مجتمع

“المكحلة”.. صناعة هاجرت قسرا إلى المدن بحثا عن التسويق (فيديو وصور)

قبيلة أغلب سكانها ينتمون لنفس النسب والسلالة، ويمتلك رجالها وشبابها في أيديهم ذات الحرفة التقليدية التي أخذها الزمن من أعالي الجبال إلى سهول المدن، تراثا ماديا ضاربا في عمق الثقافة المغربية، سواء في ارتباطه بمقاومة الحماية الفرنسية أو الفرجة والفنتازيا.

تلك المنازل المتواجدة في منطقة تيسليت بجماعة تابية بإقليم أزيلال، تفوح منها روائح تراث مادي مليء بحبات البارود، وتتراقص منها شرارات النيران المتطايرة من فحم بين المطرقة والسندان، تتناغم في الهواء مع صدى الحديد الذي يتردد في الأذن كما في الفضاء، ليُخرج لنا مجهود الساكنة لوحة فنية عنوانها بندقية البارود المنقوشة بلون فضي لامع على خشب أسود دامس.

هِجرة مُرغمة

ولأن صعوبة مناخ التجارة بيعا وشراء هنا بتسليت، فقد هجر الحرفيون قبيلتهم باحثين عن سبل العمل بأقل تكلفة وأكثر ربحا، لانعدام المواد الأولية بالمنطقة، إذ أنهم يعانون في رحلات التبضع بحكم الجغرافيا التي جعلتهم بعيدين عن مدينتي الدار البيضاء ومراكش.

يقول أحد أقدم الحرفيين بتسليت، محمد بوغانيم لجريدة “العمق”، إن “ثمن المواد الأساسية التي نحتاج إليها فرضًا تساوي 50 درهما، فإن رحلة الحصول عليها ترفع ثمنها إلى أضعاف السعر أربع مرات بسبب مصاريف التنقل، لذلك قرر العديد منا، الهجرة والإنتشار في العديد من المدن، لسهولة الحصول على مستلزمات الحرفة دون تكلفة مادية مضافة”.

ماذا لَوْ..؟

وأضاف صانع آخر يدعى صالح نمير، أنه “لو توفرت لنا المواد الأولية بالمنطقة، لكان أمرا جميلا من ناحية المردودية التي ستزداد في الإنتاج والتكلفة التي ستقل، كما أن توفرها سيمكننا من كسب الوقت للإبداع أكثر في شكل البنادق، ناهيك عن ما ستعرفه المنطقة من انتعاش اقتصادي”.

فالذين هاجروا من الدوار إلى المدن، يضيف صالح في تصريح لجريدة “العمق”، يخرجون من محلاتهم بأمتار قليلة ويجدون المواد الأولية دون تعب أو مجهود، كما يبيعون منتجاتهم بأثمنة جد محترمة داخل محلاتهم، دون عناء التجول بها في الأسواق والمواسم، وفق تعبيرهم.

استغلال وقِلة حِيلة

“المكحلا” التبوريدة، وسلية قد تؤدي للقتل، لكن اليدين تداعبها كأنها طفل حيث الولادة، بقدر ما تتحفظ عن إذايته، بالقدر الذي تختلط فيك مشاعر الفرح والإعجاب والفضول. يسافر الحرفيين إليها من مدن عدة وبشكل دوري، يقتنوها من عند الصناع بكميات كبيرة، ويعيدون بيعها في الأسواق والمواسم.

يقول صالح، وصوته كله حسرة وألم: “إن الأشخاص الذين يشترونها من عندنا بثمن 500 و600 درهم للحبة الواحدة، يعيدون بيعها بأزيد من 1500 درهم، وبالتالي يكون هامش ربح التجار أكثر مما يربحه الصانع الذي يكد ويجهد من أجل إخراج هذا المنتج الذي تتزين بيه المواسم ويتفاخر به الفرسان فوق خيولهم”.

“تكفيت ونفل”

يقوم صالح كباقي حرفيي صناعة بندقية التبوريدة بـ”تكفيت ونفل” معدن “إينوكس” المعروف بمقاومته للصدأ، بطرق قطعة المعدن على رشمة حديدية تحمل نقوشا متوازية الأركان، وبضربات متتالية بمطرقة ملفوفة بمطاط ليحافظ الشكل الهندسي الذي تتزين به البندقية حلتها في آخر المراحل.

هذه العملية بالذات، هي التي تزيد البندقية جمالا وترفع من قيمتها المالية، يقول المعلم محمد بوغانيم، إن ثمن البندقية يتراوح ما بين 1000 درهم و50 ألف درهم، وذلك حسب المواد المستعملة خاصة تلك المتعلقة بالتزيين، إذ تجد من البنادق من هي مرصصة بقطع الذهب، وأخرى بالفضة أو النحاس أو “الإينوكس”.

من المقاومة إلى الفرجة

ليس تنقيصا منها، بل تذكيرا بالبطولات التي شهدها تاريخ الكفاح الوطني والمقاومة ضد الغزاة والمستعمرين الذين هاجموا المغرب، يقوم الفرسان، حيث حديث مولاي المعطي (70 سنة) مع “العمق”، وهو فارس قبل أن تقعده الكهولة الفراش، بالاحتفال بالخيل والبارود والتغني بعبارات النصر ومواويل وصيحات الإفتخار، “الهدف منها تذكر البطولات والأمجاد التي عشناها رفقة أجدادنا خلال محاربة العدو”.

لقد كان السلاح رمزا للقوة حينها، وفق كلام مولاي المعطي، إذ لا تخلوا كل المنازل من وجود بندقية بارود “بلدية” (أي محلية الصنع)، وكانت النساء تعرف استخدامها، لحماية أنفسهن عند غياب الزوج أو الأبناء، بحكم الأوضاع التي كانت متوثرة آن ذاك، وبسبب الغرباء الذين يقتحمون المنازل ويروعون الأهالي.

ويستطرد المعطي كلامه وابتسامة رسمت على وجهه: “عكس ما يقع في هذا الزمن تماما، فمنزلي اليوم يبقى مفتوحا ليل نهار، وإذا جاء غريب ما، لا يغدوا يكون قطة شمت رائحة أكل أو فأر يترنح بين الأثاث”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *