وجهة نظر

الوثيقة العدلية وخطاب القاضي “تحرير الرقاب من غل الخطاب”

في أفق تعديل القانون 16/03 المنظم لخطة العدالة استجابة للمتغيرات المجتمعية والمكتسبات المهنية، يتجدد السؤال الملح عن جدوى خطاب القاضي على الرسوم العدلية الذي يضفي عليها حالا الصبغة الرسمية، رغم تساوي القضاة والعدول في مصادر المعرفة القانونية، والتخرج في نفس الجامعات، وبنفس الشهادات المخولة للانخراط في القضاء، فضلا عن عدم ترتيب أية مسؤولية قانونية على خطاب القاضي، مقابل المسؤولية المباشرة للعدلين عن الوثائق التي تحمل توقيعهما، وما يتبعها من متابعات قضائية، تتكرر نماذج منها بمجرد الشبهة، وأحيانا بناء على شكاوى كيدية..

إن الحقيقة التي لا غبار عليها أن الخطاب بوصفه تقليدا موروثا انتفت كل مسوغاته اليوم، بعد تجاوز النموذج التاريخي لقاضي التوثيق، بما عرفته المنظومة القضائية من تطور وتخصص، ومعها المهن المساعدة للقضاء، فلم يعد الخطاب في الوقت الراهن يكتسب قيمة مطلقا سوى التعقيد والوصاية، بعد تقنين شروط وضوابط الانخراط في خطة العدالة، وعلى رأسها حصولهم على شهادات عليا، أو اكتسابهم لخبرة ممارسة مهمة قضائية، مع التنصيص على ضرورة تلقي تكوين يخولُ أداءَ مهامهم على أحسن وجه، وتعيينهم رسميا من قِبل وزير العدل للقيام بمهمة التوثيق العدلي.

فالخطاب على الرسوم إذن ليس سوى شكلٍ من أشكال الوصاية غير المبررة على الوثيقة العدلية، التي تُحرَم بسببه من الفعالية، وتبقى رهنا لوتيرة أداءٍ ثقيلة ومُمِلَّة، تحول دون سرعة إنجازها مع الجودة التي هي الهدف الأساس، وتسليمها لأصحابها في آجال معقولة.

واليوم حيث باشرت وزارة العدل والهيئة الوطنية للعدول مناقشة تعديل قانون 16/.03 المنظم لخطة العدالة يجب أن يكون التعديل مراعيًّا للتطورات التي عرفتها الهيئة، ومستحضرا لمؤهلات السادة العدول العلمية وما أكتسبوه من خِبرات، فضلا عن مستجد ولوج المرأة إلى ممارسة المهنة؛ الأمر الذي يتطلب جرأة بالغة، وشجاعة فائقة، في صياغة قانون حديث يرتقي بالتوثيق العدلي بوصفه دعامة تثبيت الحقوق وحمايتها، والعمل على تجاوز كل ما ثبت عدم جدواه من الموروث؛ من الإجراءات والمساطر.

إن التمسك بخطاب القاضي على الرسوم العدلية ينافي دواعي التجديد، ومقتضيات التحديث التي تعرفها منظومة العدالة بالمملكة، وعليه لا بد من قرار حازم يخفف عن العمل القضائي ما لا طائل  وراءه، ويُخلِّصه من وظيفة شكلية صارت إشكالية بالممارسة، لا تترتب عليها مسؤولية للقاضي، الذي لا يحضر مجلس العقد، ولا معرفة له بهوية المتعاقدين، ولا بالمستندات المعتمدة…

كما أن خطاب القاضي لا يحقق ضمانة للوثيقة تحميها من الطعن، ولا يوفر حماية للعدل من المتابعة، وإعلامُه بالأداء والمراقبة لا يتضمن قيمة مضافة، سوى تبخيسِ جهود العدول، وتعطيِل مصالح المواطنين بسبب انتظار الخطاب..

والشواهد والأدلة على ما ذكر لا تنحصر، فباستثناء حالات هنا وهناك من التجاوب العملي السريع بالخطاب على الرسوم في أوقات معقولة من قِبَل بعض القضاة، يعاني عدول كُثُر من  تأخر هذه الشكلية، وقد تنشأ جرَّاء ذلك علاقات وسلوكيات منافية لصميم العدالة، ومباعدة لمبدأ الشفافية والاستقلالية..

لذلك من غير المقبول استمرار التلكؤ في تسريع إقرار إصلاح عميق للتوثيق العدلي، والاستجابة للمطالب المشروعة بإخراج قانون عصري دقيق ومتكامل يُقوِّي مركز الوثيقة العدلية، ويُؤَسس لمنطق ربط المسؤولية بالمحاسبة، اعتبارا لمؤهلات العدول التي لا تقل عن مؤهلات السادة القضاة غالبا..

لقد أشاد السيد المدير العام للضرائب بمستوى التفاعل الذي أبداه السادة العدول مع التطبيق الالكتروني الخاص بتسجيل العقود، بعد أن باشرت مصالح المديرية العامة للضرائب التصريح والتسجيل إلكترونيا، في الوقت الذي تتجه كتلك مصالح المحافظة على الأملاك العقارية إلى اعتماد التقييد والتدبير الالكتروني للقضايا والملفات العقارية.

إن المحكمة الإلكترونية التي بشَّر بها مشروع إصلاح منظومة العدالة، لن تكون مجدية أبدا ما دامت إحدى أخطر المهن القانونية غير مستهدفة بالإصلاح العميق، فلا تعرف تطورا ولا تجديدا إلا في اتجاه التعقيد، ومزيدٍ من استلاب حرية العدول، وإخضاعهم للتبعية دون اشتراك في المَغْرَم، مما يتنافى ومطالب الترقية والتأهيل، وتحسين الأداء.

والحاجة ملحة إلى إعادة النظر بعقلانية وتجرد وإنصاف للعدول بمراجعة دقيقة للقانون 16/03 وعلاج جميع مظاهر القصور فيه، وتدارك أوجُه التنافي والوضع الاعتباري الذي يمثله العدول اليوم في المجتمع، والبناء على المكتسبات التي عرفها الهيكل التنظيمي للهيئة الوطنية للعدول، بإضافات نوعية، تعزز المسؤولية القانونية الذاتية عن التوثيق العدلي وممارسيه بكل أبعادها..

وللعلم فإن تعلق رسمية الوثيقة العدلية بخطاب القاضي يضعنا أمام تناقض واقعي غير منطقي من دولة تعلن قيامها على الحق والقانون، بما توصلت إليه من صياغة واعتماد دستور متقدم، وعمل متواصل على تنزيل شروط النزاهة والاستقامة بتأسيس هيئات دستورية متنوعة هدفها إقامة العدل وصيانة الحقوق..

هذا التناقض يتمثل في ترتيب الآثار القانونية على العقود مثل الزواج والطلاق والبيوع وغيرها من العقود بمجرد التلقي والتوقيع لدى العدول، ولا أحد مطلقا ينتظر خطاب القاضي المُضفي للرسمية؛ فالواقع يشهد أن تاريخ التلقي هو المعتبر؛ حيث يدخل الزوجان، وتنفصم الزوجية بالطلاق، وتُحتسب العِدد الشرعية، فيبقى تلقي العدلين حاسما فيما يخص بدء العِدَد وثبوت التوارث، ويقبض البائع ثمن المبيع قبل حيازة المشتري لصك الملكية، ونفس الأمر يقال عن بقية العقود والمعاملات التي توثق من قبل العدول…

وقد أحسن أحد ظرفاء الأساتذة لما وصف المشهد القائم والقاتم، وكتب نداء للمُتزوجين يوصيهم بعدم الدخول حتى يخاطب القاضي، ونبَّه المتفارِقَين بالطلاق على أن العصمة لا تزال قائمة حتى يخاطب القاضي، وطلب عدم الصوم حتى يخاطب القاضي على موجب مراقبة الهلال، وأن البيع غير تام حتى يخاطب القاضي على عقد الشراء، وهكذا…

مسألة أخرى تتفرع عن التمسك بالخطاب هي تعدد تواريخ الوثيقة العدلية؛ ” تاريخ التلقي، تاريخ التسجيل، تاريخ التحرير، تاريخ النسخ، وتاريخ الخطاب”؛ كل ذلك يُفقدها القيمة الحقيقية عند التنازع، وترتيب الآثار على المشهود فيه، وعليه فالحاجة ماسة إلى اعتبار تاريخ التلقي فحسب مرتبا لآثار العقود، ومنهيا للخصام، وملزما للأطراف، والمصالح الإدارية المعنية.

وهناك مسوغ آخر لإلغاء خطاب القاضي تقويةً لمركز الوثيقة العدلية بمجرد التلقي، هو أن التلقي من قِبل العدول لم يعُد ـ كما كان تاريخيا ـ نقلا لتصريحات المتعاقدين فقط، أو نيابة عن القاضي في سماع الشهادات وحفظها، بل أصبح توثيقا لالتزامات واتفاقات وعقود بناء على مستندات ووثائق، ووِفق ما تنُص عليه القوانين من شروط وضوابط لمختلف العقود..

إن صنعة التوثيق تطورت بتراكم جهود العدول والتزامهم بالضوابط المهنية، وحرصهم على تضمين البيانات الدقيقة المنصوص عليها في القوانين المنظمة لأنواع العقود من مثل قانون الالتزامات والعقود، ومدونة الحقوق العينية، ومدونة الأسرة، وقوانين العقار والتعمير والكراء والأوقاف والتحفيظ، وغيرها التي تُقِر مساطر وشكليات لا يمكن تجاوزها، وتُحدد آجالا لا يمكن مخالفتها، يضعونها في صيغ وقوالب معبرة عن إرادة المتعاقدين، سالمة من الاحتمال والالتباس؛ وبالتالي فلا خوف من ترك الأمر إليهم مع المراقبة البعدية المتعلقة بالمسؤولية عن العمل كما هو الحال بالنسبة لتصرفات مختلف الهيئات والمؤسسات القانونية..

لقد انعقدت آمال عظيمة على ورش إصلاح منظومة العدالة من أجل تطوير العمل القضائي، وتوفير الأجواء الملائمة الضامنة لجعل القضاء فضاءَ مُتعة للعاملين فيه، يُجسد الجودة والفعالية، ويكون في خدمة المواطن بحق وحقيق، وذلك لا يمكن حصوله إلا إذا تمت مراعاة الظروف التي يشتغل فيها السادة القضاة، واعتبار تعدد المهام التي يتولونها، والوقت الممتد الذي يُمضونَه في معالجة الملفات، وإصدار الأحكام.

في واقع الحال نادرا ما يستقل قاضي التوثيق بمهمة الخطاب، بل يتحمل فضلا عنها مهام أخرى كقاضي الأسرة المكلف بالزواج، وقاضي المحاجير، والبت في قضايا الطلاق، وأحيانا عضوية الجلسات، والإشراف والمتابعة للعمليات الانتخابية بتنسيق مع مصالح وزارة الداخلية المعنية وغير ذلك..

وفي بعض المحاكم نتيجة للضغط والخصاص، وضعف التوزيع للاختصاصات والمهام عند انعقاد الجمعية العامة، لا تُراعى القدرات العلمية ولا الخبرات المهنية لقاضي التوثيق الذي يُطلب منه إضفاء الصبغة الرسمية على الوثيقة العدلية، حيث يجد نفسه أحيانا مضطرا لتعلم صنعتها من العدول، ويبقى دهرا يتلمس الطريق إلى إدراك كُنْهِهَا، واكتشاف مصطلحها، والاستئناس بصيَّغِها ؟؟

لا يُخفي المنصفون امتعاضهم من استمرار العمل بشكلية فقدت سنَدها المرتبط أساسا بضرورة مجتمعية ارتفعت بارتفاع عِلَّتها، والإبقاءُ عليها إلى الآن حِملٌ يثقل الكاهل؛ لا يحقق عدالةً ولا إنصافًا، بل هو قيدٌ على العدول ينافي مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص بين مهنيي التوثيق، من حيث سرعة الإنجاز، وتقديم خدمة نوعية للمتعاقدين، في إطار من المسؤولية الكاملة عنها أمام القانون.

كل ذلك وغيره كثير يُلزم هيئتنا بتجديد المطالبة بتصحيح الوضع، والعمل الجاد من أجل تنزيه المنظومة القضائية عن العبث، وتنزيل شعار “القضاء في خدمة المواطن” تنزيلا يجعل الخدمة فخرا، والقطع مع جميع صور التشغيب على المواطنين، بكثرة الإجراءات وتعقيد المساطر، وأن ننهض بالتوثيق العدلي بوصفه ضامنا للحقوق، ومساعدا لإقامة العدل، على أساس من المسؤولية المقترنة بالمحاسبة..

وأخيرا أُجمل بعض دواعي إلغاء خطاب قاضي التوثيق على الرسوم العدلية في المفردات التالية :

  • انتفاء المسوغات التاريخية والاعتبارات الشرعية التي حملت على ابتداع خطاب القاضي على الرسوم العدلية.
  • القاضي والعدل اليوم يشربان من معين واحد، ويصدران من منهل واحد في ثقافتهما القانونية؛ يمتلكان نفس المؤهلات، ويحملان نفس الشهادات غالبا.
  • خطاب القاضي نوع من الوصاية والحجر على العدول، وتبخيس لكفاءاتهم ومؤهلاتهم
  • ربط رسمية الرسوم العدلية بالخطاب يؤثر على قانونيةِ بَدْءِ أثر الالتزامات والعقود بين الناس
  • الخطاب لا يستجيب لحاجة المتعاقدين إلى إنجاز وثائقهم بالسرعة المعقولة
  • التوجه نحو الرقمنة يتنافى وكثرة الإجراءات بين التلقي والخطاب
  • خلو الخطاب من المسؤولية عن محتوى الوثيقة يجعله قيدا فاقد الجدوى
  • من شأن الخطاب أن يكون دافعا للوقوع في مخالفات قانونية، وتجاوزات مهنية تصيب العدالة في مقتل، تتم بالتواطؤ بين منعدمي الضمير من العدول والقضاة على السواء.
  • في الخطاب تمييز ضد العدول، ودعوة غير مباشرة للتعامل مع غيرهم من مهنيي التوثيق.

هذا غيض من فيض نأمل من صياغته، وبثه والصدع به، الوصول إلى إقرار تعديلات حاسمة في بِنيَة القانون 16/03 تحقق العدل والإنصاف لمهنة توصف بأنها حرة وهي راسخة القدمين في الرِّق، ويراد لها أن تبقى بعيدا عن كل تطوير وتجديد يحرر الرِّقابَ من غُلِّ الخطابِ.

الدكتور محمد سالم إنجيه

خريج دار الحديث الحسنية

عدل باستئنافية العيون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    كلام مقاهي غير مؤسس قانونا.