وجهة نظر

الغنوشي واصطياد العصفور النادر

اذا كان ترشيح الغنوشي للانتخابات البرلمانية لا غبار عليه قانونيا مادامت مواطنته تكفل له ذلك ،فإنه يثير الكثير من النقع الجدالي والتخميني داخل تونس وخارجها حول دلالاته ومراميه على المدى القصير والمتوسط.اذ لا يمكن فصل مبادرة النهضة بتقديم زعيمها للمعترك التشريعي عن ما تتهيأ له تونس أيضا من انتخابات رئاسية.

بهذا الترشيح يصبح الغنوشي على مرمى حجر من رئاسة أحد الحسنيين؛ البرلمان أو الحكومة، وكلاهما يلعب دورا محوريا في المشهد السياسي التونسي، وخصوصا رئاسة الجهاز التنفيذي.فكلنا يتذكر كيف مالت كفة الصراع بين الرئيس السبسي وربيبه يوسف الشاهد لصالح هذا الأخير مما جعل من النظام الدستوري التونسي من حيث ميزان القوى نظاما أقرب إلى البرلمانية منه الى الرئاسية.

راشد الغنوشي الذي ليس بالخب الذي يخدع ، و هو خبير بدهاليز الحكم بتونس،و يعرف من أين يأكل كتف السلطة .ولذلك فعينه من خلال هذا الترشيح على جوهر السلطة ولبها، لا على جلبابها المزركش الذي اتضح انه مليئ بالثقوب الدستورية على عهد السبسي .ولذلك حدد لنفسه كهدف اول اقتحام قصر القصبة ، وفي اسوأ الأحوال رئاسة البرلمان.وكلاهما اذا اضفنا له كاريزما الرجل ورمزيته يمكنه من أن يتحكم في مفاصل السلطة بشكل مباشر أو غير مباشر.

الغنوشي يعي تشرذم العلمانيين و تنازع أقطابهم حول من يمثل منهم البورقيبية، فيستثمر الى الحد الأقصى في هذا التشظي وذهاب الريح الذي يقصم ظهر الحداثيين، ثم هو ينظر حوله فيرى حالة الإسلام السياسي ببلدان الربيع العربي: مرسي الذي قضى أثناء محاكمته ولم يبك علنا عليه المصريون، والسراج المحاصر بطرابلس من طرف قوات حفتر،ويشاهد دوخة اسلاميي المغرب مع تراجع كل مؤشرات التنمية ،و أخيرا غياب الإسلاميين عن صدارة المشهد الثوري في الثورات الغضة بكل من الجزائر و السودان، فيفرك يديه، ويحمد الله على نصيبه من الغنيمة و على الواحة التونسية التي مهدت له مما لم يمهد لباقي إخوانه في العالم العربي.

لكن للغنوشي في هذا الترشيح مآرب أخرى: منها انه يطمئن الغرب الذي آواه زمن المطاردة والتأسيس انه لا ينوي ابدا أن يجلس على عرش السلطة بتونس لا هو ولا أتباعه الذين بطبيعة لا يمكن أن تتجاوز طموحاتهم سقف طموحات المرشد.

بهذه التقية يعتقد الغنوشي انه يسدي جميلين الى التونسيين الأول انه يرسخ استقرار تونس و يبتعد بهم عن سيناريوهات الثورة المضادة التي اثبثت الايام أن لا مندوحة عنها كلما دلف الإسلاميون للسلطة الحقة في بلد عربي. فالمزاج العلماني لتونس مهما تجمل ديمقراطيا وتسامح مع الإسلاميين، لا يمكنه أن يتقبل رئيسا اسلاميا. الغنوشي يلعب على هذا الرهاب الكامن في الدولة العميقة من الإسلاميين .فينضبط تلقائيا لهذه القاعدة المرعية.خصوصا وأن هذا الانضباط ضروري لكي لا تمنع عن تونس المساعدات والقروض القادمة من الغرب و من المؤسسات الدولية التي تصنفها مثالا ناجحا وانموذجا للديمقراطية المطلوبة للعرب .

لكن بعض السنة الخصومة مع الإسلاميين لا ترى كل هذا ،و تلوك كلاما آخر في توصيف هذا الترشيح فيتهمون الاتجاه الإسلامي بتطبيق مخططهم التدريجي في الاستيلاء على السلطة من خلال ما يسمونه التمكين ومنهم من يغالي ليرى فيه محاولة من الغنوشي الذي لم يسبق له الترشح للبرلمان للحصول على الحصانة التي ستعفيه من المشاكل القضائية التي تتهدده بسبب حكاية الذراع العسكري للنهضة.

المؤكد أن الغنوشي يعي حدود اللعب المسموح، لكنه مع ذلك ولدهائه وبراجماتيته، يريد ان يتقاضى ثمنا على ذلك. إنه الان يبحث وينصب الشراك لاصطياد من يسمونه في النهضة بالعصفور النادر اي المرشح العلماني للرئاسة الذي يقبل بيعهم و يترك لهم أكبر نصيب من كعكة السلطة…. .الرئيس الذي يمكن بشكل أو بآخر أن يكون تحت كنف المرشد الغنوشي.تلك امانيه… لكن ثعالب السياسة بتونس يعون بدورهم أن الغنوشي مضطر في كل هذا وانه اذا عرض منصب الرئاسة على اي من العلمانيين فإنه لا يفعل ذلك زهدا في المنصب بل لعدم قدرة على انتزاعه نظرا للسباقات الوطنية والإقليمية والدولية .ولذلك هو يكتفي بالتمكين في انتظار أن تتغير المعطيات و يتحقق الاستئناس بالإسلاميين والقبول بهم ، لقطف الثمرة آنذاك دون تضحيات أو مغامرات جسام.ولربما لن يجد منهم من يقايضه، وحتى اذا وجد سينكثون ذلك بتعديل دستوري يرسي نظاما رئاسيا جديدا وستكون حجتهم في ذلك بعد عهد تونس بنظام بنعلي الرئاسي البغيض. ومع ذلك يبقى الغنوشي أحد عقلاء الإسلاميين بالعالم العربي..هؤلاء العقلاء الذين لا ينبغي إضاعتهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *