وجهة نظر

عبد النبي الحري يكتب: وفاء لذكرى 20 فبراير المجيدة

جدير بنا ونحن نخلد الذكرى السادسة وفاء لروح حركة 20 فبراير المجيدة، أن نتساءل حول الكيفية التي يستحضر بها السيد بنكيران هذه المناسبة وهو يعيش حالة “البلوكاج” في تشكيل حكومة ولايته الثانية. نطرح هذا السؤال ونحن نعرف أن للرجل مع هذه المحطة الفاصلة في تاريخ النضال الديمقراطي المغربي حكاية طريفة ومثيرة ، خلاصتها أن الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، الذي عارض بقوة حركة 20 فبراير السلمية، المطالبة بالإصلاح والديمقراطية، ومنع قادة حزبه وأطره، وشبيبته من المشاركة فيها، كان هو المستفيد الأول من ثمار نضالاتها وتضحياتها، فقد كان مسلسل “التحكم” في المشهد الحزبي المغربي قد بلغ درجة من السلطوية المستبدة، يعلم الله ماذا كانت تعد للسيد بنكيران وجماعته وحزبه، وكل من يدور في فلكه من هيئات ومنظمات موازية.

هكذا حينما يبحث المرء عن قصة هذه الحركة الشبابية مع السيد عبد الإله بنكيران، “الإسلامي” الوحيد الذي لم تتمكن أمواج الثورة المضادة على الربيع العربي من القذف به بعيدا، خارج أشوار “المشور السعيد”، حيث ما يزال يتربع على كرسيه كرئيس للحكومة المغربية، قريبا جدا من القصر الملكي بعاصمة المملكة، لا يسعه إلا أن يستعيد شريط الأداء السياسي خلال الاستعدادات الأولية لشباب 20 فبراير لإطلاق مسيرتهم المطالبة برحيل ثنائي الفساد والاستبداد.

لقد تميز هذا الأداء، وهو بالمناسبة كان، وما يزال حتى يومنا هذا، أداء خطابيا بامتياز، بثراء ملفت النظير من التصريحات، فقد كان كثير الكلام بمناسبة وبدون مناسبة، يختار له أحيانا جملا مفيدة، وفي أحيان أخرى جملا غير مفيدة، تدخله في معارك جانبية وهامشية يستغلها خصومه السياسيون استغلالا إعلاميا لا يزيد الناس إلا نفورا من السياسية والسياسيين.

والحق يقال أن رئاسته للحكومة لم تنل، حتى الآن، إلا قليلا، من عفويته المعهودة، وسواء كانت هذه “العفوية” عفوية وتلقائية فعلا، أم متعمدة ومقصودة، فإنه وظفها خلال مجريات الحراك الشبابي سنة 2011، كما يوظفها اليوم، كسلاح لاستفزاز خصومه ومناوئيه، ومحاولة حشرهم في زاوية ضيقة، تجعلهم عرضة للتهكم والسخرية. لكن في أحيان عديدة تنقلب هذه “العفوية” وبالا عليه وعلى حزبه، تدخله في معارك تافهة، تتطلبت منه بدل مجهودات كبيرة لمحو آثارها “غير المقصودة” والتي تنزل بالنقاش العمومي إلى درجات دنيا من السخافة والابتذال.

لا يرجع ذلك إلى عيب بنيوي في شخصية الرجل، أو إلى عدم توفره على المؤهلات اللازمة ليتصرف كرجل دولة، وكرئيس حكومة لجميع المغاربة، المساندين لتجربته والمعارضين لها، فهو يفعل ذلك بكفاءة عالية متى أراد. ولكن الإفراط في الشعبوية، يجعل من رجل السياسة “كائنا سياسيا” يمارس السياسة بغرائزه، فيبدو للناس كمن يسير على غير هدى من رؤية استراتيجية واضحة، وفقر في الفكر، وبؤس في الفقه، فضلا عن تهافت فادح في المنهج.

من مظاهر ذلك، تصريحاته المتناقضة والمتضاربة، خلال مجريات الربيع المغربي، والإجراءات الإصلاحية التي اتخذها النظام المغربي لاحتواء احتجاجات شباب 20 فبراير، من خلال إطلاق حوار وطني واسع حول دستور جديد للمملكة، فقد كان يصرح في مناسبة أنه سيصوت ضد وثيقة الدستور، المنتظر عرضها على الاستفتاء، إن لم تتضمن نقلا كاملا لكافة السلطات التنفيذية من الملك إلى رئيس الحكومة، لكنه وأياما قليلة بعد ذلك، انقلب مائة وثمانين درجة على تصريحه الأول، مهددا بالتصويت بـ “لا”، إذا نصت التعديلات الدستورية على نظام الملكية البرلمانية بدعوى أنها ضد “الإمامة العظمى”، من دون أن يتساءل الرجل كيف يمكن لرئيس الحكومة أن يتمتع بصلاحيات تنفيذية كاملة خارج نظام دستوري برلماني؟

نتذكر أيضا ذلك الحوار التلفزيوني العجيب الذي قال فيه لإحدى الصحافيات أن التسمية لا تهمه: ملكية برلمانية، أو ملكية دستورية، أو ملكية ديمقراطية، المهم هو المسمى، أي المضمون الديمقراطي للنظام، ونتذكر أيضا، أنه رمى كل ذلك الكلام وراء ظهره، ملوحا بسيف الإمامة العظمى لقطع دابر كل محاولة خلاقة للائتلاف بين الملكية والديمقراطية.

وإذا لم يكن مستغربا حينها أن يصدر هذا السلوك السياسي عن السيد بنكيران، فإن ما سيدعو للاستغراب الكبير اليوم هو أن يبقي الرجل على قناعاته تلك، بعدما راكمه من خبرة وتجربة في مطبخ السلطة، خاصة وأنه يكابد ما يكابده اليوم مع قادة أحزاب “عتيدة”، صاحبة حنكة كبيرة ودربة فريدة في إفراغ كل شعارات أحزابها السياسية من مضامينها الديمقراطية، ولها صولات وجولات في تفريغ أطروحة الانتقال الديمقراطي، التي ميزت تاريخها النضالي، في أنهار التقرب للسلطة وأودية ثقتها المنشودة، وها هي اليوم تعطي تفسيرا “سلفيا” ومحافظا، وهي الأحزاب التي تسم نفسها بـ “الحداثية” و”التقدمية” للوثيقة الدستورية الجديدة التي بادر النظام المغربي بإقرارها تفاعلا مع حراك شباب 20 فبراير.

إن ما نريد قوله، بالضبط، هو أن لحركة 20 فبراير فضل كبير على السيد بنكيران وحزبه ومن يدور في فلكه، سواء اعترف بذلك أو لم يعترف، وقد كان مخطئا كثيرا حينما ظن أن سقف مطالبها يتجاوز الملكية، علما أنها تمثل نموذجا نضاليا مغربيا في التوازن والاعتدال، يجمع بين ضرورتين لا غنى للمغرب المعاصر عن أي من هما: الملكية والديمقراطية. وبالجمع بينهما بالشكل الملائم يحصل، كما حلم بذلك أفلاطون قديما، التوازن بين مبدأ الحكمة المفترض في النظام الملكي ومبدأ الحرية الذي تقوم عليه الديموقراطية.

من أجل ذلك ندعو السيد بنكيران، ومن ورائه كل الفاعلين السياسيين، في هذه المناسبة المجيدة أن يضرب بحثا في مشارق الأرض ومغاربها حيث سيجد أن الشكل الوحيد للمزاوجة بين الملكية والديمقراطية هو الذي أفرزته أنظمة ملكية برلمانية، تعيش روح عصرها في انسجام تام مع قيمه الإنسانية الكونية وما تفتحه من إمكانات لبروز خصوصيات شعوبها الثقافية والحضارية والدينية، ونموها بشكل عادي وطبيعي، من دون أدنى شعور بالحرج أو التناقض مع هذا العصر وقيمه الكبرى المشتركة.