منتدى العمق

الصوفية في الشعر المغربي المعاصر المفاهيم والتجليات “الأستاذ محمد بن عمارة”

الغاية من التأليف:

لقد كانت غاية المؤلف من هذا البحث هي محاولة إثبات وجود الإشارة الصوفية في ثنايا الوجود الشعري للعبارة لتأكيد صلة الشعر المغربي المعاصر بالمرجعية الصوفية، مع مراعاة طبيعة الغاية المرسومة التي تستبطن النصوص وتبحث في حقائقها، مما دعاه إلى اصطناع منهج مناسب متواز مع البعد الصوفي للمادة ومتونها، مستخلصا من طرف التأويل المعهود عند الصوفية والمتوارثة في تراثهم التأويلي الذي لا يكترث بظاهر النص ولا يكتفي بمعانيه القريبة، والذي يتأول ويغني الظاهر بما يستنبط منه.
وقد بنى الأستاذ محمد بن عمارة كتابه هذا على بابين:

الباب الأول:

يضم المفاهيم والثاني التجليات.

وقد اشتمل الباب الأول على سيرورة الاختلاف والتنوع، وقد قسم هذا الباب إلى فصلين، تناول فيهما دوافع الاختلاف ومنطلقاته وأسسه.
وقد ركز في الفصل الأول على أربعة مباحث:

-تعرض في المبحث الأول لمفهوم الصناعة الشعرية، إلى نشأة المفهوم الصناعي للشعر، وحدد مكونات هذا المفهوم تحت ظل بيئة بليغة تقدم القاعدة على الإنجاز، وتتخذ من العالم الخارجي موضوعا وصفيا، وتفرض نظرات الجماعة الجمالية والاجتماعية على الشاعر وتطالبه بالوفاء لتلك النظرات وتشترط أثناء الإنجاز الشعري (التنقيح-التجويد- الإتقان- فصاحة اللسان)، ومحاكاة الصناعة النفسية (التذهيب-النظم- الحياكة”، ويعتبر الشعر مجالا للتباري والمنافسة ومادة للمفاضلات والمقارنات بين الشاعر والشاعر، والقصيدة والقصيدة، والغرض والغرض، والمطلع والمطلع، ينطلق المؤلف في هذا المبحث من مفهوم الصناعة الشعرية، ويستهلها بحديث نبوي شريف المتمثل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين” هذا الحديث الذي يؤكد على أن العرب أمة شعر، وصناعتهم التي يضاهون بها صناعة الأمم الأخرى بحيث يصف الشعر بالصناعة والصناعة حرفة الصانع وعمله الصنعة، والشعر صناعة والشاعر صانع، والقصيدة صنعة، أن هذه الصناعة الفصيحة جديرة بأن تتقدم على غيرها في بيئة الفصاحة، وأن تأخذ حظها من رعاية مجتمع يجل الشعر ويطلبه ويتذوقه ويهتز له، ويدون فيه أيامه وتجاربه، وسلمه وحربه وذكرياته وحكمه، لذلك أقام العرب أسواقهم الأدبية التي يتبارى فيها الشعراء، وتنشد داخلها أمهات القصائد ذات جودة رفيعة، وهذه الجودة تكمن عند العرب في الوزن الصحيح والمعنى اللطيف، واللغة البليغة الفصيحة، فإذا اجتمعت هذه الأمور وصل الصانع إلى غايته وتحقق للمتلقي مطلبه .

لم ينتقل المؤلف إلى الحديث عن التنقيح في الشعر، وأن غاية الشاعر في هذا الأمر تتجه صوب الإتقان والجودة، كي يبرهن على مهارته ويتقدم على منافسيه من الشعراء، والتنقيح يبرز ضرورة الترابط بين الصناعة والإتقان، ففي القرآن الكريم نجد الصلة واضحة بين الصنع والإتقان، إذ أن الصنع يتم ويكتمل بالإتقان، مصداقا لقوله تعالى: (صنع الله الذي أتقن كل شيء) سورة النمل الآية 90 ، وأن تنافس الشعراء في صناعة الشعر كانت تحكمه قاعدة الإتقان، وكانت تراقبهم خبرة العلماء الذين ميزوا بين جيد القول ورديئه، كما قدموا الشعراء المهرة المتقنين على غيرهم، وفصلوا في ترتيبهم، وفضلوا القصيدة على القصيدة، والبيت على البيت، والمعنى على المعنى، والمطلع على المطلع، والخاتمة على الخاتمة.

ولكي يكون الشعر منقحا ومتقونا لا بد وأن يتوفر فيه الفصاحة والبلاغة والبيان، فاللسان له مكانته في البيئة الفصيحة، وعناية تلك البيئة بفنون القول تتصل بمهارة النطق، وإجادة اللغة المنطوقة والسمو بها من وظيفة التواصل اليومي إلى وظيفة التواصل الفني بما يعنيه هذا التواصل من رقي وجودة وجمال.

فاللسان حسب قول المؤلف، يظهر فصاحة العرب ويرفع من مقام لغتهم، ويبرهن على قدرتها وبلاغتها وبيانها ويؤكد على أن النطق باللسان موصول بما في القلب وما في النفس، إذ ما يحمله القلب ينطق به اللسان، أي إن صدق اللسان عند العرب لا يتحقق إلا إذا اقتربت الشقة بينما يوجد في القلب وما يجري على طرف اللسان، وفي نظر بيئة اللسان أن جلاء قوة الشعر في اقتدار اللسان الفصيح الذي يحيك الصناعة الشعرية بما يرتضيه الذوق، وما يهز الوجدان، وبما يجل الصناعة ويرفع من مقامها، ومن ثمة فقد اقترن القول الشعري باللسان الصادق، ثم يذهب المؤلف في الحديث عن أمر الشعر في عصر النهضة، وما كان عليه هذا الأخير في بيئته الأولى.

إذ حافظ شعراء الإحياء على مفاهيم القول الشعري، وخصائص الصياغة الفنية، وورثوا روح المحاكاة واستمر عندهم الطرح الذي يرسخ دلالة الكلام البليغ الذي يجري على طرف اللسان، واحتفظ بعض هؤلاء الإحيائيين بمعنى مؤازرة اللسان للقلب، ويتمظهر ذلك في قول الشاعر حسان بن ثابت في مدحه لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول:

أكرم بقوم رسول الله شيعتهم :: إذا تفرقت الأهواء والشيع

أهدي لهم مدحي قلب يؤازره :: فيما يحب لسان حائك صنع

كما نجد طه حسين عميد الأدب العربي ينعت الشاعر باللسان الناطق، وحسب رأي المؤلف أن استخدام”طه حسين” لهذا النعت لا يرتبط بالتعبير المجازي العابر، العفوي، بقدر ما يرتبط باصطلاح له دلالته في الثقافة النقدية التراثية.

-والشعر صناعة نفسية كما وصفها المؤلف، قرن صناعة الشعر في أذهان العرب بصناعات الذهب، والجواهر، والحياكة، وقد سميت القصائد الجيدة بالمذهبات والمقلدات، والشعر عند العلماء يصاغ ويسبك كالذهب، وينسج على المنوال كالحياكة، ويتضد ويفصل كاللؤلؤ والدرى.
فالدرر المنظوم ينجلي حسنه، ويصان في سمطه، والكلام المنظوم تصونه الأوزان، وتحفظه البحور، ويزداد حسنا ورونقا وتتجلى فيه براعة المتكلم.

إن القصيدة قلادة لمفهوم البيئة الشعرية العربية، ولا تكون القصائد قلائد إلا إذا تفرغ لها قائلها، واهتم بصنعها، منآدها، وهذب كلامها، وجود معانيها، واستفرغ فيها جهد الحول بالنظر والتنقيح، (ولذلك كانوا يسمون تلك القصائد: “بالحوليات”، والمقلدات، والمنتحات والمحكمات، ليصير قائلها فحلا حيئذ أو مفلقا).

المبحث الثاني:

لينتقل المؤلف إلى المبحث الثاني ويتحدث فيه عن مفهوم التجربة الشعرية، وهو مبحث يثير قضايا حيوية، وينطلق من معنى تجاوز التوجيه الذي عبرت عنه مواقف شعراء الصوفية، ومن سار على هديهم، عندما دعت ضرورة التجاوز إلى التخفيف من أعباء الأبوة التوجيهية المسيطرة على تاريخ الشعر العربي قديمه وحديثه، حيث سيطرت المؤسسة النقدية البلاغية على إنجاز الشاعر، ودفعت به إلى تلبية حاجة الذوق العام، والخنوع للقاعدة دون خروج عنها في المرحلة الأولى من تاريخ الشعر، ثم قام في هذا المبحث بمناقشة بعض الآراء والرد عليها، ومناظرة موقف نقدي مع موقف تقني نقيض، وبعد طرح هذه الآراء ومناقشتها جاء بمقابل لهذه الآراء مدافعا عن تجربته الشعرية المستلهمة من التجربة الصوفية وعن حرية المبدع الخارج عن طاعة السلطة التوجيهية، واعتبر الشعر تجربة فرد فريدة، مما جعله يستعين ببعض الآراء التي اتفق معها والتي عززت رأيه، من بين تلك الآراء: (رأي نازك الملائكة) التي نفند أقوال الداعين إلى ربط الشعر بالالتزام الاجتماعي والسياسي، والتي ترى أن الدعوة الاجتماعية، أو دعوة الالتزام، دعوة غير منطقية بالنسبة للشعر، ذلك أنها تطالب بتحديد ما لا صلة له بالقصيدة، كما أيد موقفه ببعض آراء “يوسف الخال” وبوقف “أدونيس”، وقد أثبت من ناحية أخرى هيمنة المنطق الصوفي على مفاهيم الحركات الشعرية التي توالى ظهورها بعد حركة العث والإحياء التقليدية، ثم بالحديث عن حداثة جماعة “شعر” التي كانت تحوم حول معاني التجربة الصوفية في التعبير والخلق الفني، لينهي هذا المبحث بالحديث عن الوجدان الباكي والذي وجدت نسبه في الشعر العربي منذ نشأته الأولى، وبقي الشاعر في عهود الشعر المختلفة باكيا في شعره واصفا دموعه الجارية، لا يستفتح القصيدة إلا إذا وقف وبكى ودعا من معه إلى البكاء، وخير مثال على ذلك مطلع معلقة امرئ القيس، والتي يقول فيها “قفا نبك” وقد ميز المؤلف في هذا الصدد بين نوعين من البكاء.

الأول: بكاء تدفع إليه الضرورة وتستدعيه مطلبات الشعر.

الثاني: أما النوع الثاني من البكاء فهو مالا علاقة له بضرورة الصناعة الفنية، إنه بكاء الوجدان النازف، ودمعة الروح الكئيبة، وهو ترجمان الألم الذاتي يستقر في الإحساس المرهف وهو التعبير عن شدة اللوعة وحزن القلب، وبعد هذا يتطرق إلى وصف أحوال المتصوفة وبكائهم، وشأنهم في ذلك شأن كل أصحاب التجارب الروحية الواقعين في حمى الجلال والجمال الإلهيين يتطلعون إلى الحضرة البهية، وهم في شوق إلى أنوارها ومددها، يغشاهم الخشوع، ويهيمن عليهم الخضوع، وينتابهم بكاء القلوب.

ويذكر القرآن الكريم أصحاب حال البكاء الخاشعة قلوبهم لذكر الله والدامعة عيونهم، يقول تعال: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) المائدة: 85. وهو بكاء الذين أتوا العلم كما قال تعالى: (إن الذين أوتوا العلم…) الإسراء: 107.
هذا البكاء البكاء المشار إليه في الآيتين هو بكاء الساجدين الذين لا يتم سجودهم الخاشع إلا بالدمع.

المبحث الثالث:

وقد خصص المبحث الثالث لصوفية الوعي الشعري حيث ميز فيه بين طريقة ثبات اللغة في نزعتها الصوفية، وطريقة تطويع وتطوير الأداة التعبيرية عن طريق ما سماه بالوثبة اللغوية من العبارة إلى الإشارة بحثا عن حقيقة الشعر، وأيد موقفه بأدلة من إنتاج الشاعر محمد السرغيني، ومن رأي هذا الأخير بأن الصوفية رؤية العالم من العمق وفي العمق وإلى العمق ويعد محمد السرغيني من أكثر الشعراء المغاربة ارتباطا بالتصوف، وأنه صوفي في نشده العلاقة المتينة التي تربط بين الشعر والتصوف ليعيش جدلل الترادف بين تجربة الذوق وتجربة الكتابة.

فتجربة الشعر عند محمد السرغيني هي تجربة تحول الكون المرئي من وجوده الخارجي إلى وجود داخل النص الشعري، والقصيدة في رأي المؤلف هي كون شعري يستعير وجوده من تأمل الذات الشاعرة في الحقائق الكونية وفي خفاء الأشياء وغموضها.

فالشاعر محمد السرغيني يفصل بين المعنى الديني للتصوف والمعنى الفني والوجودي والكوني للتجربة الصوفية.

ويؤسس مفهومه الإبداعي على دعائم التأمل والاكتشاف في الوجودين الحقيقي والفني والبحث عن لحظة برزخية تجمع بين موقف الرؤيا وموقف التعبير.

ثم تطرق في آخر هذا الفصل إلى مفهوم التحول من خلال رصد التجربة بين الؤيا والعبارة، حيث عالج في ثنائية التضاد بين سعة الرؤيا وعجز العبارة انطلاقا من مقولة النفري “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”، وعزز هذا المفهوم بمجموعة من الأمثلة الشعرية لكل من (الحلوي ، والسرغيني، والمجاطي، ومفدي، وبنطلحة)، واستخرج من المقاطع الشعرية بعض معادلات النفري كمعادلة “بيت العنكبوت” و”سدرة المنتهى” فالأولى توحي بمعاني وهن اللغة وعجزها وسقوط الشاعر في ذلك الوهن العنكبوتي اللغوي، حائرا بينما يرى وما يريد التعبير عنه، أما الثانية فهي معادلة في بعض الأمثلة الشعرية لمعاني التعالي في زمن الرؤيا المطق.

الفصل الثاني:

الباب الأول:

فقد عالج المؤلف معنى المعاناة انطلاقا من مفهوم الكتابة الوجدانية المتألمة، التي تعني عند المتصوفة المخاطرة بالذات الناطقة في بحر منطوقها.

وقد قسم هذا الفصل إلى مبحثين متآلفين تبدوا فيهما الكتابة الشعرية نوعا من الموت والبعث معا.

وقد عنون المبحث الأول: بكتابة الحرف معتمدا على المتون الشعرية مستكشفا عن حضور بنية النار بالمعنى الصوفي أي “نار الهواية” التي هي نار موسى في جبل طور، وتتبع وجود النار انطلاقا من مقولة (الشيء في الشيء) الصوفية، كما تتبع حضور التداعيات اللفظية والإشارية (النار/ الحرق/ الدخانن/ الرماد..) في مقاطع القصائد وعناوين الدواوين.

كما تتبع في كثير من الأمثلة من الشعر المغربي ظهور بنية الفراشانت الثلاث المستوحاة من الحكاية الصوفية الفارسية، واستخلص من الحكاية الصوفية التي تظهر في الأمثلة الشعرية مغزاها الصوفي المتصل بمستويات الباحث عن الحقيقة.

1-الذي يصنف الحقيقة وهو بعيد عنها.
2-الذي يقترب منها ويعبر عن ذلك القرب.
3-والذي يصل إليها ويحترق بنارها ويصير جزءا من رمادها.

وفي المبحث الثاني: الموسوم “الكتابة بالدم” جمع فيه الكاتب أمثلة شعرية، تدل على حضور بنية الدم في نصوص الشعر المغربي، وعلى شعور الشاعر المغربي، بأن كتابة القصيدة لا تتم إلا بدم الشاعر، فالدم هو هو حبر الشاعر ووجود القصائد لا يتم إلا بوجود الدم.
وقد أعاد المؤلف بنية الدم إلى أصلها الصوفي، وربط بين الذاكرة الشعرية ومرجعيتها الصوفية.

الباب الثاني: (التجليات)

تفرغ المؤلف في هذا الباب لدراسة التجليات الصوفية التي تملأ متون الشعر المغربي المعاصر، وقسم هذا المدخل إلى مدخل وأربعة فصول.

حدد في المدخل المعنى الذي يقصد من التجليات، فقد عرفه بقوله: “هو كل ما يطفو في النص الشعري أو يتحيز في نسق من الأنساق اللغوية والأسلوبية والمعنوية”، والتجليات هي كل ما يبدو خفيا يتوارى بين ركام الألفاظ، وتحجبه أساليب التعبير وتخفيه المعاني، حتى إذا بلغت قراءة النص الشعري مستوى الكشف بدأ ذلك الخفي يخرج من الخفاء ليصير ظاهرا.

وذكر بأن التجليات قد تكون أفقية وقد تكون عمودية، فالمفاهيم الأفقية في عملية القول الشعري تنتج نصوصا شعرية تنحصر تجلياتها في كل ما يطفو على سطح القصيدة، خلافا للمفاهيم العمودية العميقة، التي تبنى على أساس الخلق الفني، والتي تستمد حيويتها من المراجع الحية كالتصوف، تنتج نصوصا شعرية.

ففي الفصل الأول: تطرق فيه بالحديث عن ظاهرة التجليات القرائية في المتون الشعرية والأنساق التعبيرية والمعنوية التي احتوتها هذه الظاهرة، فذكر الصلة التي تربط التصوف بالقرآن الكريم مصرحا في ذلك بأن صلة التصوف بالقرآن الكريم لا تحتاج إلى دليل، وأن المتصوفة هم أهل القرآن كغيرهم من عامة المسلمين وخاصتهم، يتلونه عبادة وتقربا إلى الله ويتلونه في مجالس سماعهم أملا في الوصول بأحوالهم إلى الوجد، ويتدبرون آياته، يتلقون ظاهره، ولا ينكرون ذلك الظاهر، ويزيدون على ذلك محاولة الوصول إلى الإشارة الخفية، والدلالة العميقة، فهم قوم يستفرغون الجهد فيما يبدوا لهم بحث عن كنوز العبارة القرآنية وأهدافها البعيدة، ثم تطرق إلى قضية توظيف المتصوفة للقرآن الكريم في الشعر العربي عامة والمغربي خاصة، ففي كتابات الصوفية يتجلى صدى النص القرآني في تلك الكتابات والأشعار، إذ لا تتم تلك الكتابات إلا بمعاني القرآن ودلالته وإشارته، ومن ثمة فإن مؤلفاتهم لا تستغني عن استحضار الآية القرآنية من أجل استنساخ موضوع صوفي أو من أجل حجة يحتجون بها ودليل يقيمونه على ما يذهبون إليه، وقد ولع بعض الشعراء المغاربة المعاصرين بالنص القرآني استفادوا من مكوناته اللغوية، والمعنوية، والتصويرية، والإيقاعية، ويعيدون إنتاجها في نصوصهم الشعرية، فهم يستلهمون من لغة القرآن ما يفيد بناء الجملة الشعرية لفظا وإيقاعا.

ثم استوقف المؤلف مظاهر الانسجام بين العبارتين القرآنية والشعرية، وأشكال حضور الآية في نسيج التعبير الشعري، ثم تطرق في نهاية هذا الفصل إلى حاجة المضمون الشعري للقصة القرآنية (قصص الأنبياء/ نخلة مريم/ شخصية بلقيس).

ثم انتقل في الفصل الثاني: إلى الكشف عن التجليات العددية، وعن محمولها الرمزي والإشاري في متون الشعر المغربي، يقول في مطلع الفصل “لا نريد أن نختلف مع بعض الدراسات التي أشارت إلى اهتمام الإنسان القديم بالعدد ورمزيته وموازاته، مع تنوع الكائنات وتعددها، ولا نريد أيضا أن تقتصر الدراسة في مجال العدد على أهمية الأعداد في الثقافة الفيثاغوية اليونانية، في حضارة بلاد ما بين النهرين، وأيضا في الثقافة العبرانية، والكهانة الدينية اليهودية، ذلك لأن العرب أمة عددية لها نصيب لا يستهان به في تأمل العدد، وتأويل دلالته وتطابق رمزيته مع ما يساير الحياة، ولقد اهتم العرب برقم سبعة، حتى قيل إن العرب سبعيون فقد اختاروا سبعة قصائد أسموها المعلقات أو المذهبات والسبعيات، وجعلوا للعروس سبعة أيام وللمولود كذلك، وخطاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم)، الحجر 87.

من خلال هذا نرى بأن المؤلف دار بحثه عن أصول المرجعية العددية في التراث الصوفي، وتوقف عن توظيف الإشارتين، السبعية كما سلف الذكر كذلك تحدث عن الإنسية عند كثير من الشعراء المغاربة الذين تعرض البحث لاستقراء إنتاجهم ثم تتبع الإشارة إلى بعض الأعداد الأخرى.

كما خصص الفصل الثالث: لتجليات الإشارة الحروفية وعقد مناظرة بين مكانة الحروف عند الصوفية، ومكان الحرووف في متون النصوص الشعرية والغاية من الوجود الضمني لاستحضار الحرف في اللغة الشعرية والتقطيع المتوازي بين حروف الألفاظ وتقطيع القصيدة المقطعي، موضحا ذلك من خلال البناء الحروفي للقصيدة، وأطلق على لون من القصائد اسم “القصيدة الحروفية”.

نموذج تطبيقي:

إن للحروف عند الصوفية مكانة كبيرة إذ يقوم مذهب الصوفية على التأويل، فهم كما يقدمون أنفسهم طلاب حقيقة، وأهل إشارة وأهل عبارة، وعندهم أن الحقائق جواهر تخفيها المظاهر، أن السعي إلى الحقيقة يقتضي دائما تجاوز الظاهر من أجل إدراك حقيقة الباطن، وللصوفية اهتمام خاص بعلم الحروف، فهو عندهم مجال للتأويل، ومن بين مؤلفاتهم في هذا الميدان: “رسالة الحروف” لسهيل بن عبد الله التستري (ت 283هـ) و “توجهات الحروف” لمحيي الدين بن عربي (ت 638هـ) كتاب “الألف” وكتاب “الميم والواو والنون” وكتاب “الياء”.
وهناك من الشعراء المشارقة والمغاربة المعاصرين من مدح الحرف، وأجل شأنه، واتخذ منه وسيلة إشارية للإيحاء والتعبير عن مكنون المعاني.

وفي الشعر المغربي اعتبر الشاعر محمد مقدي رائد هذا العلم فقد تمسك بمعنى البحث عن سر الحرف ثم أنهى هذا الباب بدراسة تجليات اللفظ الصوفي من خلال محاور ثلاثة:

1-موقع اللفظ الصوفي في الشعر.
2-الهاجس الرؤيوي في اللفظ الصوفي.
3-مصطلحات الطريق والمذهب.

* باحث مغربي جامعة عبد المالك السعدي كلية الآداب والعلوم الانسانية 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *