وجهة نظر

ردا على بويخف: ليس دفاعا عن الهوية ولكن في سبيل مقاربة علمية نقدية

كتب الأستاذ حسن بويخف يوم 10 أبريل 2019 مقالا بجريدة العمق المغربي بعنوان “نقض أوهام الهوياتوية بشأن لغة التدريس” يوضح فيه كيف أن الإنتصار للغة العربية كلغة للتدريس هو من قبيل أوهام ” الهوياتوية” حسب تعبيره، داعيا إلى تبني الإنجليزية كلغة رسمية في التدريس بما لها من حظ وافر في العلم والمعرفة.

إن أكثر ما أعيبه على معظم من يُحسبون على النخبة المثقفة في بلادنا -غير منطق الاستعلاء الفارغ التي تعرف به -هو إقحام نزعاتها الذاتية في التحليل وإصدار الأحكام المتسرعة دون تريث وتأنٍ في التفكير، لكن في الوضعية التي سنناقشها في هذا المقال يتعلق الأمر بكاتب صحافي يفترض أن يلعب دوره كمتتبعٍ للأحداث ومعلقاً عليها بشكل موضوعي . غير أنه كذلك لم يتوانى عن إصدار موقفٍ نهائي في قضية كبرى وحاسمة في سياق لحظة فاصلة في تاريخ الإصلاحات التعليمية منذ فجر الاستقلال إلى يومنا هذا. وفي تقديري لم يشذ الأستاذ حسن بويخف عن هذه القاعدة نفسها التي لا تستثني سوى فئة نادرة غالبيتها تفضل التزام الصمت على اصدار موقف غير مدروس كفاية.

منذ الإعلان عن مشروع القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي كمنتوج خالص للمجلس الأعلى للتربية والتكوين، احتدم نقاش واسع حول السياسة اللغوية التي ستنتهجها إدارة الدولة في تدريس المناهج الدراسية العلمية عقب تطرق القانون لمبدأ التناوب اللغوي (code switching ) الذي ينص على تدريس بعض المواد، ولا سيما العلمية والتقنية منها أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة او لغات اجنبية معتبرا إياه في المادة الثانية مقاربة بيداغوجية تستثمر لأجل تعليمٍ متعدد اللغات . إن قليلا من النباهة لكافيةٌ لإدراك أن المقصود باللغة الأجنبية هي ببساطة اللغة الفرنسية وليس الإنجليزية التي يحاول الأستاذ حسن تصويرها على أنها لغة العلم و العولمة و التكنولوجيا و المال والأعمال. قد نتفق مع أستاذنا في ضرورة التعاطي مع الموضوع وفق مقاربة علمية لكن يبدو أن مقاله النقدي للطرح السائد قد افتقد لأي أساس موضوعي و علمي بل و قد تضمن مجموعة من المغالطات يمكن نبسطها بتفصيل في هذا المقال:

حول تسفيه السجال الدائر بخصوص المسألة اللغوية :

يذهب الأستاذ حسن بويخف إلى وصف السجال الحالي بأنه مبالغ فيه وتم تحويله قسرا لسؤال حياة أو موت، إن هذا التبخيس لطبيعة، مضمون وحِدَة النقاش ناجم أساسا عن غياب الوعي بخطورة شق من مخرجاته التي تهدد الرصيد الثقافي الوطني بأكمله بل من المؤكد أنها ستنتج لنا حتما مدرسة هجينة لا وطنية. في سياق تصوره للمسألة اللغوية والهيمنة الثقافية يرى المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي أن الظاهرة اللغوية تصاحبها مجموعة من العمليات الاجتماعية المعقدة كعملية تشكل الطبقة السائدة وتوسعها وترسيخ علاقات اجتماعية أكثر حميمية وأكثر صلابة بين أفراد البورجوازية الحاكمة أي ببساطة إعادة تنظيم الهيمنة الثقافية و تكريسها و في السياق المغربي يطفو بشكل ملحوظ مشكل على السطح و الذي هو في الحقيقة مشكل طبقي سياسي بامتياز يرتبط بالأحادية ، فالنخب التي لها حظ من المال و السلطة تُعلم أبناءها باللغة الأجنبية ( وحدها أحيانا في المراحل المتقدمة ) مما يوسع الهوة الطبقية في المجتمع بحيث تتوافر لهؤلاء مجموعة من الإمتيازات فقط لأنهم تشبعوا بثقافة اجنبية ( فرص شغل ذات دخل مرتفع ، ولوج فضاء الأعمال بكل يسر) عكس أبناء الشعب الذين ينظرون إلى العربية نظرة ازدراء كونها السبب في إخفاقهم الاجتماعي . كل هذا هو ناتج أساسا عن تلك الهيمنة الثقافية التي تغذيها اللغة الأجنبية ببلادنا و تزيد الطين بلة من ناحية التفاوتات الطبقية المستفحلة .

إن اللغة باعتبارها منظومة رمزية ثقافية ليست مجرد أداة نرجو بها تحقيق النهوض بأوضاعنا التنموية الاقتصادية وفقط (وفقا للاعتبار البراغماتي الذي دافع عنه صاحب المقال) بل هي حاملة لذاكرة و تاريخ ، حاملة لتجارب جماعية ، لانتكاسات و إنجازات ، بل و لقيم تشكلت تاريخيا . إجمالا يمكن النظر إلى اللغة بمثابة رأسمال لامادي يعكس كل مكونات الثقافة الوطنية، ويظل من المستحيل فصلها عن الثقافة بأي شكل من الأشكال. و لا شك أن معضلة التصور الأداتي للغة تتمثل في اختزال اللغة في وظيفتها التواصلية التي تتوفر لدى أي لغة كيفما كانت فإذا كانت اللغات فعلا مجرد وسائل و أدوات عديمة الجوهر فلماذا تشهد السوق اللغوية عالميا مايمكن وصفه بحرب اللغات (بتعبير السوسيولساني جان لويس كالفي) والتي تؤكد أن حتمية اللغة الكونية الموحدة ماهي إلا وهم من الأوهام بحيث أن الإنجليزية نفسها لم يتجاوز عدد الناطقين بها إلى حدود 1952 ما يقارب 250 مليون شخص ، و بالتالي فما وصلت إليه الآن هو بفضل انتصارها الكاسح في حرب اللغات التي لازالت مستمرة ولو على نحو بارد . من ردود الفعل البارزة في المجتمع الدولي لهذا الإكتساح اللغوي هو نشوء مبدأ رفض القطبية اللغوية الوحيدة للإنجليزية فلا يجد الفرنسيون و لا الألمان و الهنود و الصينيون حرجا في الدفع في اتجاه التعددية اللغوية في بعدها العالمي (Global Multilingualism) بل الأكثر من ذلك أن هناك نزعة دولية تدعمها اليونسكو الى اعتماد اللغات الوطنية والبعد – الوطنية (حسب تعبير هابرماس ) في تعليم عموم المواد فإذا صح أن تدَرِّس دول صغيرة مناهجها التعليمية بلغاتها الوطنية مثل فنلندا بالفنلندية و كوريا بالكورية و الكيان الصهيوني بالعبرية فإنه من باب أولى و أحرى أن يدرس العرب بلغتهم .

الهوية ليست وهما بل معطى ثقافي حتمي

يدافع عالم اللسانيات المغربي الكبير الدكتور ” عبد القادر الفاسي الفهري ” في كتابه ( السياسة اللغوية في البلاد العربية ) عن مبدأ جوهري هو أن اللغة رديفة الثقافة و لا يمكن الفصل بينهما و ان الإشكال اللغوي هو إشكال ثقافي بالضرورة حيث يتساءل في كتابه : هل فعلا يمكن أن تمثل اللغة عائقا أمام التقدم و التموضع الحضاري ، كما يزعم بعض خصوم العربية، و بالتالي ينبغي الإستعاضة عنها باللغة التي تتيح الفوائد السالفة الذكر؟ يجيب قائلا أن هناك عوامل متداخلة مساهمة في تحديد الثقافة المرتبطة باللغة من بينها أسس و آليات و نماذج تجزيئ العالم إلى جماعات لغوية أو كتل ثقافية و مدى كفاية هاته النماذج في مستويات التمثل و التجربة ( في البعدين النظري و التجريبي ) و طبيعة العلاقة ( علاقة التضارب أو التقارب ) بين المستويين الخاص أو العالمي الكلي .كل هاته الأبعاد يسميها ب سيمياء الثقافة أي مايحدد مضامينها و رمزيتها . و نفس الأمر نجده في سرديات هانتيغتون حول صدام الحضارات حيث ان خطوط التباين اليوم بين الحضارات هي خطوط المعارك المستقبلية و التي يعد محورها هو الهوية الثقافية و الحضارية . اذا فمقاربة جدلية اللغة و الثقافة سيميائيا حسب الفاسي الفهري يمنح اللغة مكانة مركزية في تشكيل معالم الحضارة المنشودة .

الإستعمار الجديد أمر واقع

تظل الغاية القصوى لدى المنظمة الفرنكفونية العالمية ومعيار نجاحها الأبرز هو إضافة دولة جديدة إلى قائمة الدول ال88 التابعة لها أي توسيع مجال الفرنكفونية كثقافة عالميا و تركز بالخصوص على امتداداتها الأفريقية لذلك فمن الطبيعي أن نجدها ترصد كل امكانياتها لتلك الغاية المذكورة سلفا عبر نشر مدارس البعثاث الفرنسية و المراكز اللغوية الفرنسية التي تتوفر على فرع في كل مدينة مغربية تقريبا فضلا عن الإستعانة ببعض النخب الفكرية و الاقتصادية التي لها نفوذ بغية دعم اطروحتها الإستعمارية إما بالدعوة إلى ترسيم العامية أو محاولة تأبيد الفرنسية رغم المقاومة الشعبية لها . و يذكر الفاسي الفهري كيف أن هؤلاء الكولونياليين يصورون اللغة العربية الفصيحة على أنها كلاسيكية عتيقة ، لا تسمح بالتقدم و الرقي إلى مصاف الدول المتقدمة و يشبهونها تاريخيا ب اللاتينية . بل وقد حاولوا بكل مكر اختراق معهد الأبحاث و الدراسات للتعريب عبر الترويج لمعجم كولان للعامية المغربية .

قد يقول البعض أن الأستاذ حسن بويخف هو بصدد الدفاع عن الإنجليزية لا الفرنسية التي قد يعتبرها هو نفسه ارثا استعماريا لكنني سأعقب بقولي أنه ليس في القنافذ أملس ، فرنسا و أمريكا وجهان لعملة واحدة اسمها الإستعمارالغربي ، كليهما يطمحان لإحداث تبعية لغوية مستدامة في بلدان العالم الثالث عبر الآليات المتاحة لذلك . وفي نفس السياق يفسر ادوارد سعيد ظاهرة الإمبريالية الثقافية بكونها حفاظ على علاقات غير متكافئة بين الشرق و الغرب من الناحية الثقافية و هو الأمر نفسه الذي تعكسه رمزية اللغة الأجنبية في المجتمعات مابعد الكولونيالية حيث أن الذين يتداولونها بغرض التواصل يسعون إلى إظهار نوع من التميز و عدم التكافؤ بين فئات لمجتمع الواحد .

ما مستقبل اللغة الوطنية في ظل هذا السجال ؟

نسمع من حين لآخر بعض الأرقام و المؤشرات الإيجابية حول الوضعية اللغوية للعربية بين لغات العالم كونها تتداول من طرف أكثر من 400 مليون نسمة و احتلالها الرتبة الخامسة عالميا من حيث رقعة تداولها (speaking community ) كل هذا يجعلها مؤهلة لتكون لغة المعرفة و البحث العلمي بل وحتى لغة المستقبل في الرقعة العربية لكنها لازالت تعاني إلى جانب الإستهداف جملة من الإكراهات التي تجعل جاهزيتها غير مكتملة خصوصا في يتعلق بالمصطلح العلمي و إشكالية الترجمة و هنا يصر الخبير اللساني الفاسي الفهري على ضرورة تعريب المصطلح العلمي بل و تعريب مجمل الحياة العامة بمؤسساتها الثقافية ، التربوية ، الإدارية و السياسية بغية تحقيق سيادة لغوية في كافة المجالات ، حيث يعرف الفاسي الفهري السياسة اللغوية الوطنية الرابحة في ميدان التعليم و البحث العلمي بكونها تلك التي تسعى إلى توطين المعرفة . بيد أن خيار ترجمة المراجع العلمية يبدو غير كاف للنهوض باللغة العربية و هنا يبدو جليا لنا مدى أهمية تدريس اللغات وفق مناهج بيداغوجية قائمة بذاتها (و ليس لغات التدريس) من أجل استهلاك / استيعاب المعرفة انطلاقا من منابعها و إعادة انتاج معرفة (Reproduction of knowledge) مصاغة بلغة وطنية تحفظ لها خصوصيتها الثقافية .

أما اولئك الذين يعتقدون و يروجون لفكرة أن اللغة العربية قادرة على الدفاع عن نفسها و لا حاجة لأي حراك ثقافي فيكفي أن يعلموا كيف أن أكاديمية اللغة الفرنسية بإيعاز من المنظمة الفرنكفونية ووزارة الخارجية الفرنسية لا يذخرون جهدا من أجل التمكين للغة الفرنسية حتى تظل منافسا دوليا و تحافظ على مكانتها و تعزز الإستعمار الثقافي الذي يعد أخطر و أفتك. المقاومة في بعدها الثقافي تقتضي ان تتكاثف الجهود بغية إحداث تأهيل لغوي على المدى الطويل من شأنه أن يجعل اللغة العربية من بين أكثر اللغات التي تنشر بها المقالات البحثية في الدوريات و المجلات العلمية الدولية.

اللغة العربية ليست حكرا على الإسلاميين

يؤسس كاتب المقال تصوره على فكرة مفادها على أن المدافعين عن اللغة العربية لهم مآرب أخرى غير ذلك فيحاول الكشف عن تناقضات صارخة في مواقف الإسلاميين من قبيل قبولهم ببروتوكول سيداو فيما مضى و خروجهم الآن عن بكرة أبيهم لنصرة اللغة الوطنية أو دعمهم للتعريب علنا و تدريس أبنائهم في البعثات الفرنسية سرا و غيرها من المعطيات التي قد تكون صحيحة أم العكس لكن الحقيقة أن هذا برمته لا يهم ، فسواء ادافعوا عن اللغة العربية أم لم يدافعوا فالموقف السديد يبقى هو الوقوف إلى جانب اللغة الوطنية في هذه اللحظة الحرجة و عدم التوهم بمقاربات لغوية نفعية غير مجدية نظريا . المسألة اللغوية ليست مرتهنة لما يقوله الإسلاميون أو غيرهم هي قضية ينبغي أن يلتف حولها المغاربة و من غير المنصف اختزالها في مفردات من قبيل : القومية ، الهوياتوية ، العمى الطوعي . نتفق جميعا أنه ينبغي أن نقارب الموضوع وفق مقاربة علمية ، أكاديمية أما الإيديولوجيا فيمكن فقط توظيفها جماهيريا ليس بمنطق إستبلاد الحشود لكن بمنطق انتاج خطاب سياسي يراعي الوجدان الشعبي و في نفس الوقت لا يرتهن للمزايدات الفارغة .

ختاما ، لابد أن نلفت النظر إلى مسألة في غاية الأهمية و هي أن السياسة اللغوية المعتمدة في ميدان التربية و التعليم تظل معقدة و عصية على التطويع نظريا و يبقى الخيار الأمثل هو فتح الباب أمام الإجتهاد الأكاديمي الذي يفترض أن يجد مخرجات تخدم مستقبل التعليم مع ضرورة التقييم المستمر للسياسات اللغوية و مدى نجاعتها بيداغوجيا و أكاديميا أما التسييس و الأدلجة المفرطين فلن نحصد معهما سوى مزيد من الكوارث التربوية التي نحن في غنى عنها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *