وجهة نظر

تونس، العرب، الشيخان، ويوسف الشاهد

أصبحت تونس تمثل عبئا نفسيا بالنسبة لكافة العالم العربي .فالكل يتوجس مما قد يقع في هذا البلد العربي الصغير الذي لاتتساوى محنه بتاتا مع رقعته الجغرافية. بل هناك من يتطير دوما مما قد تتمخض عنه تصاريف السياسة هناك . فأحداث تونس عادة ما تكون مقدمة وإشارة لما سيحل بالعرب في القادم من الفتن. إنها المطبخ الذي تأتي منه الثورة و الفوضى والعنف والقضايا الشائكة المثيرة للجدل.

منذ ان احرق البوعزيزي نفسه صدرت لنا تونس الربيع العربي الذي يراه البعض خريفا عربيا أعادنا سنوات ضوئية للوراء .كما أن الغنوشي منذ عاد من منفاه السحيق، وتونس تزايد على الإسلاميين الآخرين بنسخة علمانية للإسلام السياسي تبتغي به وجه الغرب أكثر مما تبتغي به وجه الرب.ثم كان ماكان من تقرير الحريات الفردية التونسي الذي ألهب النقاش داخل كل البلدان العربية حول مواضيع تعد من صميم المحرم في العالم الإسلامي برمته ….المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة ،المثلية الجنسية . وحرية الجسد ..الخ.

وهي مواضيع وإن كانت تبدو أقرب إلى الترف الفكري منها إلى أن تكون هما حقيقيا للشعوب العربية التي لازالت تنتفض ضد الجوع والامية والاحتقار أكثر مما تنتفض من أجل الانفتاح وحرية الأعضاء الجنسية ،فإنها تحقق لتونس اذا تغاضينا عن وضعيها المأزومين اجتماعيا واقتصاديا اللذين لايؤهلانها لتكون مثالا لغيرها، تحقق لها ذلك الوهم والشعور الزائف بأنها دائما السياقة وانها أبدا رائدة الحداثة عربيا وإسلاميا.

وجود تونس في قلب العالم العربي بين مشرقه ومغربه جعل منها بوابة هذا العالم العربي. فمايحقن به هذا البلد المتقلب المزاج يوزع بالقسطاس المستقيم على كامل البلاد العربية.

لهذا تبدو أزمة الحكم في تونس كذلك موضوعا عربيا نظرا لسابقة تونس في نشر الثورة العربية التي انتهت إلى ما انتهت إليه من تصدع وتناحر واقتتال بين أبناء البلد الواحد…ليبيا …مصر …سوريا …اليمن….الخ . من هناك تنطلق دائمآ العدوى.ولذلك، فما ستتمخض عنه هذه الأزمة سيكون ولاشك مؤشرا على ما سيجري ترسيمه على مستوى العالم العربي:مستقبل الإسلام السياسي ،مصير التحول الديمقراطي، مسلسل العلمنة بقناع او دون قناع الجاري على قدم وساق في كل الوطن العربي. قضية استكمال حقوق المرأة..الخ . ففي تونس تختبر النظرية ،وفي غيرها من الدول العربية يجري إعادة التجربة وتطبيق الوصفة.

ولذلك ،ورغم ما يبدو من صراع محتدم يكاد يظهر كمعركة كسر عظام رهيبة داخل تونس حول من سيعتلي سنام الحكم للمرحلة المقبلة، والذي يتخذ كحلبة له منصب رئيس الحكومة يوسف الشاهد السياسي الشاب المتمرد الذي قلب ظهر المجن لولي نعمته الشيخ باجي قايد السبسي، فالأمر في عمقه لا يعدو أن يكون مجرد مشهد سياسي مصطنع يؤدي فيه الكل دوره بإتقان كبير. ففي تونس لاهامش كبيرا للمناورة.الأدوار موزعة، والصحف مرفوعة، والسيناريوهات مخدومة سلفا.الكل هناك يتجمل للغرب. فالبلد لا يملك قراره الاقتصادي بالتالي لا إمكانيات سياسية حقيقية أمامه. وكل الفرقاء بسبب هذا ليسوا فاعلين أصيلين بل هم كومبارس همهم ان يخوضوا صراعا بالوكالة عن اطراف خارجية مختلفة ،يتكلفون الصراع لا أقل ولا أكثر .وذلك في انتظار الإشارات الإقليمية و بالخصوص تلك الآتية من الغرب ومن الجهات المانحة. هم فقط يضعون امام المجتمع الدولي 3 خيارات يوسف الشاهد السبسي حافظ والغنوشي ليختار السيناريو الذي يراه ملائما لتونس والعرب أيضا. . ماسيقع بتونس سيشكل رسالة لكل العرب سيتم النسج على منوالها.

في المشهد ممثلون يملك كل منهم أوراقا يلعبها أمام الخارج وبشكل أخف أمام الداخل.السبسي الداهية المحنك الذي عركته السياسة والأحداث والعمر، له كاريزميته ،وكونه نصب نفسه حارسا للمعبد الذي اسسه ذات ديكتاتورية ناعمة بورقيبة الذي له نوستالجيا خاصة لدى شريحة كبيرة من التونسيين.وهو أيضا عراب حقوق المرأة نصف المجتمع والخزان الذي لا ينضب للأصوات الانتخابية، والذي يمكن التعويل على وفائه. كما أن له خبرة طويلة بدهاليز الحكم، ويجيد الآن تمثيل صورة الزعيم الضامن لاستمرار تونس على نهج الحداثة التي يتربص بها (الاسلاميون) .

يوسف الشاهد يستمد أوراقه من كونه ممثلا للجيل الذي قامت الثورة لأجله ….الجيل الذي لم يناضل ضد الديكتاتورية ولكنه يرى نفسه الأحق بأن يأكل غلة الثورة لشبابه…. إذ لا يعقل أن نقصي الديكتاتور ونأتي بأزلامه القديمة أو حتى بمجايليه من المعارضين له للحكم بعده . هذا يعطي انطباعا للناس بعد القطيعة ،هو أيضا ذاك الرجل الذي تجرأ واستدار ضد حزبه في حملة ضد الفساد.صاحب الملفات الاقتصادية الذي تعول عليه المؤسسات الدولية. ثم هو المنتفض الصنديد ضد التوريث السيء الذكر ليبيا ومصريا،و الذي بدأ يطل هذه المرة على تونس مع حافظ السيسي.

اما حزب النهضة ومرشده الغنوشي فهو راشد إكثرمما ينبغي له او مما يطلب منه. لاينسى ان يأخذ العبرة دائما من مصير أخيه مرسي المصري .هو يراهن على أن يعرف له التونسيون بأنه لا يوفر الغطاء للشاهد حبا فيه، بل حبا في استقرار تونس، ونأيا بنفسه من أن يكون خاتما بيد الرئيس السيسي.ثم هو صاحب الحزب القوي بتماسكه التنظيمي الذي لا يتهافت على الحكم بقدر ما يسعى لأن يكون ضميرا لهذا الحكم…. لايضيره ان يكون العربة التي يستقلها الرئيس المناسب لتونس ومانحيهاالدوليين نحو قصر قرطاج…..الحزب الذي يفتخر بتمسحه بالغرب من خلال إسلام علماني براجماتي مرن يستهوي به هذا الغرب بصفته يمثل أملس ما في قنافذ الإسلاميين. و الذي يمكن أن يكون إسوة لباقي إخوانه.

إنه صراع ديكة لا تتحكم في كل خيوط الصراع. و أقصى ماتستطيعه هو أن تتعارك بنشاط وهمة لعلها تحظى بالرضى والمباركة الدولية..تخوض معركة على تصدر الحكم لا على برنامج الحكم …حربا على شاكلة الافلام التركية التي لا ناقة ولاجمل فيها للشعب التونسي المسكين الذي صار يحن إلى أيام الديكتاتور أمام فرقاء لايستحيون و لا يقدرون دقة المرحلة ولا ثقل المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم، فيضيعون وقتا ثمينا على شعب ضحى بكل شيء في سبيل الكرامة والخبز وعلى شباب يزدادون يأسا وقنوطا وإحباطا كل يوم …قد صار أقصى امانيهم ليس رحيل ساستهم، بل أن يرحلوا هم بعيدا عن هؤلاء الساسة إلى الضفة الأخرى حيث الشغل والكرامة وحقوق الإنسان . شعب يتألم لانحدارديناره وتراجع قدرته الشرائية وانهيار سياحته بفعل التهديدات الإرهابية المستمرة والعودة غير المظفرة لمقاتلي داعش.

ولين يكون غريبا في الأخير القول إنه كلما أمعنت تونس أكثر في تخبطها،وحام الشك حول مصيرها وتلبدت سماؤهها بالغيوم ، كلما وضع العرب أيديهم على قلوبهم، وزاد تشاؤمهم، وصار عاليا كالجبال خوفا مما تخبؤه لهم الأيام من مفاجآت من الأرجح أنها لن تسرهم.
د خالد فتحي

* أستاذ بكلية الطب والصيدلة بالرباط / دكتور في العلوم السياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *