وجهة نظر

التعدد اللغوي واللغة العربية: بين تحجيم مبادئ الحركة الوطنية وتدعيم التعددية والتناوب اللغوي

اللغة في عرف علماء اللغة وفلاسفتها ،هي أساس مهم للحياة الاجتماعية و ضرورة من أهم ضروراتها لأنها أساس لوجود التواصل في هذه الحياة وأساس لتوطيد سبل التعايش فيها ، ويسلم فيبرWeber بان اللغة تسهل التفاهم المتبادل ،ومن تم تسهل تشكيل كل أنماط العلاقات الاجتماعية في أعلى درجاتها ،ولذلك اعتبر اللغة عظيمة الأهمية في تشكيل الجماعات وعظيمة القيمة لأنها الحامل للموروث الثقافي الخاص للجماهير ، وهي التي تجعل التفاهم ممكنا أو أكثر سهولة.

إن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير أو وسيلة للتخاطب فقط إنما هي انعكاس للفكر، وهي في الواقع بنيان فكري متكامل يعكس ثقافة امة ويعبر عن تراث حضاري لها ، والفرد عندما ينشا في مجتمع ما ويتخاطب باللغة الأم فإنما هو يعبر عن ثقافة هذا المجتمع التي تكون اللغة قاعدتها الفكرية ، و حينما تلجا فئة خاصة من هذا المجتمع إلى استعمال اللغات الأجنبية تعبيرا على أن التحديث الاجتماعي لا يكون عمليا من دون التغريب اللغوي ، فان هذا السلوك اللغوي قد يفهم على انه غير سوي لغويا وثقافيا وهو مؤشر من مؤشرات الانفصام اللغوي والتخلف الاجتماعي والثقافي .

والمدرسة على اختلاف مراحلها ومستوياتها كما يقول جون ديوي John Dewey مؤسسة اجتماعية …وهي صورة للحياة الجماعية التي تتركز فيها جميع تلك الوسائط التي تهيئ الطفل للمشاركة في ميراث الجنس أو الأمة ، والى استخدام قواه الخاصة لتحقيق الغايات الاجتماعية ، و من أهم الوسائط التي تعتمد عليها المدرسة في أداء مهامها …اللغة ،حيث أن الناشئ في المدرسة يعيش لغته في مجالها النظري ومجالها التطبيقي ، لكن في وجود لغة أجنبية مزاحمة للغة الأم أو اللغة الرسمية فان الأمر قد يؤدي إلى حصول اضطراب في فهم أو تمثل الخصائص اللغوية للغة الأصل وحتى بالنسبة للغات المتنافسة ، وهذا ما قد يؤدي إلى ما يسمى بالنقل السلبي للعناصر اللغوية .

وفي العقود الأخيرة بدأت طائفة من الأسر المغربية تدفع أبنائها وبناتها للتعلم باللغات الأجنبية إما في مؤسسات تعليمية خاصة بالبعثات الأجنبية آو في مؤسسات تعليمية خاصة مشابهة لها تتبع نفس البرامج الدراسية لتلك المؤسسات الأجنبية (فرنسية خصوصا ) اعتبارا من أن شواهدها ودبلوماتها توفر فرص عمل مغرية ولذا ازدادت الدعوة والدعاية لتعلمها والتشجيع على تغليب الاتجاه إليها ، ويعتقد الكثير من هؤلاء أن التدريس باللغة العربية أو التعريب تسبب في انخفاض المستوى التعليمي منذ أن تم الشروع في تعريب المواد العلمية ، وكان هذا الاهتمام المهووس باللغة الأجنبية مغالطة فكرية و منهجية لان المشكل مطروح حتى بالنسبة للغات الأجنبية الأخرى ، فإذا أخذنا لغات دول راقية أو مصنعة مثل فرنسا أو ألمانيا أو اليابان أو الصين فإننا لا نجد في لغات هذه الدول ما يكفي من المعارف والمهارات وهي تحتاج دائما إلى إيجاد دعم مرجعي للغاتها الوطنية عن طريق الانجليزية (أساسا) وبالتالي فان اللغة العربية ليست وحدها في وضع الضعف المرجعي النسبي ولكن من الخطأ أن نعتقد أن الدعم المرجعي المتوفر عن طريق الفرنسية كاف لبلوغ ما نرومه .

إن ضعف المستوى ليس مشكل لغة تعليم بل ضعف كل ما يحيط بنا حتى إذا وضعنا المشكل في إطار النسبية فليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد أن المتعلم باللغة العربية اقل مستوى من المتعلم باللغة الفرنسية بل إن المتعلم باللغة العربية الذي يعرف الانجليزية غالبا ما يكون في مستوى اعلي من المتعلم باللغة الفرنسية (الأردن – لبنان – العراق – سوريا ….)

ولذا نطرح تساؤلا ت عن الأسباب والمبررات التي دفعت الوزارة الوصية على القطاع ، والمؤسسات الموازية لها إلى الإسراع في إخراج القوانين المؤطرة في تنزيل مشروع التعدد اللغوي أو تنويع لغات التدريس (قصد تحسين التحصيل الدراسي فيها ؟؟؟) :

– ما هو السر في إصرار الجهات الوصية على قطاع التربية والتكوين على الشروع فورا ودون فترة التجريب والتقييم في تطبيق مشروع التعدد اللغوي و ترسيمه في جميع المستويات والمسالك ؟

– هل الأمر يتعلق بمحاولة لإرضاء الفئة المتحكمة سياسيا واقتصاديا والتي تعمل لتفكيك آليات النظام التعليمي العمومي الذي يضايق مدارس البعثات ومؤسسات التعليم النخبوي الخصوصي ؟ أم انه هجمة للتيار الفرانكفوني لقطع الطريق على أي إجراء يعزز مكانة اللغات الوطنية مما قد يؤدي إلى فك الطوق والخروج من جبة الفرانكفوني المهيمن سياسيا واقتصاديا ، ويعمل للاستمرار في ضمان مصالحه عبر التحكم الثقافي واللغوي خصوصا.

– قيل و دفعا لشبهة الهيمنة الفرانكفونية أن المشروع هو مشروع للتعدد اللغوي وليس ازدواجا لغويا ( المسالك الدولية ) حيث أن هذا المشروع اللغوي يتسع ليشمل لغات أخرى غير الفرنسية مثل الانجليزية – الاسبانية – الألمانية وهي لغات يجري اعتمادها كلغات للتدريس وهذا أمر قد لا نجد له نظير إلا في أنظمة تربوية معدودة جدا .

– ماذا أعدت هذه الجهات “التربوية” للرفع من مستوى اللغة العربية في تعليمنا ،وماذا عن تدريس وترسيم اللغة الامازيغية ؟

إن هذا الأمر ليس مجرد إصلاح لغوي – تقني ، أو مجرد إجراءات لتنمية الحصيلة اللغوية أو بسبب ضيق الأفق في المسار المهني لغير المفرنسين والمنجلزين ، ولكنه خطوة عملية لإزاحة التعريب وإماتة اللغة الامازيغية ، حيث كان من المنتظر في القانون الإطار 17/51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي أن يتم تعزيز اللغتين الوطنيتين (العربية و الامازيغية) كما ورد ذلك نصا وإنشاء في وثائق الإصلاح كالميثاق الوطني والرؤية الإستراتيجية .

إن هذا المشروع التربوي “الإصلاحي” إذا كان يرمي حسب المسؤولين إلى تسهيل الاندماج في التعليم العالي ،وتقوية اللغات الأجنبية (الفرنسية – الانجليزية- الاسبانية – الألمانية ) والانفتاح على ثقافاتها وعلومها وتقنياتها ،وتيسير الحياة المهنية للمتخرجين ومسايرتهم لمستجدات الحياة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة.

إلا أن الغاية الأساسية للمشروع اللغوي الجديد ما تزال غير واضحة و تثير الكثير من التساؤلات خاصة ما يتعلق بالتركيز على اللغة الفرنسية وتكريس حضورها في تعليمنا على حساب اللغتين الوطنيتين (العربية و الامازيغية ) فإذا كان قانون الإطار قد أشار إلى صيغة التناوب اللغوي بهدف تنويع لغات التدريس فانه لن يأخذ السبق و الريادة والهيمنة في الفصول الدراسية غير اللغة الفرنسية وتكريس حضورها في تعليمنا على حساب لغاتنا الوطنية .

1- في البدء …… كانت المبادئ

اعتبر التعريب من المبادئ الوطنية الأربعة التي تم الانطلاق منها لبناء المدرسة الوطنية بعد الاستقلال فكان إلى جانب مبادئ: التوحيد و التعميم و المغربة محورا أساسا لأي تصور إصلاحي للتعليم العمومي ولقد كانت تلك المبادئ الأربعة منسجمة إلى ابعد الحدود مع متطلبات تلك المرحلة .

فمنذ 1959 و أمام تحدي بناء الدولة الوطنية ثم الإعلان عن تعزيز استعمال اللغة العربية في المدرسة المغربية ، إذ حاول المخطط الخماسي الأول 60/64 الذي صاغته الحركة الوطنية لبنة أولية لإشكالية تكوين الإنسان المغربي في سياق المرحلة التاريخية التي تفرض الجمع بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الأوروبية التي تتوخى التقدم والحداثة ،وروح العصر.

لقد عرف تعريب المواد الدراسية مراحل مختلفة (نفذ فيها تعريب التدريس كلية أو جزئيا ، و تم في مرحلة أخرى التراجع عنه أو توقيفه عند مرحلة تعليمية معينة بكل الآثار السلبية التي يمكن أن يتركها ذلك على مسارات دراسية للتلاميذ بمجرد معاصرتهم لفترة دون أخرى ، ويمكن تفسير ذلك بارتباط الاختيارات اللغوية بالتحولات السياسية وتأثيرها القوي على مخططات التعليم وعلى هيكلته التنظيمية .. وهكذا تحققت المغربة بشكل مكثف… ولم تواكبها دراسات أكاديمية لاستعمال اللغة في ميادين جديدة ومتطورة مما أدى إلى تحويل تدريس بعض المواد باللغة العربية إلى مجرد ترجمة ، وكان لذلك أثاره على تكوين التلاميذ وخلق صعوبات للتكيف مع شروط التعليم في المراحل الموالية ) – المنتدى الوطني للإصلاح- المكتسبات والأفق : ص 142

الآن وبعد مرور أكثر من ستة عقود على التطبيق الجزئي والعشوائي لهذه المبادئ سيتم التراجع عن هذه الاختيارات الإستراتيجية وسيظهر غياب أسس الهوية والاستقلال الثقافي ، كما ستعرف منظومتنا التعليمية خللا عميقا ولم يعد ملائما لمتطلبات مغرب اليوم ولا للتطورات العميقة التي تعرفها نظم التعليم والتكوين في البلدان المتطورة ، ومن ابرز مظاهر هذا الخلل عدم ملائمة هذا التكوين لسوق الشغل وضعف المردودية الداخلية والخارجية ،ومشكلة مدى تأهيل لغة التدريس كوسيلة تواصل وخطاب وأداة لنقل المعرفة دون إغفال مخطط تعريب المواد العلمية الذي شرع فيه منذ 1978 مما خلق وضعا لغويا ملتبسا ومتداخلا بين المجال المعرفي للمادة الدراسية وبين البعد الثقافي للغة التدريس .

إن الاختيارات اللغوية خلقت صعوبات وأبرزت مشاكل جديدة حدت من ولوج الأغلبية الساحقة للتلاميذ لمدارس و كليات خاصة لكونها تشترط التفوق الدراسي في اللغة الفرنسية ، وهذا ما دفع نخبة القوم يلجئون إلى مدارس البعثات الأجنبية ووضع المنظومة التربوية الوطنية في تحد جديد وخلق مشاكل من نوع جديدة لتلاميذ المدرسة المغربية .

2- مشروع المسالك الدولية …يعاد إحياؤه اليوم ؟

مشروع المسالك الدولية كان قد طرح من طرف وزارة التربية الوطنية في موسم 1996 بإحداث شعبة جديدة تحت اسم (المسالك الدولية ) أو المسالك المزدوجة وهذا المشروع كان يرمي – حسب تبرير الوزارة آنذاك – إلى تسهيل الاندماج في التعليم العالي وتقوية اللغات الأجنبية ، وتتميز هذه الشعبة ببرامج جديدة في اللغة الفرنسية ، بل وحتى في الأدب الفرنسي من مؤلفات وروايات ، إلى جانب حصص إضافية في اللغة الفرنسية ، ويتميز المشروع باعتماده في توصيل الفرنسية عن طريق ما أسمته الوزارة بالمواد الحاملة ، وهي المواد التي سيدرس جزء منها باللغة الفرنسية وجزء باللغة العربية .

كان هذا المشروع قد وضع في إطار التجريب في البداية في ست أكاديميات وفي ست ثانويات بمعدل ثانوية في كل أكاديمية وستة أقسام و في كل مؤسسة قسمان أدبيان وقسمان علميان وقسمان رياضيان بمعدل 30 تلميذا في كل قسم .

وبالنسبة لهيئة التدريس التي ستناط بها هذه المهمة (وهو ما لم تهتم به الوزارة الحالية) فان المشروع أعطى الفرصة للأطر التربوية التي ترى في نفسها القدرة على تدريس المواد المفرنسة يتم إخضاعهم فيما بعد للتكوين داخل أو خارج المغرب .

أما بالنسبة للشعب الدولية المزدوجة في باقي اللغات (الانجليزية – الاسبانية – الألمانية …)فان المشروع قرر الاكتفاء بالمكون الثقافي لتلك اللغات عن طريق اللغة وحدها وليس عن طريق المواد الحاملة.

مشروع المسالك الدولية .. هو … خطة لتعميم التعليم الأجنبي؟؟

لقد كان للسياسة الانفتاحية للحكومة بدءا من سبعينيات القرن الماضي أثرها في ازدياد الإقبال على مدارس البعثات الفرنسية وعلى مؤسساتها الجامعية سعيا وراء وظائف أوجدها نظام الانفتاح الاقتصادي الجديد حتى إن أعدادا كبيرة من أبناء الطبقة المتوسطة سعت إلى تعليم أبنائها بمدارس البعثات وفي المعاهد والمدارس العليا الفرنسية وغيرها داخل الوطن وخارجه مقابل الأداء بالعملة الوطنية والأجنبية وذلك بقصد تحقيق مطامع لهم في مهن جديدة أوجدها النظام الاقتصادي الرأسمالي الجديد وهي تمثل هدفا يحلم به الكثيرون في الوقت الحالي طمعا في مرتبات ومناصب عالية .

إن بعض الشرائح الاجتماعية الجديدة في عهد الانفتاح الاقتصادي لجأت هي أيضا إلى هذا الصنف من المدارس الأجنبية وامتداداتها الجامعية سعيا وراء حراك اجتماعي ومهني لأبنائها، وليس في هذا النوع من التعليم غير التدريس باللغة الأجنبية وإتقان لغاتها مما يزيد الطلب عليه من مؤسسات وشركات وبنوك الانفتاح الاقتصادي إلى حد أن بعض هذه المؤسسات والهيئات تقتصر التعيين على خريجي هذا المعهد أو تلك المدرسة .

لقد عملت الحكومات الفرنسية المتعاقبة ووزاراتها في الخارجية أو الهجرة أو التعاون على إقامة شبكة مهمة من مؤسسات التعليم الفرنسي بالمغرب و تستقبل الآلاف من التلاميذ والتلميذات اغلبهم (هن) وأكثرهم (هن) من المغاربة حتى أن الطلب يفوق المقاعد المتوفرة .

وبسبب هذا الإقبال على هذا الصنف من التعليم ارتأت الدوائر المسؤولة على القطاع إلى محاولة استنساخ هذا النموذج التعليمي حتى يتم الاستجابة لطلبات الراغبين في ولوج هذا النمط من الدراسة باللغة الفرنسية ليتم عندئذ إحداث وخلق شعبة (المسالك الدولية ) لإرضاء هؤلاء وأبنائهم .

إننا بهذا المشروع قدمنا خدمة للتعليم الفرنسي بالمغرب الذي كان سيستقبلهم في مؤسساته ومدارسه وبميزانياته وموارده البشرية ، غير انه لم يقدر على توفير المقاعد الكافية لتلبية طلباتهم ، و هكذا تم خلق هذه المسالك الدولية داخل المؤسسات التعليمية العمومية لفك الأزمة و الضغط على مدارس البعثات ، وبشكل مجاني ، وعلى حساب التعليم العمومي الوطني بل على حساب هويتنا وثقافتنا ولغاتنا .

إن هذا المشروع ” الدولي ” يتعدى المساهمة في تطوير المنظومة التربوية إلى فرض شعبة فرنسية داخل النظام التعليمي المغربي بل هو رافد جديد من روافد تعليم البعثة الفرنسية الذي لم تعد المؤسسات الموجودة بالمغرب تستوعبه ففتحت الوزارة لها أبوابها وأقسامها وأكاديمياتها في حين يتم التضييق على المشاريع التعليمية الوطنية باللغتين الوطنيتين العربية و الامازيغية وبلغات الانفتاح العالمية الأخرى .

إن من شان هذا المشروع ليس فقط تكريس السيادة للغة والثقافة الفرنسية وإنما كذلك تكريس للنخبوية في النظام التعليمي لضمان امتياز تعليم البعثات في حين يكون نصيب أبناء الشعب هو التعليم العادي كما أصبح يسميه المسؤولون بعد اقتراح المشروع الجديد ، أو التعليم المهني الذي لا يجد خريجوه مهنة ، والأخطر هو بسط هذه النخبوية على الصعيد الاجتماعي من خلال العزم على إبقاء اللغة الفرنسية لغة للإدارة والعلم والأعمال والامتياز …والخلاصة أن هذا المشروع .. يكرس التمايز الطبقي .

انظر جريدة العلم العدد 17023 السنة 51- 1996

إننا لسنا في حاجة إلى أن نذكر بان موقع المغرب وانفتاحه يحتمان عليه الانفتاح على الثقافات واللغات العالمية لكن دون المساس بالهوية الوطنية والحضارة المغربية وبلغتيه العربية و الامازيغية .

3- في زمننا الحالي ,,,, لماذا استبعدت مبادئ التأسيس الأولى؟

اليوم يعود نقاش ” التعريب ” والتعدد اللغوي في المنظومة التعليمية إلى سطح الأحداث خصوصا بعد مصادقة البرلمان على القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي ، هذا القانون الإطار جاء لوضع الأهداف الأساسية لسياسة الدولة واختياراتها الإستراتيجية من اجل إصلاح منظومة التربية والتكوين وكذا آليات تحقيق هذه الأهداف لا سيما منها ما يتعلق بمكونات المنظومة ومن جملتها مسالة التناوب اللغوي كمقاربة بيداغوجية وخيار تربوي يستثمر في التعليم المزدوج أو المتعدد اللغات بهدف تنويع لغات التدريس وذلك بتعليم بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد باللغات الأجنبية قصد تحسين التحصيل الدراسي فيها (المادة 2) .

بعد صدور هذا القانون المثير للجدل طفا على سطح الأحداث نقاش حاد حول مال “التعريب” وامتيازات اللغة لفرنسية في منظومتنا التعليمية ، واكتسى جزء من هذا النقاش طابعا ميتافيزيقيا حين تحركت بعض الأصوات من باب العاطفة “القومية” تدعو للتعريب اللغوي دون التعريب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي ، و دعت أصوات أخرى إلى إزاحة التعريب من الفصول الدراسية وتعويضها بلغات أجنبية باسم الحداثة والتقدم ومسايرة العصر .

إن التعريب كان من المبادئ التي تحتل مكانة خاصة في صلب الفكر الوطني المغربي ، ومن تم كان الدفاع عنه بالأمس بخطاب الهوية واليوم يتم التخلي عنه باسم الانفتاح على العصر ، وانطلاقا من هذا التحول رفع شعار منذ بداية التسعينيات وهو ” إدماج التعليم في محيطه الاقتصادي والاجتماعي ” وهو ما اعتبره مناصرو التعريب شعارا مغلوطا ، لان تعليمنا بالأمس كان جزء من المحيط بل هو مندمج فيه ، أما اليوم فان هذا المحيط لا يعرف حاجياته ، لذا انقطعت الصلة بين التعليم والمحيط ومن ذلك انقطاع خطوط التواصل اللغوي الوطني بين المدرسة من جهة وزبنائها ومحيطها (بالمفهوم الاقتصادي) من جهة أخرى.

هؤلاء – مناصرو التعريب – يقولون أن الوطنية بالأمس كانت تعني محاربة الاستعمار بجميع تجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية ، واليوم تعني محاربة آفة التخلف بكل مكوناتها وإقامة تنمية شاملة يساهم فيها كل أبناء الشعب انطلاقا من بعث الحياة في المبادئ الوطنية للسياسة التعليمية وهي التعميم والمجانية والتعريب ضمانا لتكافؤ الفرص وتوصيل المعرفة العلمية إلى الجميع .

إن الدعوة إلى التعريب في هذا المجال له (مغزى سياسي واضح , إنها دعوة إلى الوحدة الوطنية ومحاولة لإيقاف تيار خطير يحول التقسيم الاجتماعي إلى تقسيم لغوي ثقافي , فالتناقض الذي كان موجودا أيام الاستعمار بين الجالية الأجنبية والشعب المستعمر يتحول إلى تناقض بين النخبة الحاكمة ذات النفوذ الاقتصادي وباقي الطبقات المحكومة والمحرومة وفي هذا الوضع ما فيه من تبعية اقتصادية وسياسية للمجتمعات …) عبد الله العروي – ثقافتنا في ضوء التاريخ ص 214

وفي تشخيص لأهم المحددات المفسرة لأهم اختلالات المنظومة قام المجلس الأعلى للتعليم سابقا (المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي حاليا ) بإعداد تقرير عن حالة المنظومة الوطنية للتربية والتكوين وآفاقها (2008) ومن أهم ما ركزت عليه ضرورة التحكم في اللغات (بصيغة الجمع ) حيث يتعين على المنظومة نهج مقاربة جديدة للرفع من كفايات إتقان المتعلمين للغة الوطنية واللغتين الأجنبيتين على الأقل وذلك بتركيز الجهود في إعداد مخطط موجه للتحكم في اللغات الأجنبية

وهي نفس الفكرة الواردة في وثيقة الرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2015/2030 في الرافعة الثالثة عشرة تحت عنوان ( التمكن من اللغات المدرسة وتنويع لغات التدريس) .

اعتبر هذا المجلس أن اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم هي وسائل للتواصل والانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة والانفتاح على مختلف الثقافات وعلى حضارة العصر لذا يتعين تنمية تدريسها وتعلمها في أسلاك التعليم والتكوين ، أما اللغة العربية فاعتبرها اللغة الرسمية للدولة ولغة معتمدة في تدبير الشأن العام ، و الامازيغية ما هي إلا رصيد مشترك لجميع المغاربة يتعين تطوير وضعها في المدرسة (المادة 84)

هكذا يظهر من خلال رؤية المجلس الأعلى أن اللغات الأجنبية هي اللغات التي يجب الاعتداد بها لأنها مفتاح الاندماج والتنمية والمواكبة والانفتاح على العصر. وتدويل الاقتصاد ، وتدويل المعلومة ، وتدويل قنوات الاتصال .. كل ذلك أصبح يفرض علينا الوعي بوجود نظام دولي في كل شيء ، والذي يحرك هذا النظام و يؤطره ويتحكم فيه هي القوى العالمية الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية و الدول الأوربية ، لذا فان إرساء المغرب وانخراطه في النظام الدولي عبر اللغة الفرنسية أو الانجليزية ، والألمانية والاسبانية قد يؤدي إلى نتائج أفضل؟؟؟

يستنتج من ما سبق أن التعصب للتعريب أو التعصب للفرنسة قد دفع بنا إلى تسييس القضية اللغوية ليظهر لنا خطاب المدافع عن اللغة العربية بمظهر الخطاب المحافظ الذي تجاوزته الأحداث في مقابل خطاب عصري يتوق إلى الانفتاح ، وعليه فانه آن الأوان لسن سياسة لغوية متزنة ترسخ الهوية الوطنية والسيادة الوطنية وفي نفس الآن الانخراط ضمن الثورة المعرفية الحديثة ، كيف ذلك ؟ عن طريق سن سياسة لغوية متوازنة ومتزنة .

4- لأجل سياسة لغوية متوازنة ومتزنة

إن التعدد اللغوي محمود من حيث المبدأ ، لأنه كما يراه الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري رأس مال يمكن توظيفه في الاتصال بالثقافات والشعوب الأخرى وان كانت له ضريبة مجتمعية قد تؤدي بنا إلى إشكالات ومتاعب وصعوبات على مستوى المجتمع وسياساته الاجتماعية والثقافية والتربوية .

إن سياسة التعدد أو التنوع اللغوي لدى الفقيه اللغوي السالف الذكر تهدف إلى الاغناء والدفع إلى التعدد الثقافي الباعث على التسامح والمساواة بين الثقافات والشعوب ،والمحافظة على العادات والقيم الايجابية فيها ـ ولذا فان مثل هذا التعدد ينبغي أن لا يكون عائقا في وجه الانسجام الوطني والارتباط باللغات الوطنية أو العودة بها إلى التقهقر والتراجع وتسريب الهيمنة الأجنبية .

السياسة اللغوية المتزنة والمتوازنة في رأي الأستاذ الفاسي الفهري تقوم على مبدأ التعدد والتنوع اللهجي من جهة وعلى مبدأ التعدد اللغوي من جهة ثانية ، والتعدد اللغوي هو الذي يتيح الانفتاح على العالم ويتيح الوصول إلى المرجعيات والمعلومات التي نحتاج إليها والتي لا تمكننا اللغة العربية وحدها من ربط الصلة بها .

كما أن التعدد في نظر هذا المنظر اللغوي هو مشروع طموح وصعب قد يخل بالاندماج الوطني والاستقرار والتناغم المجتمعي إذا لم تكن الشروط البيئية والنفسية والثقافية جاهزة من اجل خدمة الأساس اللغوي الاندماجي .

إن ما يصطلح عليه بالازدواج اللغوي لا أساس له في منظومتنا التعليمية خلافا لما يعتقد الكثيرين من المتتبعين للشأن اللغوي وقد بين الأستاذ الفاسي الفهري هذه المغالطة بعد نفيه وجود ازدواجية لغوية في المغرب حيث أن الازدواج اللغوي الرسمي قائم في كندا وبلجيكا أو سويسرا لأنه يتيح للمواطنين في هذه الأقطار أن يستعملوا لغتين على قدم المساواة للتوظيف في قطاع التعليم والإدارة والاقتصاد والحياة اليومية فتكون الازدواجية (فرنسية- انجليزية) – (فلاما نية –فرنسية) – (فرنسية – ألمانية) ناتجة عن تكافؤ في وظيفية اللغتين وقدرتهما على التعبير في مختلف المجالات .

أما في المغرب فان الازدواج اللغوي غير وارد لان اللغة العربية لم تتح لها فرصة القيام بالأدوار الكبرى التي وكلت وتوكل للغة الفرنسية في الإدارة والاقتصاد والمجالات العلمية الدقيقة .

كما ليس هناك ازدواج لغوي في التعليم ، ففي التعليم الجامعي لا يتعلم المغربي الفيزياء والرياضيات أو المحاسبة أو المالية الخ إلا بالفرنسية كما ليس هناك ازدواج لغوي في الاقتصاد لان مؤسسات المال والبنوك والاقتصاد وشركات الخدمات لا تشتغل أساسا إلا بالفرنسية . ولو كان هناك ازدواج لغوي فعلي لكان خطوة فعالة في اتجاه التعريب .

ومن جهته دافع الأستاذ عبد الله العروي عن الازدواجية اللغوية وتساءل لماذا لا نرحب بحالة مثل حالة الهند التي أحرزت درجة لا باس بها من العلم والتكنولوجيا ؟ وهل هناك مصلحة حقيقية في طرح قضية التعريب سوى تعلق عاطفي بتراث …وسوى مصلحة فئة قليلة من الفقهاء والأدباء والنحاة اللذين لا يتقنون شيئا غير اللسان القديم ؟

وهو الآخر ينكر وجود وضع تعليمي لغوي معرب لان الأمر مبني على مغالطة على افتراض شيء لا وجود له في الواقع ، فالاعتراض سيكون مقبولا لو كان يتنافس بالفعل في مغربنا و ووطننا مشروع التعريب ومشروع مضاد يستهدف تطورا ثقافيا بلسان متطور غير عربي ، وفي البلدان العربية (ليس هناك قرار تعريب جدي ولا قرار مضاد ) – المرجع السابق ص – 217

يستخلص من ما سبق أن قضية اللغة هي في العمق قضية إصلاح متواصل و ليست خاصة باللسان العربي ولا متولدة عن بنية خاصة به … ويكتسي الأمر صفة مشكل حاد عندما تحدث ظروف تمنع من اتخاذ القرارات لتحقيق الإصلاحات اللازمة ومنها انعدام حكم قومي (عبد الله العروي – المرجع السابق – ص 219)

وفي نفس المرجع، وفي جزءه المعنون ب”التعريب ” يسخر مفكرنا من أولئك الذين يرون أن (التعريب هو الحفاظ على صورة العربية كما أنجزها تطور تاريخي معين ) لكن فيما بعد تعرضت للجمود لأسباب سياسية واجتماعية معينة ، وان محافظتنا على العربية بهذه الصورة فإننا لم نفعل سوى المحافظة على أصل المشكل ونؤخر الإصلاح الضروري ، ومن يقول أن اللسان المعرب شكل حتمي تام ونهائي ما كان أن يكون ولا يمكن أن يكون على الصورة التي تحققت بالفعل.. يحكم على نفسه بتركيز الازدواجية التي نراها اليوم على درجتين : تساكن اللسان المعرب واللهجات في الحياة اليومية ومزاحمة لسان أجنبي للسان المعرب في المدارس والجامعات ) ع . العروي – ص 223
يدعونا العروي إلى إدخال الإصلاحات الصرفية والكتابية والنحوية والمعجمية حتى يتحول معها هذا اللسان إلى لسان يختلف عن اللسان الحالي وبهذه الطريقة نقضي على الازدواجية ونبدع وسيلة للتفاهم سهلة وطيعة قادرة على ترويج ثقافة جماهيرية وعصرية أي حاملة في كنهها فكرة الإصلاح الضروري المتواصل.

أما الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري ، فيؤكد في مقاله الذي نشر في بإحدى الجرائد الوطنية – دجنبر 1995 – أن المغرب قادر على مواجهة التحديات اللغوية ،وفي معهد الدراسات والأبحاث للتعريب يشير إلى وجود مشاريع خطط للتدخل وللتطويع من اجل جعل اللغة العربية قادرة على القيام بالوظائف أللسنية والمرجعية وإرسائها في المحيط التكنولوجي ونشرها في الإعلام والاقتصاد والتعليم …وموضعتها ضمن السوق أللسنية المحلية والإقليمية والدولية .

* مدير ثانوية – الدشيرة الجهادية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *