وجهة نظر

الرموز التعبيرية في الخطاب التواصلي الافتراضي.. اختصار للكلام أم اغتيال للمعنى

ما الداعي نحو مساءلة الرموز التعبيرية في سجل تواصلاتنا الافتراضية؟ إلى أي حد تستطيع الايقونات التقنية على تحقيق تواصل انساني؟ و هل هي وسائط تختصر الكلام أم تمارسإكراها بنيويا بحيث تعطل التواصل وتغتال المعنى بين الذوات؟ وهل بالفعلنؤسس لثقافة جديدة تنكتب بين آل القارة السابعة أوجدت لنفسها لغة تداولية وإشارية تواصلية تتأسس على التلاعب باللفظ والمعنى، والابحار والايجاز والاستعارة ؟

كتب ذات يوم عَالِم الأنثروبولوجيا الاسكتلندي فيكتور تيرنر Victor Turner أحد رواد التفاعلية الرمزية أن الانسان محاط بغابة من الرموز، فالرمزييشغل حيزا كبيرا في حياتنا اليومية، فهو يحضر باستمرار في كل تفاعلاتنا الاجتماعية، فممارساتنا الطقوسية الواقعية منها والافتراضية متخمة بمنظومات رمزية تتحدد كبنية لإنتاج الاجتماعي، وكآلية لإعادة انتاجه وبناءه من جديد، فهذه القدرة التي يمتلكها الرمزي في تشكيل الاجتماعي تستمد قوتها في الاختلاف الحاصل بين الانسان والحيوان، فكل منهما يمتلك جهاز استقبال وجهاز تأثير، إلا أن الإنسان كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف الألماني ارنست كاسيرر ينفرد بجهاز خاص هو الجهاز الرمزي، وبالتالي تنضاف خاصية الانسان كائن رمزي إلى المقولات الأخرى الانسان كائن راغب، الانسان كائن عاقل، الانسان كائن لغوي، الانسان كائن علائقي…

بناء على ذلك جاءت مساءلة الرموز التعبيرية في القارة الافتراضية بماهي وسائل تواصلية ساهمت في رسم معالم علاقات اجتماعية جديدةتنسج في الزمن الإليكتروني وبماهي أيضا لغة بصرية سهلة تغني عن الكلام المكتوب وتفرض لغة صامتة تشتغل في أداء فعل التواصل بين المواطنين الرقميين عبر مجرة الأنترنيت بتعبير مانويل كستيلز، فالانتقال من اللغة المكتوبة بالكلمات إلى استعمال الوجوه التعبيرية الرمزية المستوحاة من ملامح حياتنا اليومية له ما يبرره واقعيا من خلال الانتفاضة التقنية التي أحدثت ثورة هائلة في مجال التواصل والاتصال.

فمنذ آلاف السنين استعملت الحضارات القديمة (المصرية واليونانية) اللغة الهيروغليفية على اعتبارها لغة مصورة كعلامات في الكتابة، وتعبر هذه الصور عن رسوم أو أجزاء لمخلوقات حية تستخدم للتعبير عما يجول في خاطر الإنسان، وبعد ذلك سادت الحروف الأبجدية للاف السنين، ليعود الإنسان من جديد إلى الكتابة بالصورة في عصر الرسوم التعبيرية “إيموجي” التي أصبحت أبجدية القرن الـ21 في سوشيال ميديا.

يعود ابتكار الايموجي إلى المصمم الياباني “شيجتاكا كوريتا” في عام 1999 حينما قدم هديته الفريدة للعالم في تحويل المعاني العميقة إلى رموز مفعمة بالمعاني والحياة، و لم تكن محاولاته الأولى في خلق لغة مصورة، سوى بداية لعهد جديد من التعبير الرمزي الذي اجتاح العالم في الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، ففي عام 2015 تم الاحتفاء بهذه القفزة الرمزية التواصلية حينما عين قاموس أكسفورد الإنجليزي كلمة إيموجي ككلمة السنة، حيث لاحظ القائمون على هذا القاموس زيادة في استخدام كلمة “إيموجي” خلال عام 2015، وأدركوا تأثير هذه الكلمة على الثقافة الشعبية. كما لاحظ القائمون في تطبيق سوفتكي SwiftKey أن وجه دموع الفرح Face with Tears of Joy هو أكثر إيموجي مستخدم عبر العالم.

“فالإيموجي” emoji أو الوجوه التعبيرية التي تؤثث لوحات المفاتيح في الأجهزة الإلكترونية أحدثت انتقالا كبيرا في اللغة التداولية الافتراضية بين آل “الشات” بما هي رسوم تصويرية صغيرة بمجرد النقر عليها ليتحقق التواصل اللانهائي الرامز الذي يعطيمعنى أقوى للكلام المكتوب ضمن نطاق “الدردشة الإلكترونية”، وكنوع من التوضيح للغة الجسد التي تفتقر لها المحادثة على وسائل التواصل الاجتماعي، فهي تُقدم خيارات متنوعة من مختلف السياقات لما يعتمل فيها من خطابات متعددة تنقل اللغة المكتوبة المشحونة بالمعاني والدلالات إلى لغة بصرية سهلة تغني عن الكلام، أي معناه أن صورة واحدة تساوي ألف كلمة.

فمشاعر الحب والبهجة والامتنان والحزن والغضب وعدم الارتياح والاحباط والجوع والارهاق والحنين والتفاؤل.. تشكل كلها سياقات رمزية لملامح هذه الوجوه التعبيرية في رسائلنا اليومية عبر شبكات التواصل الاجتماعية، إذ لا تكاد تخلوا أي دردشة افتراضية من الاستعانة بالمعجم الايموجي الذي يحضر باستمرار خلال العملية التفاعلية التواصليةمن أجل تقليص منسوب الكلام وتعزيز حضور الجانب الشعوري المصور، أي معناه توظيف هذه الرموز لتنوب عنا فيما ما لا نستطيع التعبير عنه أو حتى تأكيدما نرغب البوح عنه للأخرين كنشاط مسترسل للتعبير عن الذات عبر الحكايات الحميمية والبحث عن علامات التميز فهي أيقونات بسيطة ألهمتها التقنية روحها ومعناها التواصلي واظفت عليها الخيار البديل حين يكون النص الرقمي عاجز عن صناعة المعنى والمبنى والمغزى في الفعل التواصلي.

بحسب تعبير اميل دوركايم فإن الرموز هي ظواهر جمعية، بمعنى أنها سابقة على وجود الأفراد وأنها في متناول الجميع، كما أنها تكون متضمنة في سلوك هؤلاء الأفراد وأفعالهم ، وبالتالي فإن اختيار أي رمز تعبيري معين دون الأخر حسب ما يقتضيه سياق المحادثة الإليكترونية، يكشف الكثير عن شخصية المرسل وانتماءه ونمط تفكيره وانبناءه الثقافي ومكانته الاجتماعية، ففعل الاختيار مرتبط أساسا بدرجة فهم لمحتوى المشاعر والرموز التعبيرية التي تتجاوز حواجز اللغة، أي معناه أنها تفترض تأويلات كثيرة وقراءات متعددة تختلف من كائن اليكتورني إلى أخر، فالرسم التعبيري الذي يكون مقبولا في ثقافة ما، قد لا يجد نفس الرضا والقبول في ثقافة أخرى، على سبيل المثال الايموجي الذي يرمز إلى الحب والمثلية الجنسية أو شارة النصر أو حركة رفع الأصبع الأوسط أو الرمز الذي يحيل إلىقرون الشيطان بحسب تفسير بعض الثقافات، أو الوجه الذي يعبر عن القبلة أو بعض الوجوه التي تحمل ملامح وصور عنيفة، وكذلك الرسوم التي تدل على الانتماء الديني، كلها قد تعطل التواصل و تواجه رفضا قاطعا في مجتمعات دون الأخرى بحكم اختلاف الخصوصيات الثقافية والقدرات الادراكية لاستيعاب وفهم حقيقة الأشياء المرموز إليها، خصوصا في ظل جحيم من التوترات الثقافية والدينية والعرقية التي يشهدها عالم اليوم أكثر من أي وقت مضى.

وبالرغم من أننا نلجأ إلى التواصل من خلال المؤشرات غير الشفوية في سلوكنا لإعطاء معنى لتصرفاتنا أو لتفسير المعاني التي ينطوي عليها سلوك الأخرين تجاهنا، فإن الجانب الأكبر من تفاعلنا إنما يجري من خلال “الكلام” أي التبادل العَرَضي للحديث ، غير أن منسوب هذا الكلام انتقص في العالم الافتراضي، وتم اللجوءإلى لغة تداولية وإشارية تواصلية تتأسس على اغتيال المعنى اللغوي والتلاعب باللفظ، والايجاز والاستعارة فضلا عن الاعتماد على شفرات سرية (مثلا bien، تصيرb1 و ça va، تصبح cv و bonne nuit، تختزل في b8 و الحمد لله تختصر في hmd و حبيبي تُغتال في bb و الحاجة إلى النوم يشار إليها فقط بالايموجي الذي يخرج من فمح حروف zzz، والتعبير عن البهجة يتم وفقط بوجه دموع الفرح…)هذا الانتقاصية التي تنبني عليه اللغة الجديدة في القارة السابعة جعلت من التواصل والحميمية كهدف أثير الذي من أجله انوجدت وسائل الاتصال والاعلام يبدو في الحقيقة مجردا ومنفصلاومعزولا عن أسمى المشاعر والأحاسيس الانسانية الحقيقية.

إن العلاقات الاجتماعية الحقيقية تقوم بالإحساس والادراك الحسي، وتتطلب القرب الجسدي ووقتا لتصبح فعلية، أما في التواصل الافتراضي هي في الواقع عَالم التخفي un monde de la dissimulation، والاستعارة، والصور الرمزية، حيث لا نعرف دائما معرفة اليقين هوية المرسل أو أصالة المحتوى وهذا دليل على أن التبادلات فيها غالبا ما تكون زائفة ومعرضة للزوال تبدأ كما تنتهي بحسب الوجود الدائم من عدمه في مجرة الانترنيت.

فالفعل التواصلي الذي من أجله دشن الفرد الاجتماعي هجرته الأثيرة من الواقعي نحو الافتراضي وقضاءه لساعات طويلة في ممارسة طقس “الشات” لنيل بركة المواطنة الرقمية،أصبح بفعل هذه الأيقونات الصامتة جافا وفارغ المعنى والمبنى، صحيح هي تقوم بنقل موضوع الرسالة بين الجالية المقيمة بالافتراضي، إلا أن هذا الموضوع في كثير من المحادثاتيكون سطحيا ومشوها وغير مستقيم،لا يسمح بانتقاء المعنى والتقاط المضمون والمحتوى، وبالتالي فهي فاتنة بمظهرها التعبيري إلا أنها ضعيفة بأساسها التواصلي الحميمي، بحيث تكرس الهشاشة التواصلية بين الأفراد حينما تفرغ رأسمالهم الثقافي التواصلي وتخلق لديهم رأسمال تواصلي تقني، لكي يشكل لديهم ما يسمى برأسمال ثقافي إلكتروني جديد، يغتال دفء المشاعر الانسانية ويكرس طابع المجهولية التواصليةوالانعزالية الافتراضية بين الذوات، أي معناه نتواصلبدم باردنتراشق من خلاله بالوجوه البكماء والجوفاء وأنصاف الكلمات، لنعترف بذلك علناً بهزيمتنا النكراء في أننا نتواصل لنؤكد بالفعل وبالقوةاللاتواصل بيننا.

إن الرموز التعبيرية كلغة مصورة في الخطاب التواصلي الافتراضي هي في حد ذاتها إيقاف للزمن وحصر للحركة، إنها توثيق للحظة ما، وإعلان لنهاية الكلام وبداية الصمت المطبق، إنها تدبير مختلف للزمن والفضاء، وإعادة ترتيب للوقائع والذكريات، ومع ذلك فما يحيط بكل صورة ملتقطة، هو اللا نهائي من خطاب، إنها ناطقة بكلّ شيء، تقول إن موضوعها هو الأنا، لكن رهانها هو الآخر .

لقد تمت بالفعل ثقافة جديد تنكتب بين سكان القارة السابعة، الذين اخترعوا لغة رقمية خاصة بهم، وتبنون اتفاقات لغوية متبادلة عبر الرسائل الالكترونية والشبكات الاجتماعية أو السوسيورقيمة Socio-numérique التي تغمرها الرموزوالمختصرات المعجمية والأيقونات التي تشكل رصيدا مهما في بناء الهوياتالرقمية التي تحتاج إلى الاثبات والاعتراف بها من طرف الأخرين،وكسبها مزيدا من الرساميل الرمزية في السجل الافتراضي قصد منح المصداقية الأنطولوجية لذواتنا، فالرهان اليوم في طقس الإبحار الإليكتروني هو تأكيد وجود الذات من خلال مدى اتقان اللغة الرمزية المصورة وكيفية تشغيلها في اعلان حضور الأنا أثناء غيابها، وبتعبير أدق فالرموز المصورة التي تؤشر على “التغماز” و” الحشمة” و “الضحكة الصفراء” أو القوة البدنية أو المرض أو تلك الوجوه التي تضعها النساء على الصور من أجل تغطية وجوههن، هي في حد ذاتها اخبار للأخربوجود الذات والحالة التي تتواجد عليها الأنا وكذا الرسالة المشفرة التي ترغب بالبوح عنها حينما تجد حرجا في قول ما يعتمل في أقصى مشاعرها وحميمياتها.

لقد دشن الانسان هجرته من الواقعي إلى الافتراضي وهو يروم الانتفاع من بركة التواصل والاتصال والقدر الكبير من هامش الحرية الذي يمنحه هذا اللجوء الاليكتروني في التعبير والتدوين والتخاطب، من دون أن يدري أنه يعمل على انتاج ثقافة تواصلية جديد تتشكل تحت الرعاية السامية للرموز التعبيرية المصورة والكلمات المختصرة التي تغتال الشعور بالمعنى بين الذوات وتساهم في تعميق الفجوة بين اللغة التواصلية الافتراضية والواقعية ومن تم يضطرب السلوك التواصلي الذي يعمل على خلق جيل جديد ينتصر للانعزال والهروب والانسحاب من الحياة الاجتماعية، بحيث ينبذ كل أشكال التجمع العائلي والدفء الأسريبسبب غياب لغة الحوار مع الأخر الواقعي الذي لا يجيد الخطاب الافتراضي.

صحيح تمة انتقالات لغوية من معجم الدردشة الإليكترونية إلى سجل لغة التخاطب اليومي، فأصبحت تجد لنفسها انتشارا واسعا بين جيل السوشيال ميديا، ساهم بشكل أو بآخر في توسيع مساحات الفهم والاستعاب لهذا الجيل وعسر التواصل معهم في ظل تشبعهم برأسمال تواصلي افتراضي بعيد عن واقعهم الاجتماعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    رائع أستاذي هشام. أتمنى لك التوفيق والنجاح ومزيدا من التألق.