مجتمع

“التشابولا”.. مهنة موسمية تنعش جيوب مراكشيين في العيد (صور)

في زمن غابت فيه لذة الأشياء وقيمتها وانجلت عنه أحاسيس الفرح والمتعة، هناك من يعمل على نشر أجواء السرور وتذكيرنا بقيمة المناسبات وجماليتها، يأخذوننا إلى عالم الروح حتى نكون مستعدين لبهجة اليوم المعلوم. 

في عاصمة المرابطين مراكش وعلى رأس كل زقاق من أزقة أحيائها الشعبية المعروفة، تنتصب خيم مربعة الشكل بداخلها شباب في مقتبل العمر، يتهيؤون أكثر من غيرهم لاستقبال عيد الأضحى المبارك، تتناثر حولهم أعلاف الأكباش كأنهم يجلسون في اسطبل بجانب كوخ بدوي قديم.

شباب ينشرون أرضا قضبان حديد وشوايات وأكياس فحم الشواء الأسود، وسكاكين في مختلف المقاييس والاستعمالات، يزينون باب خيمهم بالأواني الطينية المزخرفة بسائل القطران الطبيعي، مرسلين للمارين جوارهم إشارات اقتراب العيد “الكبير”، ليستعدوا لاقتناء لوازمه.

 نشاط المحترف والهاوي

“التشابولا” كما يطلق عليها أهل الحمراء كناية على اسم الخيمة بلهجة مغربية أصيلة، مهنة موسمية تظهر أياما قبل عيد الأضحى المبارك، تطل على شكل خيم مبنية هنا وهناك في كل الأرجاء، مشيدة بأعمدة خشبية منخورة، وتغطي جنباتها كما سقفها بأثواب بالية وأغطية مهترئة مختلفة اللون والشكل، توحي أن وظيفتها لحظية غير مستمرة، يتاجر فيها المحترف والهاوي.

تجدهم شبابا يافعا يستغل الظرفية ليستثمر بعض نقوده في تقسيط الفحم والعلف، بل تجد أطفالا صغار يتاجرون في رزم حبال ربط الأكباش، يتجولون بها الدروب والأزقة مشاركين في خلق أجواء الاحتفال بالعيد “الكبير” رغم عدم احتياجهم للمال أحيانا.

وتجد منهم شيوخ أفنوا أعمارهم في تجارة الفخار ومستلزمات العيد، يخرجون منتوجاتهم خارج أبواب محلاتهم الدائمة، لاستعراض جديد السلع، تجاعيد وجوههم توضح إصرارهم على الحفاظ على هذه التقاليد التي تتميز بها بعض المدن العتيقة المغربية، والتي كاد يقتلها إهمال الناس وميلهم اتجاه الأسواق الكبرى العصرية، كما حدث به الحاج أحمد جريدة “العمق”. 

انتعاش اقتصادي مُقدر

تزداد خيم لوازم العيد انتشارا حتى تأخذ جل بقع الأحياء الشعبية، وتزدهر معها مداخيل مُلاكها كلما اقترب يوم العيد، نشاط كما لا يتطلب عارفا محترفا فلا يحتاج كذلك لرأسمال كبير ولا لوقت طويل، لكنه في المقابل يعود بنفع مهم على صاحبه.

في حديثه لجريدة “العمق”، يقول عادل الذي استبدل حرفته من “جباص” إلى تاجر لوازم العيد وحاجياته: “أنصرف مع اقتراب أيام عيد الأضحى من كل سنة عن حرفتي كجباص لأستبدلها ببيع ما يحتاجه الناس خلال أيام “العواشر” المباركة”.

ويضيف أن مشروعه التجاري الموسمي الذي بدأه بمبلغ ثلاثة آلاف درهم، مكنه من اقتناء العلف والفحم وأواني الفخار والشوايات، سيعود عليه بربح أزيد من ألف وخمس مائة درهم في أفضل الحالات، وهذا ربح لن يصل إليه في حرفته الأولى مقارنة بالجهد والمدة. 

حرف للنسيان

بالموازاة مع أنشطة بيع وشراء مواد العيد الكبير، تظهر حرف يدوية ينتعش أصحابها خلال هذه المناسبة ذات القداسة الدينية عند المغاربة، هي عجلات صخرية تدورها دواسة حديد بأرجل مُسن مقوس الظهر، يشحذ السكاكين حتى تصبح جاهزة لنحر مريح وتقطيع سليم.

العم لحسن في لقائنا به، قال إن الناس أصبحوا يبتعدوا عن سن سكاكينهم بشكل طبيعي على الصخر، وفضلوا أن يقوموا بذلك عند الحداد بآلات حديدية تفسد السكين أكثر مما تصلحهم لأنها تنقص من سمكه الذي يساعد في الذبح الجيد.

وأضاف بلغته المراكشية التي لا تخلو من الضحك والكوميديا، أن غزو سكاكين “ذبح ولوح” الأسواق بأثمنتها البخسة جعلت الناس تفضل اقتنائها عوض شحذها. 

جامعي كساب

كما تخلق هذه المناسبة الدينية للشباب فرصة لشغل أنفسهم عن شر العطالة وتنسيهم هم البطالة، وتجعلهم يستمتعون بمراسيم العيد اللحظية من خلال عمل يكون تأثيره المعنوي على المجتمع في مشاركة أجواء العيد ونشر خبر قدومه أكبر من عائده المادي.

ففي أحد الزوايا صادف جريدة “العمق” شبابا يتربعون خيمة متوسطة الحجم، يظهر على محياهم آثار الحروف والكتب، منافسين رغم قلة حيلتهم التجار الآخرين، هدفهم كما حكى خالد لـ“العمق” الاستمتاع بأجواء قبل العيد ومشاركة فرحته مع جيرانهم وأصدقاء الحي، وتغطية بعض مصاريف الدخول المدرسي.

 وتابع الطالب بالسنة الثانية أدب انجليزي بجامعة القاضي عياض حديثه للجريدة: “إن تجربتي في هذا النشاط الموسمي بدأت منذ أربع سنوات رفقة صديقين لي نتشارك في جمع رأس مال نقصد به أحد الأسواق المجاورة للتبضع بالجملة، لنتقاسم في الأخير أرباح جهدنا”.

 “الضار” النافع

يتناوبون على سيجارة يدوية الصنع والموسيقى الغربية تعلو محيطهم يقطعها أحيانا صوت مقدم برامج الراديو، إنهم أبناء المدينة التي أنجبتهم لم تتكفل بهم وتركتهم عرضة للشارع، اتخذوا من الإدمان عالم “مثاليا” يهربون به من واقعهم.

قد تجد بينهم من ينتقل وظيفيا من مهنة لأخرى حسب كل موسم، ومنهم من يكون رصيف حيّه نقطة وقوفه صباحا حتى تعيده غمضة العين أو صوت الأمعاء إلى المنزل.

في هذه المناسبة يشعرون أنهم فاعلين ونافعين أنفسهم ومحيطهم كما قال لنا “مهدي”، فيها يملؤون بعضا من وقتهم داخل “التشابولا” ينتظرون الزبائن ليأخذوا منهم معروضاتهم بأثمنة في الغالب لا تعرض للتفاوض، لاستحسان الزبون جميل معاملتهم وحسن تصرفهم ورفقهم الذي يصل أحيانا إلى أخذ السلعة لسيارات الزبائن مع كلمات مراكشية أصيلة تترك النفس مبتهجتا بسماعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *