وجهة نظر

بنية “المخزن” أكبر من “الملكية” في المغرب

الكثير من النشطاء السياسيين المغاربة الذين ينتقدون نظام “المخزن” في المغرب لازالوا لحد الآن يقدّمون أراء وقراءات جد سطحية حول بنية هذا النظام وآليات عمله، إذ يختزلون تاريخه وفهمهم له في نظام “الظرفية الحالية” أي نظام “محمد السادس” ورجالاته أو نظام “الحسن الثاني” ورجالاته! أو بالكثير يرجعون إلى حقبة “الاستقلال” وما تلاها ويحاكونها مع ما درسوه نظرياً في مجالات القانون والعلوم السياسية حول الأنظمة السياسية الغربية، ومن تم يبلورون وصفات “علاجية” سريعة من قبيل “الديمقراطية” و”التعددية” و”الملكية البرلمانية” و”دولة الحق والمؤسسات” و”الحريات وحقوق الانسان” ويرفعون مطالب سياسية فضفاضة كإسقاط “الفساد” و”فصل السلط” و”المحاسبة” … دون وعي منهم أن حالة “الانحباس السياسي والاجتماعي” التي يعيشها الوطن حالة “خاصة” بالسياق المغربي وترجع إلى قرون طويلة من البناء الصلب والمُمنهج في “بنية المخزن” وجذورها! وأن انزياح هذا الاحتباس يبقى مرهونا بالضرورة بتفكيك بنية “المخزن” بالكامل! وليس فقط برفع مطالب “حداثية” وشعارات لييرالية!

من سيمنح لنفسه الفرصة لدراسة تاريخ تطور بنية “المخزن” في المغرب على الأقل في عهد العلويين (بالخصوص بعد حقبة السلطان العلوي إسماعيل في أواخر القرن 17م) سيصفق كثيرا ل “عقل المخزن” لأنه عقل استراتيجي بارع وقارئ مُتميز لعلم “السوسيولوجيا السياسية” حتى قبل تأسيس هذا العلم، كيف لا وهو ناجح بامتياز في درس “البنية السياسيةLa formulation de la structure politique”! سيعلم هذا “الدارس” بالتأكيد أن “الحُكم العلوي” ما بعد حقبة “السلطان إسماعيل” دخل في بناء منهجي على ثلاثة مراحل:

أولا، مرحلة “تكوين البنية” التي وَعت فيها النخبة الحاكمة في مغرب القرن 17م و18م بضرورة تشكيل بنية سياسية واقتصادية واجتماعية تلتحم مع البنية الدينية والعسكرية للحكم العلوي من خلال تشكيل تحالفات ثابتة مع القبائل النافذة وإبرام زيجات سياسية واسعة مع العائلات الكبرى لدمجها في العائلة الحاكمة وكانت النتيجة بالتالي تشكل بنية حكم قوية يتناوب على إدارتها أجيال وأجيال من رجالات “المخزن” ليست بالضرورة من العائلة العلوية الصرفة كما هو الحال في وقتنا الحالي!! ثانياً، مرحلة “المرونة” حيث وَعت البنية الجديدة التي تشكلت أنه سيلزمها الوقت الكثير لتعميق جذورها وكذلك لاكتسابها التجربة والحنكة السياسية فكان بالتالي من الضروري حماية بنيتها الهشة من أية صدمات وكان الحل هو “المرونة” مع كل الظرفيات السياسية الصعبة التي تواجه هذه البنية والابتعاد عن عقلية “القطيعة” و”التصادم” مع “الخصم” في غياب امتياز التفوق عليه. عقلية “المرونة” هذه ترسخت في دواليب المخزن حتى تحولت إلى “درع وقائي” حماها من مطبات سياسية كثيرة أسقطت ملكيات عدة وعلَّمها صفات “المُفترس” الذي يَصبِرُ على “فريسته” حتى يُصيبها الوهن والضعف لينقضَّ عليها دون تكلفة كبيرة وهي عقلية لازلت حاضرة في بنية المخزن لحد الآن ورأيناها في إدارة ملفات كثيرة كالحِراكات الشعبية (حركة 20 فبراير والريف…) وملف الصحراء وإدارة الصراع مع الجزائر… !!

ثالثاً، مرحلة “تحطيم البنية المنافسة” وهي المرحلة التي نعيش في كنفها حاليا، حيث وعى نظام المخزن أن قوة وتجذر “البنية” ليست عناصر كافية للبقاء! بل يجب فوق ذلك تحطيم وتفكيك أي بنية منافسة لبنية المخزن في مهدها قبل أن تكتسب القوة. لذلك تركّز العقل الآداتي لنظام “المخزن” خصوصا بعد “الاستقلال” على استشعار مكامن ولادة “بُنى” منافسة له وتفكيكها وشهدنا كيف نجح النظام في ذلك في محطات كثيرة كتفكيك التنظيمات الماركسية المسلحة، وجيش التحرير والأحزاب السياسية التاريخية وقوى الاسلام السياسي والبنية القَبلية (قبائل الصحراء نموذجا) والحركات الاحتجاجية …

هذا البناء “البنيوي” الصلب الذي أشرنا له بعجالة والذي يحمي النظام الحاكم في المغرب هو ذاته الذي يمنعه من الاستجابة لمطالب “التحديث” والدمقرطة والملكية البرلمانية الحقيقية التي يرفعها النشطاء السياسيون لأن، ببساطة، هذه البنية المخزنية تم تأسيسها على مبدأ “الحكم المطلق” و”الإرادة الواحدة” ولم تؤسَّس على عقلية “المُشاركة السياسية” أو “تنافس الإرادات” لذلك فسيكون من الحِكمة والعقل المطالبة بتفكيك “بنية المخزن” وفصلها عن “المَلكية” قبل إقناع هذه الأخيرة بالإصلاحات الديمقراطية العميقة والحقيقية. ولعلَّ المؤسسة الملكية في حد ذاتها بدأت تختنق من “بنية المخزن” التي تُقيّدها وتعرقل أي إمكانية لتطويرها ودمقرطتها وهو ما أشارت له بشجاعة أصوات من داخل العائلة الملكية نفسها كالأمير “هشام العلوي” في كتابه Journal d’un prince banni. وهنا تتفتق أسئلة أخرى تفرضُ نفسها حول كيفية تفكيك بنية المخزن وعزلها؟ وهل ترغبُ المؤسسة المَلكية فعلاً في التخلص من بنية المخزن القوية التي تحكم بها؟ أم سيُفرض عليها ذلك في سياقات تاريخية قادمة؟

* كاتب وروائي من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *