هذا نتاج حوار وطني حول منظومةالعدالة، كواحد من الخيارات التي كانتمطروحة حول موضوع تبعية النيابة العامةللسلطة التنفيذية في شخص وزير العدل،وإلا ما داعي إلى مدارسة تبعية النيابةالعامة خلال هذه الحوار الوطني.

ثالثا: في طبيعة العلاقة بين رئاسة النيابةالعامة والسلطة التشريعية والتنفيذية.

حدد القانون التنظيمي 100.14 المتعلقبالمجلس الأعلى للسلطة القضائيةمستويين من العلاقة بين السلطة القضائيةوالسلطتين التنفيذية والتشريعية، حيثنصت المادة 54 من القانون التنظيميعلى إحداث هيئة مشتركة بين المجلسوالوزارة المكلفة بالعدل تتولى التنسيق فيمجال الإدارة القضائية، تعمل تحت إشرافكل من الرئيس المنتدب للمجلس والوزيرالمكلف بالعدل، كل فيما يخصه، بما لايتنافى واستقلال السلطة القضائية، وهو ماأقره المجلس الدستوري من خلال قرارهرقم 991 حيث ورد فيه، “وحيث إن النظامالدستوري للمملكة لا يقوم فحسب علىأساس فصل السلط، بل ينبني أيضا علىتوازن هذه السلط وتعاونها، طبقا لما نصعليه الدستور في الفقرة الثانية من فصلهالأول؛ وحيث إن مبدأ التعاون بين السلطيقتضي، عند الحاجة، إقامة علاقات تنسيقبينها قصد تحقيق غايات مشتركة، منخلال تسهيل كل سلطة لممارسة السلطةالأخرى لوظائفها خدمة للصالح العام؛وحيث إن حسن تدبير الإدارة القضائيةيندرج في الصالح العام؛ وحيث إنه،تأسيسا على ما سبق بيانه، فإن ما تنصعليه هذه الفقرة من إقامة هيئة مشتركةبين المجلس الأعلى للسلطة القضائيةوالوزارة المكلفة بالعدل تتولى التنسيق فيمجال الإدارة القضائية، موافق للدستور”

كما نصت نفس المادة على إمكانية حضورالوزير المكلف بالعدل اجتماعات المجلسقصد تقديم بيانات ومعلومات تتعلقبالإدارة القضائية أو اَي موضوع يتعلقبسير مرفق العدالة، بما لا يتنافى واستقلالالسلطة القضائية، سواء كان ذلك بطلبمن المجلس أو من الوزير بعد موافقةالمجلس، وهو ما اعتبره المجلسالدستوري غير مخالف للدستور، مرتكزا فيذلك على الفصل الأول من الدستور الذيجعل النظام الدستوري قائما في نفسالوقت على فصل السلط وكذا تعاونها، بيدأنه على مستوى علاقة رئاسة النيابة العامةبالسلطة التشريعة، أقر القانون التنظيميمن خلال المادة 110 أوجه العلاقة فيعرض ومناقشة اللجنتين المكلفتينبالتشريع بالبرلمان تقرير وكيل الملك لدىمحكمة النقض بصفته رئيسا للنيابةالعامة، والذي يهم تنفيذ السياسة الجنائيةوسير النيابة العامة، على اعتبار أن البرلمانيختص بصياغة السياسة الجنائية، فيمايعهد بتنفيذها للنيابة العامة من خلالالتعليمات الكتابية والقانونية الصادرة عنرئيسها.

إلا أن قرار المجلس الدستوري رقم 991،فيما يتعلق بدستورية هذه المادة ووفقالقراءة الضيقة للقرار الدستوري 991، قديكون حد نوعا ما من إمكانية قيام علاقةالتعاون بين السلطة التشريعية والنيابةالعامة باعتبارها الجهة المختصة بتنفيذالسياسية الجنائية داخل السلطة القضائية،حيث ربط دستورية المادة بكونها لا تشترطعرض وحضور رئيس النيابة العامة أثناءمناقشة تقرير رئاسة النيابة العامة، أي أنهبمفهوم المخالفة، اشتراط عرض وحضوررئيس النيابة العامة لتقريره حول تنفيذالسياسة الجنائية وسير النيابة العامة يجعلالمادة مشوبة بعدم الدستورية.

غير أن عدم تصريح القرار الدستوري 991 بشكل مباشر وواضح على كوّن عرضوحضور رئيس النيابة العامة يعد مخالفاللدستور، يطرح تساؤلا كبيرا حول جوهرافتراض مخالفة المادة 110 للدستور؛ هلفي اشتراط العرض والحضور، أم في عرضالتقرير والحضور لمناقشته في حد ذاته.

كما أن القرار الدستوري رقم 991 وهويحدد شكل الرقابة على رئاسة النيابةالعامة، تطبيقا للمبدأ الدستوري القاضيبربط المسؤولية بالمحاسبة، قضى ب أنه ” لئن كانت الجهة القضائية التي تتولى رئاسةالنيابة العامة، تظل – وفقا للمبدإالدستوري القاضي بربط المسؤوليةبالمحاسبة – مسؤولة عن كيفية تنفيذهاللسياسة الجنائية الموضوعة من قبلالسلطة الدستورية المختصة، فإن إعمالهذا المبدأ لا يمكن أن يتم، فيما يخصالسلطة القضائية المستقلة عن السلطتينالتشريعية والتنفيذية، بنفس الكيفيةوبذات الأدوات التي يتم بها في مجالاتأخرى، بالنظر لطبيعة السلطة القضائيةواستقلالها وآليات اشتغالها والسبلالمقررة لتصحيح أخطاء أعضائها؛”، وهو مايفيد أن رئاسة النيابة العامة لا يمكن أنتخضع لنفس الكيفية وذات الأدوات التيتتم بها الرقابة على سلط ومجالات أخرى،لطبيعة وخصوصية السلطة القضائية، إلاأن جوهر الإشكال يتعلق بكون القراءةالضيقة لمفهوم عرض وحضور رئيس النيابةالعامة، والذي في أصله يجب أن لا يتجاوزالمبدأ الدستوري القاضي بالتعاون بينالسلط (سلطة تختص بصياغة السياسةالجنائية، وسلطة رئاسية تختص بإصدارالتعليمات الكتابية القانونية قصد تنفيذ السياسة الجنائية) وأن لا ينصرف إلىمنطق الرقابة البرلمانية على السلطةالقضائية، والتي تفترض وجود أثار قانونيةأخرى لا يمكن تصورها في هذا الباب.

ومناط الغرابة كذلك هو اعتماد قرائتينمتناقضتين للمبدأ الدستوري القاضيبالتعاون بين السلط في نفس القرارالدستوري، حيث أكد في جزءه الأولالمتعلق بالعلاقة مع السلطة التنفيذيةعلى دستورية خلق آليات التعاون معهاوفق ما نصت عليه المادة 54 من القانونالتنظيمي، واعتبر في جزئه الثاني اشتراطالعرض والحضور من قبل رئيس النيابةالعامة مخالف للدستور ، وإن كنت أميلإلى القول أن قرار المجلس الدستورياعتبر أن الاشتراط هو الذي قد يجعل منالمادة 110 من القانون التنظيمي مخالفاللدستور، لما له من تدخل مباشر في حريةجزء من السلطة القضائية، والذي قديكون ماسا باستقلالها، أما أن يكون الحضوروالمساهمة في مناقشة تقرير سير النيابةالعامة وتنفيذ السياسة الجنائية عائداللارادة المنفردة لرئاسة النيابة العامة، أوبناء على طلب تتقدم به السلطةالتشريعية، فهذا لا يمس بأي شكل منالأشكال – مادام لا يرتب أي أثار قانونية- على عمل رئاسة النيابة العامة وقيامهابأدوارها في إصدار التعليمات الكتابيةوالقانونية لقضاة النيابة العامة، بقدر مايسهم في تطوير السياسة الجنائية وتعديلهاعلى مستوى النص التشريعي، وتجاوزالاشكالات التي تعترضها على مستوىالتنفيذ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *