وجهة نظر

“إعدل يا محمد”

وهو يحكي عن البحث الجاد والدؤوب الذي بدله الإنسان منذ الأزل إلى الآن، في سبيل إيجاد صيغة حقيقية لتحقيق عدالة اجتماعية يسكن لها الجميع، أشار ضعيف البصر قوي البصيرة، معجزة الزمان طه حسين، في كتابه”الفتنة الكبرى”إلى واقعة غريبة وقعت في حياة الرسول عليه السلام. واقعة توضح جيدا أن العدالة الاجتماعية، هي ركيزة أساسية من الركائز التي قام عليها الإسلام منذ البداية. فآمن بها أتباع هذا الدين إلى الحد الذي ظنوا فيه أن تحقيقها فرض وواجب، وأنها حق لا يُخشى فيه لومة لائم، مهمن كان اللائم ومهمن كان الملام.

وقد يجد قارئها أول ما يقرأها، خاصة في ظل هذا الأزمنة التي بات فيها الحديث عن تحقيق عدالة اجتماعية من باب المستحيلات، غرابة في الأمر. وليس من المستبعد، أن ينكر هذه الواقعة لذات السبب. أما ما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، بحضور حد معين من التفاؤل، هو القول بوجود قصد في عدم تعميمها حتى لا يعرفها العوام من الناس.

وكما يحكي في ذات الكتاب، وكما هو مروي في كتب السنن والحديث، فلقد كان الأوان أوان حرب، وكان المسلمين فرحين بنصرهم في معركة (حنين). وكما جرت العادة، فبينما كان الرسول الكريم يوزع بعض الغنائم فيما بين أصحابه، فإذا بمخاطب يخاطبه باسمه قائلا له: “اعدل يا محمد”. هنا، حاول الرسول الكريم تجاهل خطاب المخاطب. لكن صاحب الصوت، كرر الطلب مرة ومرة. ولما رأى الرسول عليه السلام، أن هذا الصاحب مُصمم وعازم فيما يقول، علت وجهه حمرة الخجل والاستحياء، فرد عليه بصوت المنبه: “ويحك!! فمن يعدل إذا لم أعدل”.

وكما يبدو إذا، فإن مخاطب الرسول هذا، الذي هو واحد من أصحابه، أنكر على الرسول ما رآه غير عادل منه في أمر واجب فيه تحقق العدل. وكما يشير طه حسين في تعليقه على هذا، فإن الأمر طبيعي مادام أن الدين الإسلامي في حد ذاته، يقوم على هذا المبدأ ويوصي بالنصح به مهمن كان المنصوح. ورغم أن المنتقد- بفتح القاف- لا ينطق عن الهوى إلا أنه جُوبه بالنقد والانتقاد، لكنه لم يفعل مثل ما نرى اليوم من ردود أفعال انتقامية ضد كل مبدئي رأي. التي قد تصل، إلى حد أخذ الأرواح. بل إنه عليه السلام، حرص على سلامة المنتقد ووفر له الحماية اللازمة.

ويضيف في التعليق الذي أشبه ما يكون تبريرا، أن الدين الإسلامي لو لم يأت بمبدأ العدالة الاجتماعية، كمبدأ من مبادئه الأساسية، ولو لم يعتبر المساواة بين الناس جزء لا يتجزأ من صميم التسليم به، لكان اعتناقه والإيمان به، أسهل من شربة ماء لدى من عارضوه. لكنهم، وعلى العكس من ذلك، رأوا فيه تهديدا لمصالحهم، التي كانت تقف قائمة على مآسي المستضعفين من الناس.

والذين تشبعوا بمبادئ الدين الإسلامي، رأوا في العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، أمرا لا محيد عنه مهما كلف الأمر. ومهمن كان المفرّط. وكدليل على ذلك، يضرب مثلا، بهذه الواقعة المذكورة في كتب السنن والأحاديث، المروية برواية صحيحة حسنة، التي كان فيها رسول يوحى إليه هو المنتقد.

فكم هي جميلة إذا، هذه الواقعة. رغم ما قيل فيها وعنها. ورغم أن هناك من أنكرها على فاعلها، تماما كما فعل أصحاب الرسول أنفسهم، الذين حضروها وحاولوا أخذ صاحبها أخذا مبينا. لكن الرسول الكريم منعهم من ذلك، لألا يقال، كما قال هو نفسه، أن محمدا يؤذي أصحابه لمجرد إبداءهم آراءهم.

لذلك، فبدل أن يكون هناك قصد في مداراة هذه الواقعة، ودسها بعيدا عن الأعين والعقول، فإنه وجب تدريسها في الجامعات وفي معاهد الاتصال. وحتى لا يحاكم الناس، فقط لمجرد إبداءهم لآرائهم، فإنه من الواجب نحتها في لوحات نحاسية، وتعليقها في باب المحاكم، وفي مقرات الوزارات .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *