منتدى العمق

القراءة.. بين الحب و”الموضة”

هذا العنوان قد يبدو منذ الوهلةِ الأولى غير مفهوم، أو ربّما مبهما، لا تعرفُ ماذا يقصدُ به من وضعه. القراءةُ منذ القِدَم كانت فعلاً مقدّسا عند المثقف، لا يحبُّ نفسه عندما لا يقرأ عدداً مهما من الصفحات في اليوم الواحد، رغم انشغالاته الكثيرة، لكن يبقَ ارتباطه بالقراءة ارتباطاً منقطع النّظير، فإذا لم يقرأ، يمارسه عليه ذهنه نوعٌ من الإحباط. يعني، صار مقيّدا بأغلالِ القراءة كحبٍّ فيها، باعتباره فعلاً سامياً.

ما الفائدةُ من القراءة؟

لماذا وضعت حرف “ما” ولم أضع “لماذا”، ببساطة، “ما” حرفٌ فلسفي ويدلُّ على الماهية أو الجوهر، أي أنّني طرحتُ سؤالاً فلسفيا حول الغاية المتوخاة من القراءة. إنَّ القراءة تقودنا إلى عوالم مختلفة، ننفتحُ فيها عن تجارب إنسانية أبدعها العقل البشري، وتستفيد من معلومات تاريخية، أدبية، علمية، فلسفية، هنا يبقى الاختلاف حول صنف الكتاب المقروء. وللكتابةِ طقوسها الخاصة، فلا يمكن – على ما أظن – أن تقرأ دونَ أن تضع بجانبك قلماً ومذكرة، وأحياناً قلماً ملونا لكي تكون الجملة أو الفكرة واضحة عندما تبحث عنها. ستحتاج إلى المذكرة للتدوين فيها ما جاء في الكتاب، من أهم الأفكار، وما أعجبك من فقرات ذلك الكتاب، وملاحظاتك.

القراءةُ عبر الكتاب الورقي، صارت تحتضر نوعاً ما، بعدما غزت التِّقَانة (التقنية) هذا العالم، وأصبحت الشّبكة العنكبيّة تستحوذُ على كل شيء، فصارت المكتبات موحشةً بفراغها، وبهدوئها، صارت شبيهة بمقبرة. الكتب الالكترونية متوفرة بملايين النُّسخ، فحتى إذا أصدر كاتبٌ أو مفكِّر ما كتاباً، فلا تمرُّ إلا ثلاثة أشهر ونيّف حتى تتم قرصنتهُ، ليصبح متاحاً عبر الشبكةِ العنكبيّة.

الحبُّ المُربِك هو ذلك الحبُّ المُتبادل بينك وبين القراءة. إذا لم يكن بين يديك كتابٌ ورقي برائحةِ أوراقهِ الجميلة، فلا يمكنك أن تقرأ، باستثناء إذا لم تجد ذلك الكتاب على شكل ورقي، فلا خيار أمامك سوى قراءتهِ الكترونيا بامتعاض شديد.

في الآونةِ الأخيرة، صرت أرى بعض الأفعال الغريبة، والمشينة في نفس الوقت. كيف لا، وأنَّك ترى شاباً، جميلاً، يدّعي صفة المُثقّف، يأتي كلَّ يوم وبين يديه كتاب جديد، فهل يعقل أنْ يقرأ كتاباً كل يوم؟ من المستحيل، خصوصاً إذا كان كتاباً فكريا، نأخذ كِتاب “الأيديولوجيا العربيّة المُعاصرة” للأيقونة عبد الله العروي، كأُنموذَج، فهو كتابٌ مستعصي وصعبٌ جداً، فكيفُ يمكن قراءته أيُّها القارى النهم في ليلةٍ واحدة أو ليلتين؟ عِلماً أن كاتبه يقرُّ دائما وبإقرار، أنَّ كتابه لم يُفرغ من مُحتواه، ولمدة خمسين سنة والكِتاب لحد الآ لم يُفهم. أخذتني مجريات هذا الكِتاب لمدة نصف شهر، وقمتُ بوضعِ تلخيصٍ له، ولكن، لا أخفيكم سرّاً أنَّ لدي لُبساً غامضاً اتجاه هذا الكِتاب.

ولا بدَّ من تصحيحِ إحدى المغالطات، فكلُّ من يقرأ في وسائل النَّقل، هو يدّعي موضة القراءة من أجل التباهي بفعلٍ أسمى من كلِّ شيء، ولكي يبدو في حالةٍ جميلة، ويلفت أنظار الجميع. أنا لستُ ضدَّ القارئ في وسائل النقل، ولكن ضدَّ من يدعي أنَّه قارئ، ففعلتهُ تلك توحي بأنَّه مجردُ صفر على اليسار والباقي تفاصيل. قد لا يخلو يومٌ وأنتَ تمتطي وسيلة من وسائل النقل – الطرامواي كأمثولة – قد تجد شاباً أو شابةً منغمسةً في كتابٍ ما، هم يستحقون الإشادة، فربما قد يراهم طفلاً فيقتدي بهم.

ختاما، أردتُ أنْ أوضِّح هذه العلاقة المتضاربة بين القراءة كحبٍّ وكموضة، فلو بدأتُ أتحدثُ عنها كحبٍّ، لقلتُ بأن القراءة علاقة حميمية بينك وبينها، ولا يُمكنكَ الإفصاح عن هذه العلاقة المتينة. والموضة متفشيّة بقوة، لا أحبُّ ذلك القارئ الذي ينجذب بمجرد أن يرى عنواناً مثيراً من قبيل “الأكثرُ مبيعا – الأكثر قراءة – هذا الكتاب سيُغيّرُ حياتك…” إلى آخره من العناوين المثيرة. والأنكى من ذلك هي تلك الأعمال الرديئة الموجهة إلى فئةٍ معينة، كتلك الرواية التي تُدعى “كنْ خائنا تكن أجمل”، وفي قلبي أنثى عبرية، حبيبي الداعشي… إلى آخره. فهذه الأعمال وصلت طبعاتها إلى العاشرة وما يزيد، لأنَّ الإقبال عليها كبير. لكن الأعمال الكبرى والشّامخة لأيقونات وجهابدة الأدب لا يكترثون لها، لسببٍ بسيط، فهم لا يحبّون المواضيع الهامة والواقعية التي تُناقش الرَّاهن، بل يَنكبُّون حول اليُوتوبيَا المشؤومة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *