أخبار الساعة، وجهة نظر

آفة “إعادة النشر الآلي” في المنصات الاجتماعية.. دراسة حالة

ربما تكون أيها القارئ من بين الذين يعتبرون الوزير الصهيوني “نتنياهو” مجرم حرب وإسرائيل عدوة الشعوب، لكن هل خطر ببالك أن تكون قد انخرطت يوما في الترويج المجاني لخطاب “نتنياهو” ولمقولة “إسرائيل العظمى” دون وعي منك؟ قد تتسرع في الإجابة بالنفي، لكن إذا سبق لك أن شاهدت وشاركت وعبرت بالإعجاب عن مقطع فيديو يحمل عنوان “نتنياهو يعترف: إسرائيل تغزو العالم” يروج هذه الأيام فقد وقعت ضحية تضليل ذكي. كيف ذلك؟

مقطع الفيديو المشار إليه سابقا يروج اليوم بشكل واسع في شبكات التواصل الاجتماعي، وخاصة عبر “المسنجر”، وقد تتوصل به من عدة أشخاص. وبعد مشاهدة الفيديو لا تقف عن أي تصريح يفيد حديث “نتنياهو” عن “الغزو” ! مما يطرح الأسئلة حول دوافع نشره وترويجه، خاصة في أوساط إسلاميين وعلمانيين أعداء “إسرائيل”.

ومن خلال بحث سريع حول “الفيديو”، يشمل طبيعة النشاط الذي قدم فيه “نتنياهو” كلمته، والمؤسسة التي احتضنته، وبعضا من مساره حتى دخل حلبة الترويج، نكتشف كيف يتم الإيقاع بنا بشكل سهل وفظيع. وذلك البحث كشف معطيات نستعرض أهمها بتركيز كما يلي:

الاول: كلمة نتنياهو التي أخذ مقطع منها في الفيديو المشار إليه سابقا ألقاها في مؤتمر(آيباك)، “AIPAC”، بواشنطن بتاريخ 5 مارس 2018. و”AIPAC” هي الحروف الأولى للكلمات المكونة للاسم ” American Israel Public Affairs Committee”، أي “لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية” وهو اسم مجموعة ضغط تأسست سنة 1951، وتشتغل مع الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري والمستقلين من أجل اعتماد سياسات عمومية تساهم في تعزيز العلاقات الثنائية بين “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية. وتنظم هذا المجموعة مؤتمرا سنويا تحت اسم ( AIPAC Policy Conférence) يحضره قادة وخبراء من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.

الثاني: كلمة نتنياهو المشار إليها نشرت بالكامل على الموقع الالكتروني الخاص بمجموعة “AIPAC” بتاريخ 5 مارس 2018، ونشرت عبر “اليوتوب” بتاريخ 6 مارس 2018 من طرف (i24NEWS) وهي قناة تلفزيونية إسرائيلية دولية، يوجد مقرها داخل الكيان. وكلا الشريطين باللغة الانجليزية من غير دبلجة عربية.

الثالث: شريط الفيديو المدبلج الذي يروج في مواقع التواصل الاجتماعي، تم إطلاقه بعد أزيد من 7 أشهر من كلمة “نتنياهو”، وهو مقطع لا يمثل من حيث مدته سوى 20% من مدة الشريط الأصلي، وهو مصحوب بدبلجة عربية جيدة تنم عن حرفية عالية، واقتصر في كلمة “نتانياهو” على الجانب الذي يتحدث فيه الوزير الأول الاسرائيلي عن الثورة الصناعية التي أحدثتها “إسرائيل” في العالم، وتظهر “إسرائيل” كقوة اقتصادية وعلمية مؤثرة. حيث أظهر من خلالها كيف أن التكنلوجية الاسرائيلية هي التي تقود العام اليوم، وقال “إن إسرائيل أصبحت تقود العالم في مجال الأمن الالكتروني”، وأشار إلى حاجة الناس مثلا إلى الأمن عن ودائعهم البنكية، مبرزا أن “إسرائيل”هي التي توفر الآن ذلك الأمن. بينما تحدث نتنياهو في كلمته الأصلية عن مواضيع أخرى تهم السياسة الاسرائيلية في الشرق الأوسط وإيران وعن قضايا أخرى سوف تثير الحساسية وتشوش بالتالي عن رسائل “إسرائيل العظمى”.

الرابع: الفيديو المدبلج الذي يتداوله المغاربة اليوم عبر “المسنجر” بالخصوص نشرته صفحة “فجر العقل” على فيسبوك، بتاريخ 15 أكتوبر2018. وهذه الصفحة هي التي وضعت له العنوان الترويجي الجديد: “نتنياهو يعترف: إسرائيل تغزو العالم”. ذلك أن نتنياهو لم يقل أبدا في كلمته تلك أن إسرائيل تغزو العالم، بل قال إنها تقود العالم. وهذه الصفحة أنشئت بتاريخ 22 يوليوز 2014، وحافظت على اسمها كما هو، وتقدم نفسها ضمن مجموعة “الللادينيون”، وأغلب التعليقات المنتقدة لها تتهمها بكونها ضد الإسلام وأنها تعمل على التشكيك فيه، وهناك معلقون يتهمونها بخدمة إسرائيل.

الخامس: نفس المقطع المدبلج نشرته قناة “رجل الإمارات” على اليوتوب قبل أن تنشره صفحة “فجر العقل”، وذلك بتاريخ 13 أكتوبر 2018، لكنها حافظت على العنوان الأصلي (نتنياهو: إسرئيل تقود العالم). وقناة “رجل الإمارات” أنشئت على “يوتوب” في 7 مارس 2007. وهذا المقطع الأصلي المدبلج نجده أيضا في عدة مواقع إخبارية، خلاف المقطع المعنون بـ”إسرائيل تغزو العالم” الذي تنفرد به صفحة “فجر العقل”.

السادس: مقارنة الرواج الذي حققه الفيديو على صفحة “فجر العقل” والذي حققه في قناة “رجل الإمارات”، تؤكد خطورة لعبة العناوين في الصحافة، ففي صفحة “فجر العقل” التي اعتمدت كلمة “غزو” في العنوان حصد الفيديو 1.9 مليون مشاهدة، و36 ألف و774 مشاركة، و11 ألف إعجاب، و 4 آلاف و 200 تعليق. فيما لم ينل في قناة “رجل الإمارات” التي اعتمدت كلمة “تقود” في العنوان سوى 4 آلاف و962 مشاهدة و39 إعجاب.

السابع: ملاحظة مهمة وهي أن الاهتمام بكلام “نتنياهو” المتعلق بالقوة التكنلوجية، وخاصة المتعلقة بالأمن الرقمي، تمت عبر موجتين، الأولى طبيعية، قادتها وسائل الاعلام من قنوات مثل “الجزيرة”، ومواقع إخبارية، وكانت تلك الموجة خلال شهر مارس، وهذا أمر طبيعي له علاقة بوظيفة الإخبار. أما الموجة الثانية، والتي نحن بصدد الحديث عنها فتحركت خلال شهر أكتوبر، بدأتها قناة “رجل الإمارات” الإلكترونية، لكن أكبر من روج لها هي صفحة “فجر العقل” التي نسجت علاقات قوية في مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة فيبسبوك. وهو ما يفيد أننا أمام عملية اختراق يرجح أن تكون المخابرات الاسرائيلية خلفها.

الثامن: لم يسعف البحث في الوقوف عن مصدر الدبلجة، فالنسخ المدبلجة الرائجة لا تختلف سوى على مستوى العنوان، حيث تنفرد صفحة “فجر العقل” كما أشرنا إلى ذلك بعنوان أكثر إثارة. لكن المستوى الجيد للدبلجة يؤكد وجود رغبة في نقل مضامين الشريط الذي يعزز فكرة “إسرائيل العظمى” إلى القارئ العربي، سواء من باب تعزيز الاختراق الفكري والنفسي، او من باب الحرب النفسية على أعداء “إسرائيل”، وهو ما يرجح فرضية وقوف المخابرات الصهيونية خلف الموجة الثانية من ترويج كلمة “نتنياهو”.

التاسع: صفحة “فجر العقل”، كما سبقت الاشارة، نجحت في ترويج كلمة نتنياهو التي قدم فيها “إسرائيل” على أنها قوة تقود العالم باللعب على العنوان، والفرق بين الأمرين واضح، فكلمة تقود لن تثير القارئ العربي الرافض لإسرائيل، لكن كلمة تغزو تحمل إثارة ستدفع كثيرين، وخاصة الاسلاميين وغيرهم ممن يعارضون السياسة الاسرائيلية، إلى استهلاك مضمون الفيديو بحثا عن فهم كيف تغزو إسرائيل العالم؟

وهكذا نجد أننا في الواقع نروج بيننا فيديو يخدم إسرائيل على المدى البعيد، من خلال حملة ذكية يرجح أن تكون خلفها المخابرات الصهيونية وعملاؤها، ونساهم بغير وعي في إنجاح الاختراق اللاشعوري الصهيوني. وهذا يؤكد ظاهرة سبق أن تناولناها بمناسبة ترويج بعض الإسلاميين لفيديو حول كلمة خبيرة غربية تنتقد الإسلام عكس ما يخبر به العنوان. وفي الحالة التي نحن بصددها نجد أيضا عملية ترويج مجانية لكلمة نتنياهو الذي لا يتردد كثيرون ممن انخرطوا في ترويج كلمته في نعته بالعدو والجزار والقتال والمجرم و…

إن الحالة التي قمنا بدراستها بشكل مقتضب تضعنا أمام أحد أخطر السلوكات المدمرة التي تنتشر بين مستهلكي المضامين الرائجة على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يمكن للشخص أن يقع في فخ ترويج مضامين تكون ضده أو ضد وظنه وقيمه دون علم. وقد أكدت بعض الدراسات أن رواد شبكات التواصل الاجتماعي ينخرطون في نشر التضليل من غير وعي منهم، بسبب عادات “إعادة النشر التلقائي” أحيانا حتى دون الاطلاع على المضمون. وهذه الحقيقة من العناصر الأساسية التي يراهن عليها المتلاعبون بالرأي العام، لأهداف سياسية أو إيديولوجية أو استخباراتية، كما يراهن عليها الساعون إلى توسيع قاعدة المعجبين والمتفاعلين مع ما ينشرون لأهداف نفعية مادية أو معنوية.

فمتى يرتقي سلوكنا في منصات التواصل الاجتماعي ونتوب من عادة التوزيع الآلي لكل ما يقع بين أيدينا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *