حوارات، مجتمع

خبير تربوي يسلط الضوء على مساحات غائبة في النقاش التعليمي (حوار)

أجرت جريدة “العمق” حوارا مفصلا مع الدكتور ربيع حمو، الباحث المتخصص في قضايا التربية والتعليم، حول الدخول المدرسي الحالي وما عرفه من نقاش حول استهداف اللغة العربية، بالإضافة إلى قضايا أخرى ميزت الدخول المدرسي الذي يصفه الكثيرون بالاستثنائي، وهذا نص الحوار:

في مستهل حوارنا معكم دكتور، ما تقييمكم للدخول المدرسي الحالي؟

يعرف الدخول المدرسي الحالي مستجدات مختلفة ذات طبيعة بيداغوجية واجتماعية ومجتمعية.

أما المستجدات البيداغوجية فنذكر منها اعتماد المنهاج المنقح ومراجعة منهاج مادة اللغة العربية والرياضيات والنشاط العلمي للسنتين الأولى والثانية ابتدائي، ففي مادة اللغة العربية اعتمدت مقارية القرائية، أما في الرياضيات والعلوم فاعتمدت مقاربة ترتكز على استثمار بيداغوجيا الخطأ في بناء تعلمات مادة الرياضيات. كما استمر مشروع تطوير تدريس اللغة الفرنسية بالمستوى الخامس والسادس ابتدائي.

أما على المستوى الاجتماعي فقد عرف الدخول احتقانا كبيرا تجلى في الاعتصام الذي قام به الأساتذة المتعاقدون والذي عرف تضامنا نقابيا واسعا مع ملفهم ، كما احتج أساتذة السلم التاسع جراء عدم تسوية ملفهم من خلال ترقيتهم بشكل استثنائي للسلم العاشر؛

هذا الاحتجاج الذي تجلت أولى محطاته في مقاطعة الامتحان المهني، كما تحركت تنسيقيات موظفي الوزارة الحاملين للشواهد والتي تطالب بحق الترقية بالشواهد؛ وقد احتج أطر الإدارة التربوية، من مديرين ونظار وحراس عامين، وملحقي الإدارة والاقتصاد من خلال وقفات احتجاجية ومقاطعة للاجتماعات ومقاطعة جلب البريد وإرساله من المديريات، وتلا ذلك احتاج مفتشي الوزارة ضد الإقصاء الممنهج لهم في مختلف المشاريع وإغلاق الوزارة لباب الحوار، بالإضافة للتراجع عن الاتفاق الذي تم مع الوزير السابق حول وضعية الهيئة في المنظومة.

وبعد الوقفة الاحتجاجية التي نظمتها الهيئة يوم 13 شتنبر أمام الوزارة مرغمة – كما عبر عن ذلك بيان النقابة – وأمام استمرار إغلاق باب الحوار فقد قرر المجلس الوطني لنقابة المفتشين الدخول في الشطر الثاني من معركتهم النضالية من خلال مقاطعة التكوينات المرتبطة بالقرائية ورفض التكليفات خارج المناطق التربوية والمديريات، وقد تضطر الهيئة للدخول في الشطر الثالث من الخطوات النضالية والتي مطالبها في المجمل ليست ذات طابع مادي وإنما ترتبط بجودة المنظومة وحكامتها.

إن هذا الوضع الاجتماعي من شأنه أن يؤثر على أجواء التواصل والثقة التي ينبغي أن تعم هذا القطاع المجتمعي الحساس والذي يرتبط بحاضر الأمة ومستقبلها.

أما على المستوى المجتمعي فقد واكب الدخولَ المدرسي نقاشٌ كبيرٌ حول قضيتين أسايتين:

الأولى: مراجعة المناهج التعليمية وموقع اللغة العربية في المنظومة، ومحاولات استهدافها من مداخل مختلفة، ومنها: توظيف مصطلحات دارجة، وتوسيع المسالك الدولية الفرنسية وتعميمها بخلاف ما أقره المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي فيما يرتبط بلغة التدريس، وبخلاف ما جاء أيضا في مشروع القانون الإطار رقم 17-51 المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي.. كما يسجل أيضا في غياب كتب مصادق عليها من قبل الوزارة في المواد العلمية.

الثانية: مجانية التعليم والتي سيستهدفها مشروع القانون الإطار من خلال اعتماد رسوم تسجيل في المرحلة الثانوية والجامعية، فالدستور يقر بالحق في تعليم جيد والذي ينبغي أن تكفله الدولة لأبناء الوطن؛ لكن هذا المشروع توجه إلى تهديد هذا الحق، مع العلم أن ضعف أداء المنظومة جعل فئةً كبيرةً من دافعي الضرائب تُضْطَرُّ لتدريس أبنائها في مؤسسات خاصة رغم مؤونتها المالية ودون مراجعات ضريبية. إن الأولوية المعلنة في الرؤية الاستراتيجية تعلقت بالارتقاء بالمنظومة لتحقيق الجودة والإنصاف لذلك فلم يكن من الحكمة ولا من الصواب اقتراح فرض رسوم، هذا الاقتراح الذي زاد من الاحتقان وجعل الهواجس لدى المواطن تقوى حول أمنه الاجتماعي وضمان حقوقه الأساسية. لذلك أرى أن القضايا الكبرى للسياسة التعليمية ينبغي أن يصاحبها نقاش مجتمعي يشارك فيه الجميع مناقشة وتقريرا وتطويرا من أجل ضمان انخراط الجميع والنجاح في الرهانات المستقبلية.

ما رأيكم، كباحث متخصص في قضايا التربية والتعليم، في إقحام بعض مفردات الخطاب “الدارج” في المقررات الدراسية؟

أرى أن اختيار مصطلحات دارجة في تقديم الحرف المدروس وبنائه مجانبا للقواعد البيداغوجية ، أما أن يوظف مصطلح في قصة لغاية بيداغوجية فهذا يمكن أن يكون مستساغا وفق شروط وضوابط. لكن الأهم في نظري، هو أن هذا النقاش الذي واكب إقحام بعض مفردات الخطاب “الدارج” في المقررات الدراسية يقدم مؤشرات للتحليل والاعتبار والتي أذكر منها:

 زيادة الوعي المجتمعي ومواكبته لمختلف المستجدات التربوية عبر مواقع التواصل الاجتماعي،

 طبيعة النقاش الذي خاض في معطيات صحيحة وأخرى مغلوطة يبرز حجم فقدان الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة وهذه الهوة لا تكفي فيها الإدانة أو التخوين بل هو معطى للتفكير حول أسباب انعدام الثقة في السياسات العمومية. كما يحمل المسؤولية للوزارة وغياب تواصلها المسبق مع المجتمع حول مشاريعها.

 النقاش الغائب وخصوصا في دوائر الفاعلين التربويين والمتخصصين هو مدى نجاعة المقاربة المعتمدة في كتب اللغة العربية بالابتدائي ، وهل سترتقي بمستوى المتعلمين والمتعلمات أم أنها مقاربة تسطيحية في اكتساب اللغة؟ وهل ستمتد إلى المستويات والأسلاك الأخرى؟ ولماذا لم يتم اعتماد مقاربة موحدة في تدريس اللغات؟ وما الجديد في مراجعة منهاج مادة الرياضيات والعلوم؟ وهل بإمكان هذه المراجعات رفع التحدي في وجه الدراسة الدولية لتقويم الرياضيات والعلوم (TIMSS) والدراسة الدولية لتقويم الكفايات القرائية (PIRLS)؟

هل استعمال مصطلحات دارجة في المقررات هي إشارات معزولة أم الأمر أعمق من ذلك؟

إن ما عمّق هذا المشكل هو ما سبق من دعوات لاعتماد الدارجة من طرف جهة معينة في ندوة حضرها وزراء سابقون، بالإضافة إلى عنصر غياب الثقة كما أشرت سابقا.

 أصدرت نقابة المفتشين بيانا تندد فيه باستهداف اللغة العربية، أليس من ألف هذه الكتب مفتشون؟

مسطرة تأليف الكتب المدرسية لا ترتبط بمهنة المؤلفين وإنما تنضبط لدفاتر تحملات، والمشاركون في التأليف من أساتذة ومفتشين وباحثين وغيرهم … ليس هم واضعو المنهاج التعليمي وإنما يسعون إلى تنزيله فقط على مستوى الكتب المدرسية وفق مواصفات بيداغوجية ومضمونية محددة، كما أن أعمال لجان التأليف تخضع لمسطرة المراجعة والمصادقة من قبل الوزارة.

هل يمكن الحديث عن إقصاء ممنهج لهيئة التفتيش فيما يتعلق بالقرار التربوي؟

من البنيات الأساسية للتفتيش والتي أقرتها المذكرات المنظمة لعمل هيئة التفتيش(خصوصا المذكرتين 114-115): التنسيق المركزي التخصصي للتفتيش والذي كان يعنى بدراسة واقع تدريسية المواد ويقترح المراجعات اللازمة، ويناقش المشاريع المقترحة، لكن منذ تعطيل هذه البنية منذ 2012 فقد غابت هيئة التفتيش – باعتبارها هيئة لا أفرادا – عن المشاركة المباشرة والمسؤولة في مختلف المشاريع على مستوى الإقرار والتنزيل. ينضاف لذلك إقصاء نقابة مفتشي التعليم باعتبارها شريكا اجتماعيا في مختلف المشاريع.
إن موقع المفتش التربوي في منظومتنا يجعل دوره أساسيا في تنزيل أي إصلاح تربوي، لذلك وجب إشراكه واستثمار خبرته في مختلف مراحل اتخاذ القرار التربوي.

ألا يعتبر جمود البحث التربوي السبب المباشر في غياب البديل وبالتالي تراجع جودة الإنتاج؟

الأصل أن يكون البحث التربوي هو الموجه للمنظومة التعليمية والمؤسس لاختياراتها البيداغوجية، لكن الملاحظ غياب بنيات قارة للبحث التربوي لدى الوزارة، كما أن مؤسسات التعليم العالي المهتمة بالبحث التربوي محدودة ( كلية علوم التربية، مركز تكوين مفتشي التعليم، المدارس العليا للأساتذة )، ولا تؤطرها رؤية نسقية على مستوى تنسيق مشاريع البحث، واعتماد خلاصاته، فهناك أبحاث قيمة جدا أنجزت ولكن يسجل غياب استثمارها نظرا لما سبق.

ختاما، ما هو تصوركم للمرحلة المقبلة من أجل الخروج من هذه الازمة؟

إن الخروج من الأزمة يقتضي بدءا اعتبار المدرسة فضاء لبناء المجتمع، واستثمار مختلف طاقاته مما يقتضي إنصافا للجميع وجودة في جميع أنواع التعليم، وحكامة في التدبير. بالإضافة إلى توافق مجتمعي حول المعالم الكبرى للسياسة التعليمية، وإطلاع مستمرا للمجتمع والفاعلين على مختلف المستجدات والمشاريع قبل تنزيلها حتى تتحقق الثقة، وإشراك للباحثين والمتخصصين في تطوير المنظومة والنموذج البيداغوجي، واعتماد رؤية نسقية للإصلاح وعدم تشتيت الجهود في أوراش إصلاح جزئية للمناهج لا ناظم بينها.

كما أن الاستقرار الاجتماعي لأطر التربية والتعليم وتحسين شروط العمل والتكوين المستمر شروط أساس لتحقيق الرضا الوظيفي والارتقاء بمستوى الأداء.

إن الاتفاق المجتمعي حول الأعطاب التي أصابت المنظومة التعليمية جراء سوء التدبير ومختلف القرارات والبرامج المتخذة، تقتضي تحمل المسؤولية في هدر الثروة البشرية للوطن وتفويت فرص الإصلاح الحقيقي، لذلك وجب تفعيل مبدأ الحكامة، وعدم الاكتفاء بالتشخيص وتحديد مكامن الخلل بل القطع مع الممارسات وأنماط التدبير التي أنتجت هذا الواقع ومحاسبة المتورطين في ذلك.

وفي تقديري أن كثيرا من الخلاصات والتوصيات التي وصلت إليها التقارير الوطنية الرسمية –مثل التقرير التحليلي لتطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2014 – لم تُحْتَرَم في زمن الرؤية الاستراتيجية سواء في تدبير الوارد البشرية وتحفيزها، أو في منهجية مراجعة المناهج والبرامج أو غيرها. وهذا ما يجعل الخوف على مستقبل المنظومة قائما.

*د.ربيع حمو – باحث متخصص في قضايا التربية والتعليم، له مؤلفات تربوية وأبحاث ومقالات ومشاركات علمية
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *