منوعات

السلطان محمد الثالث وسياسة فك الأسرى

(سياسة محمد الثالث لتعزيز علاقة الدولتين العثمانية والمغربية / الحلقة 4)

وقفنا في الحلقات السابقة على النجاح الذي حققه السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله في كسر الجمود الذي كان يطبع علاقة الدولة العلوية بالدولة العثمانية؛ والذي أرجعه باحثون إلى كون سلاطين الدولة العلوية يعتبرون أنفسهم أحق بالخلافة بفضل نسبهم الشريف؛ مما جعلهم يتعاملون مع الأتراك بحساسية أورثت برودة في العلاقة؛ وهي السياسة التي غيرها بقدر كبير من الدبلوماسية محمد الثالث الذي استطاع أن يحتل مكانة مرموقة عند السلطان العثماني الذي اعترف به سيد دولة مسلمة مستقلة.

وهذا الاعتراف يتأسس على عوامل؛ أهمها -فيما يبدو-: نجاح السياسة الخارجية للسلطان المغربي؛ وأبرز مكونات هذا النجاح: سياسته الرائدة والمتميزة عالميا في فك أسرى المسلمين بمن فيهم: رعايا الدولة العثمانية من الجزائر وغيرها.

وهو سلوك شرعي إنساني أكسبه الإعجاب والتقدير في كل أنحاء العالم الإسلامي وغيره، وعند العثمانيين بشكل خاص.

لقد ناضل السلطان محمد الثالث بشكل كبير ضد الاسترقاق الذي مارسته دول مسيحية ضد آلاف المسلمين؛ وشن حملات كبرى لتحرير أولئك الأسارى المستعبدين؛ ولم يقتصر في ذلك على رعايا دولته المغربية بل كان ذلك لفائدة المسلمين بشكل عام وفي مواطن متنوعة من العالم الإسلامي؛ وفي مقدمتهم: رعايا ولايات الجزائر وتونس وطرابلس .. الذين سعى لفداء أعداد كبيرة منهم بأمواله وبجهوده الدبلوماسية في مالطا والجمهوريات الإيطالية الصغرى ..

في هذا الجزء من الدراسة أود إبراز هذه السياسة (فكاك الأسير)، وتأكيد دورها في تعزيز وتحسين العلاقات المغربية التركية.

ولهذا الغرض أقف مع شخصية الوزير محمد بن عثمان المكناسي المتوفى في حدود عام 1798 م / 1212 هجرية.

وهو إحدى الشخصيات المغربية التي كان لها دور هام في تاريخ العلائق الخارجية للمغرب أيام الملوك الثلاثة: سيدي محمد بن عبد الله ومولاي اليزيد ومولاي سليمان.

هذا الفقيه السياسي الديبلوماسي ألّف كتابا نفيسا يمكن اعتباره وثيقة شاهدة على ملمح من ملامح النهضة المغربية؛ فيما يتعلق بعلم الاجتماع؛ بحيث أن مؤلفه جعله عبارة عن وصف دقيق لمشاهداته أثناء سفره إلى إسبانيا وكل ما يتعلق بمجتمعها ودولتها من ثقافة ودين وسياسة وفن …

وقد ضمن كتابه بعض الصور، وكان دقيقا جدا في وصف مشاهداته؛ مما يجعل من كتابه هذا شاهدا على إسهام المثقفين المغاربة في مجال علم الاجتماع ..

وقد ضمنه شهادات نفيسة تتعلق بفكاك الأسرى المسلمين وجهود السلطان سيدي محمد بن عبد الله في ذلك؛ ومن هنا سماه: “الإكسير في فكاك الأسير”.

وقد كان هذا الكتاب النفيس من كتب الرحلات ضائعا حتى اكتشفه الأستاذ إبراهيم الكتاني بخزانة زاوية تمكروت، واعتنى به وطبعه سنة 1965 الأستاذ محمد الفاسي؛ الذي قال في توصيفه: “هو كتاب حي يصف الحياة الإسبانية في المائة الثامنة عشرة وصفا دقيقا؛ فهو مولع بمعرفة الأشياء والاطلاع على أصولها ومقاييسها وفوائدها.

يهتم بالحياة الاجتماعية وبالنشاط الاقتصادي والثقافي؛ فما ترك مظهرا من مظاهر الحياة الإسبانية من رقص وتمثيل ولعب ثيران وتفسح في الميادين والشوارع إلى غير ذلك من أوجه النشاط العام لهذه الأمة إلا وتعرض له بالوصف والتحليل، ولم يترك عملا أو دار صناعة إلا ودخله وسأل عن تسيير العمل فيه وعن إنتاجه وقيمته بالتقدير النقدي وعن كل ما يتعلق به.

وكذلك اهتم بكل ما يتعلق بالعلم والفن؛ فزار المدارس والمتاحف والقصور والمتنزهات وخزانات الكتب والمستشفيات.

وأولى الحياة الدبلوماسية عناية خاصة، وله اطلاع واسع متين على العلائق العائلية بين مختلف بيوتات الملك في أوروبا.

أما حياة القصر الملكي بإسبانيا فقد أعطى عنها معلومات دقيقة وأورد مختصرا عن تاريخ الأسرة المالكة وذكر تنقلات الملك بين مختلف متنزهاته والاحتفال بالأعياد الدينية خصوصا عيد الفصح ووصف مقبرة ملوك إسبانيا بالاسكوريال وتكلم على نظام ما يسمى بكبراء إسبانيا.

وتعرض بتفصيل لأعمال التعمير التي قام بها الملك (كارلوس) الثالث؛ من إنشاء الطرق واستصلاح الأراضي والاهتمام بالزراعة والملاحة البحرية والعسكرية، والمواصلات خصوصا البريد وذكر نظامه وسيره بتفصيل وكذلك تكلم على النظام العسكري وعلى عناية (كارلوس) الثالث بالخيل وبالصيد.

واعتنى عناية خاصة بالكلام عن الديانة الكاثوليكية وأعطى تفاصيل مسهبة عن اختيار البابا وتكلم على ديوان التفتيش وعن اليهود بإسبانيا ومعاملة الكنيسة والحكومة لهم.

واهتم بحياة الإسبان الدينية من تعميد وصيام واعتراف واحتفال بالأعياد الدينية إلى غير ذلك؛ مع الكلام على حياة الرهبان في الأديرة والراهبات ونظام ذلك.

وبالمناسبة تكلم على تاريخ الممالك الإسلامية بالأندلس وعن العائلات الإسبانية التي لها أقارب من المسلمين بالمغرب وعن الآثار الإسلامية بإسبانيا.

أما عن الطبيعة الإسبانية من جبال وأنهار وبحيرات وغابات فلم يغفل شيئا مما شاهده منها عند سفره من مدينة قادس إلى مجريط شمالا وكذلك في الرجوع من مجريط إلى ناحية شرق الأندلس، ولم يغفل الإشارة إلى أرحية الريح الشهيرة بناحية المانشا التي داع صيتها بما تلعبه من دور في رواية (دون كيخوطى) للكاتب العبقري سير فانطيس.

ومن أهم ما تحتوي عليه هذه الرحلة معلومات قيمة عن الأسارى الجزائريين الذين كانوا بإسبانيا وقد كان ذلك السبب الأساسي لتوجيهه سفيرا إلى ملكها.

مع أن الرحلات السفارية لا تتعرض في الغالب لموضوع السفارة كأن ذلك من سر الدولة الذي يصان ولا ينبغي نشره وإنما يترك للتقارير الرسمية التي يقدمها السفير لدولته بعد رجوعه.

وفي هذه الرحلة خالف ابن عثمان هذا التقليد وذكر في مقدمة كتابه القصد من توجيهه قائلا: “وقد كان عند النصارى قبل هذا من أسارى المسلمين عدد كثير وجمهور غفير وكلهم من البلاد المشرقية مثل طرابلس وتونس والجزائر وعمالاتها فسرح الله تعالى جلهم على يده الكريمة”.

وفصل الكلام على ذلك في الرحلة وقد كان الأسارى الذين توجه لافتدائهم كلهم من أهل الجزائر وقد ذكر أن الحكام الأتراك بالجزائر كانوا لا يقبلون أن يفتدوا الأسرى الإسبان عندهم إلا بالأتراك؛ أما بالعرب فيردونهم إلى الأسر.

قال حاكيا عن مفاداة سعى في إنجازها سيدي محمد بن عبد الله مع ملك إسبانيا حتى وجه جميع الأسارى المسلمين إلى الجزائر: “ففدى عامل الجزائر الترك وامتنع من افتداء العرب وفدى من بقي عنده من النصارى بالمال ورد المسلمين إلى الأسر ببلاد الكفر فانظر إلى هذا الفعل الشنيع والأمر الفظيع” .

لذلك كان سيدي محمد بن عبد الله يهتم بافتدائهم كما يفعل في سبيل كل الأسارى المسلمين “حتى أخرج جميعهم احتسابا له تعالى وابتغاء مرضاته” .

وقد ذكر ابن عثمان أن الأسارى الذين سعى في تسريحهم كانوا كلهم من أهل الجزائر وإيالتها.

وكذلك أعطى تفاصيل مهمة عن المعاهدة التي أبرمها باسم ملكه مع عاهل إسبانيا (كارلوس) مما نترك الكلام عليه للبحث الذي أشرنا إليه آنفا.

وبالجملة فلم يترك ناحية من نواحي الحياة في عصره بإسبانيا إلا وتعرض لها ووصفها، وهو يوفق في تدقيق الوصف ويستعمل لغة سهلة ويهتدي إلى مصطلحات مناسبة للتعبير عن مظاهر الحضارة الإسبانية وإن كان لا يجتنب استعمال الألفاظ العامية العربية. أما الألفاظ الإسبانية فإنه يذكرها مع ترجمتها إلى العربية في الغالب” .

قال الفقيه محمد بن عثمان في مطلع كتابه:
“بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما؛ يقول راجي رحمة الرحمن أفقر الورى إليه محمد بن عثمان؛ سامحه الله تعالى بمحض الامتنان وأسكنه بفضله دار رضوان:

الحمد لله فاتح الأبواب، وميسر السعادة ومسبب الأسباب، فقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]، لمن أراد من خلقه نحمده سبحانه على نعمائه ونستوهبه من فضله مزيد آلائه، ونصلي ونسلم على سيدنا ومولانا محمد أفضل من قصد القاصدون ويمموا؛ وبعد فإنه لما كان مولانا الإمام المجاهد الضرغام، حامي بيضة الإسلام، وظل الله على الخاص والعام ممن جبل على فعل الخيرات، ومواساة أهل الحاجات والضرورات، ذو الهمة التي سمت على الأوائل والأواخر، والمآثر التي تعجز عن حدها الأقلام والمحابر، والعزم المصروف، في كل ثغر مخوف، سيدنا ومولانا الأجل، الغيث الواكف المنهل، بحر الشجاعة والندا، الواسع الفضل لا إلى مدا، أمير المؤمنين، المجاهد في سبيل رب العالمين، المنصور بالله: سيدي محمد بن عبد الله، نصره الله تعالى وأيده، ومهد ملكه وشيده، وأدام للفضل أيامه، وللفضل أحكامه؛ مولعا بتشييد ما اندثر من معالم الدين، ناهجا في ذلك منهج الخلفاء الراشدين، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

وكان ممن اختصه الله تعالى بالشفقة على عباده، والسعي في الصلاح في أرضه وبلاده، والبحث عن أسارى المسلمين، الذين بأيدي الكافرين، وقد كان عند النصارى (الإصبليون) قبل هذا من أسارى المسلمين عدد كثير، وجمهور غفير، وكلهم من البلاد المشرقية مثل طرابلس وتونس والجزائر وعمالاتها، فسرح الله جلهم على يده الكريمة لكرامتها عند الله وجلالتها، وكنت ممن تفضل الله عليه بالانتظام في سلك خدمته، وبالاستظلال في ظل سعادته، فبعثني أدام الله أيامه، ونصر أعلامه، للبلاد (الإصبنيولية) وإلى عظيمها، وأصحبني أدام الله تعالى سعادته، وأهلك عدوه وكبته، عشرة آلاف مثقال من سكته، ليأخذ كل أسير حظه من صلته، خلد الله سبحانه وتعالى هذه الحسنة في صحائف أعماله، وبلغه من فضله نتيجة آماله، ولآتيه بما تيسر لنا من أسارى المسلمين، فتوجهت راجيا من الله تعالى أن يكون لنا خير معين إنه ولي ذلك، والمانح لما هنالك.

وسميته: “الإكسير في فكاك الأسير”.

وقد رأيت أن أقيد ما أبصرته في وجهتي وأوبتي، من المدائن والحواضر، والقرى والمداشر، وإن لم أكن من أهل هذا الميدان، ولا ممن له فيه جولان، لكنني رسمته لمن هو مثلي بالقصور معترفا ولم يكن مستنكفا، مستمدا من الله تعالى التوفيق، إلى سواء الطريق.
ذكر دخولنا مدين سبتة أعادها الله دار إسلام:

كان توجهنا من عند مولانا المنصور بالله، وهو في رباط الفتح، حرسه الله في عشرين من شوال عام ثلاثة وتسعين ومائة وألف ، فوصلنا سبتة في رابع ذي القعدة من سنة تاريخه، فنزلنا بظاهرها …

وفي مدة مقامنا في سبتة كان يرد علينا أسارى المسلمين الذين عندهم؛ فقد وجدنا منهم هنالك ثلاثة وعشرون وكلما وردوا علينا يعلنون بنصر سيدنا ومولانا وكانوا يأنسون بنا وطلبوا منا أن نكلم عليهم الطاغية؛ فقلت لهم: “سيدنا ومولانا أمير المؤمنين ليفعل عنكم وله غرض في سراحكم وسراح غيركم ونحن إن شاء الله بصدد ذلك فلتطب نفوسكم من بركة سيدنا ومولانا” .

قال:
“ومن الغد ورد علينا حاكم القصبة المسماة بالقصر الذي به أسارى المسلمين الرؤساء وجعلوهم في ذلك المكان ليبعدوهم عن البحر حذرا من أن يفروا؛ فجعلوهم في القصبة المذكرة لكونها في غاية الحصانة في علو الأسوار والحفير دائر بها.
فسلم علينا الحاكم المذكور وقلت له: “أردت أن أنظر الأسارى”.

فعيّنّا الوقت لذلك وتوجهنا إليهم؛ فلما وصلنا القصبة المذكورة وجدنا ببابها كبيرها ومعه جميع أصحابه وكلهم صبيان مجموعون عنده بقصد تعليم علم رماية المدافع والمهارس كما هو مرسوم عندهم في دفاترهم.

ويتعلمون الهندسة والحساب وهم ساكنون بالقصبة المذكورة؛ فقد أرانا كبيرهم موضع تعلمهم وموضع نومهم، لكلٍ فراشٌ على حدته.
وأدخلونا أيضا (الاسبطار) المعد لمرضاهم؛ وفيه خزانة كبيرة فيها جميع الأدوية والمعاجن، وطبيبها ساكن معهم، وموضع آخر لأكلهم؛ حتى أنهم لا يتوقفون على شيء خارج عن القصبة.

وكبيرهم ساكن بالقصبة المذكورة بأولاده متأهل بها.

وأسارى المسلمين الذين يكونون بها على يده وإلى نظره؛ فأطلعنا إلى موضع الأسارى لكونه بأعلى القصبة؛ ففتح عليهم وأخرجهم وسلموا علينا وسلمنا عليهم. وأعلنوا بالدعاء لسيدنا ومولانا أمير المؤمنين حتى ارتجت القصبة ودخلنا معهم إلى موضعهم وجلسنا معهم كثيرا تطييبا لخواطرهم ودفعنا لكل واحد منهم حظه من الصدقة التي بعث سيدنا مولانا أمير المؤمنين لسائر أسارى المسلمين؛ فنابهم خمسة مثاقيل للواحد.

قبل الله تعالى من سيدنا المنصور بالله عمله وبلغه من فضله قصده وأمله. وبشرناهم بأن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين مجتهد في إنقاذهم وحريص على فدائهم؛ وأننا تكلمنا مع الطاغية في هذا الأمر؛ فجعل أمر ذلك بيد سيدنا ومولانا أمير المؤمنين.

وسيدنا نصره الله يتكلم بعد هذا مع صاحب الجزائر، وعن قريب إن شاء الله تأتيكم البشائر.

فسروا بذلك كثيرا وأوصيناهم بالصبر والصلاة والإقبال على الطاعات.

وقد أحسن معهم هذا الطاغية؛ فلم يكلفهم بعمل ولا خدمة، وهم على الكفاية من جهة المأكل والملبس إلا أنهم مشدد عليهم في عدم الخروج.

وأوصينا عليهم النصراني الكبير المتولي أمرهم وأمر القصبة أن يستوصي بهم خيرا وإحسانا إلى أن يجعل الله لهم سبيلا، وعن قريب يأتي الأمر بسراحهم إن شاء الله، وأخذنا عليه مواثق بذلك وانصرفنا عنهم بعد أن ودعناهم وآماق الأعين في مجاري أدمعها غرقا، والزفرات من الجو تتناسق نسقا” .

ترقبوا تتمة هذا الموضوع في كتابي:

{تاريخ العلاقات المغربية التركية؛ منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر}

يطبع قريبا بإذن الله تعالى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *