وجهة نظر

الاتحاد الاشتراكي الذي كان..

بما أن مطلب الملكية البرلمانية ، الذي لا زال يتمسك به ما تبقى من أطلال حزب الاتحاد الاشتراكي ، كبديل للملكية التنفيذية ، قد عاد ليبرز من جديد ، فإنه لا بأس من سرد بعض المشاهد ، التي لازالت راسخة في الذهن ، كدليل و برهان قوي ، على الشموخ الذي كان يتمتع به هذا الحزب من قبل . هذه المشاهد ، بدت لشخص قد عاشها و هو صغير ، مثل حلم جميل ، في ليلة مطيرة ، لكنه انتهى بسرعة ، على وقع صاعقة تركته محتضرا .

كان الأوان صيفا ، و كانت الرطوبة على أشدها ، و كانت محطة القطار الرباط ، تعج بالمسافرين ؛ الذين تحرروا لتوهم من عبئ المسؤوليات ؛ و كلّ متجه نحو تمضية العطلة الصيفية ، في أحد الأمكنة . لكن الذي يروي هذا الحديث ، لم يكن يعرف أين يذهب ؛ فلحداثة سنه ، سلّم أمره لأخيه الأكبر ، الذي كان بمعيته بعض قرنائه .

سار القطار زمنا طويلا ، أو هكذا تبدّى له ، وفي نهاية الرحلة ، لما ترجّل رفقة أخيه و مرافقيه من على مثن القطار ، علم آنذاك ، أن هذه المدينة الكبيرة ، ذي الكثافة السكانية (الصينية) ، التي حلّ ضيفا غير مدعو عليها ، هي مدينة الدار البيضاء .

و بعد أن استقلوا سيارتي أجرة ، ساروا مدة من الزمن ، قطعوا خلالها الطرق ، و اخترقوا العديد من الشوارع . وبينما هم كذلك ، بدا له و هو بداخل السيارة التي كانت تسير بسرعة ، أن المنازل ، و ناطحات السحاب ، و أعمدة الإنارة الكثيرة المتلاصقة ، ذي الأضواء الملونة ، تسير نحو الخلف ، بنفس السرعة التي كانت تسير بها سيارة الأجرة .

و فضلا عن ذلك ، فالمواضيع المتنوعة ، التي تناولها أخيه و مرافقيه ، طيلة زمن الرحلة ، و التي كانت تتناسل من بعضها البعض من دون نهاية ، إذا ما أضفنا عليهما ضجيج المدينة ، و صوت محركات السيارات ، كل ذلك ، جعله يكتف بالصمت ، في انتظار نهاية لهذه الرحلة المجهولة المتعبة .

أمام باب بناية كبيرة ، محاطة بسياج حديدي ، عليه طلاء أخضر ، توقفت أخيرا سيارة الأجرة . فتقدّمت الرفقة أمامه ، دالفين إلى داخل هذه البناية ، بشكل يوحي على أنهم ، إما على موعد ، أو معرفة مسبقة بما يحصل داخلها ؛ أما هو ، فكان لا يزال يتخلف إلى الوراء . بغثة ، وجد أن البناية التي تبدو صامتة من الخارج ، فهي على الرغم من اتساعها ، و كبر مساحتها ، مملوءة عن آخرها بالشباب . أعمارهم كانت تتراوح بين العشرين و الثلاثين ، أو ما يزيد .

ثم ما لبثوا أن نهضوا من أمكنتهم ، و انطلقوا يهتفون بصوت واحد ، و هم يحيون الوالجين الجدد ؛ و يخصّون بالهتاف ، اسم أخ الراوي هذا.. لكن هذا ، الذي لم يكن قد تجاوز بعد ، سن التمييز ، تسمّر واقفا عند أول خطوة خطاها داخل البناية ، و هو لا يدري ، ما الذي تراه عيناه .
في اليوم الموالي ، كانت المفاجئة . العديد من الشخصيات ، التي لم يكن يعرف عنها شيء ، إلا من خلال قنوات الأخبار الوطنية ، ها هو الآن ، يراها بالعين المجردة . عندئذ ، اختلطت عليه الأمور ، لكنه علم فيما بعد ، عن طريق بعض الشباب ، الذين انسجم معهم ، أن الأمر يتعلق بورش ، نظمته شبيبة حزب الاتحاد الاشتراكي .

استمر الورش لمدة ثلاثين يوما ، و كان في كل يوم يحضر أساتذة كبار ، يلقون الندوات ، و يلهمون الشباب . و كان من بين الأمور التي لا زالت عالقة بذهن صاحبنا ، هو ذلك الشعار ، الذي مذ أن سمعه ، حفظه غيبـــا و عن ظهر قلب. وكان كلما صدحت به حناجر ذلك الكم الهائل من الشباب ، كهدير قوي ، إلا و تملّكته رعدة ساخنة ، سرت في جميع أنحاء جسده .

لم يكن يعلم معاني ذلك النشيد ، و لم يكن يعرف أولئك الأشخاص الثلاثة ، المذكورين به ، و سبب ذكرهم دون غيرهم . و لم يكن يعلم السبب الذي جعل هؤلاء المنشدين الشباب ، تزداد أوداجهم انتفاخا ، و يرتفع صوتهم أكثر فأكثر ، كلما انتهوا إلى السطر الذي يضم أسماء – هؤلاء الثلاثة – . حتى يُخيل إلى المستمع ، إما أن هؤلاء قديسون ، أو أن لهم في أعناقهم دين ، و عليهم أن يردوه لهم.

و بعد ما مرت سنوات عن تلك المشاهد ، و اشتد عود صاحبنا الفكري ، علم جيدا تلك المعاني ، و عرف من يكون أولئك الثلاثة . عرف معنى الاشتراكية ، و عرف معنى الديمقراطية ، و عرف معنى التحرير . كما علم أن المهدي هو المهدي بن بركة ، ذلك (الحاضر/المختفي) ، و أن عمر هو عمر بن جلون ،الذي اغتيل بسبب أفكاره ، و أن “كرينة” ، هو محمد كرينة ، المناضل الصغير الذي أهمله سجّانوه ، فسقط صريعا .

لقد شهد تلك اللحظات ، في وقت بدا له فيما بعد ، أنه وقت كان فيه حزب الاتحاد الاشتراكي ، يقام و لا يقعد له ، و شبيبته تستوعب الكفاءات ،و تنتج الإطارات ، و تكوّن القادة ..لكنه شهد أيضا في هذه السنوات ، كيف انهار طود كبير من علياءه ، و صار من كثرة القعود ، مصاب بالتخمة ، لا يستطيع قياما و لا نهوضا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *