وجهة نظر

بين الشغب و الجنوح… ضرورة كسر دائرة الاحتقان

شهدت نهاية الأسبوع الماضي حالات اعتداء جديدة على رجال أمن أثناء تأديتهم لمهامهم. الأولى، عقب انتهاء لقاء الديربي البيضاوي، و الثانية، شهدتها مدينة مغربية عبر اعتداء بالسلاح الأبيض من طرف شاب جانح.

و لأننا في زمن التواصل الرقمي، طافت صور الحادثتين وضحاياهما، ليتعرف على القصة كل من كان في يده هاتف نقال. وإذا كان طبيعيا أن نتأسف و نستنكر بشدة ما تعرض له رجال الأمن، خصوصا في حالة الاعتداء من طرف الشاب الجانح، فإن الأسف يتزايد أمام ما أحدثته في أنفس الناس، مرة أخرى، هذه الحوادث من تعزيز لثلاثة خلاصات : أولها، تأكد استمرار نزوع بعض الشباب للشغب بالملاعب الرياضية كتعبير احتجاجي تعمقه حالة التيه وغياب الأفق الذي يشعرون به؛ ثانيها، تزايد الإحساس بالخوف ونقص الأمن العمومي، رغم المجهودات الكبيرة المبذولة للحد من الإجرام؛ و ثالثها، انتقاص، بشكل تسفيهي مستفز و غير مقبول، من رجل أمن لم “يستطع حماية نفسه، فكيف به يستطيع حماية المواطنين؟”.

بالإضافة إلى كونها غير منصفة، هذه “الخلاصات” لا تضيف للتحليل أي شيء ذو قيمة، بل تساهم، فقط، في زيادة إرباك وضع مبني على تمثل مجتمعي، هو في الأصل مرتبك جدا. لذلك، على العقلاء أن يتجاوزوا وضعية نقل الخبر و إبداء الأسف بشأنه، و التضامن الواجب و المشروع مع رجال الأمن و التنديد بما أصابهم من أذى، إلى وضعية الصدع بالحقيقة كما يجب أن تقال ولو كانت قاسية، لأنها هي المدخل لفهم ما جرى و كيف يمكن أن لا يتكرر.

و الحقيقة، من وجهة نظري، كما كتبتها مرات و مرات هي أن : الوضع الاجتماعي، في شقه المرتبط بواقع تهميش الشباب، مقلق للغاية، حيث أن جيوبا حضرية وقروية عديدة تعيش احتقانا خطيرا من جراء تكالب ثلاثي “البطالة والفقر والمخدرات” على واقع الشباب، بشكل خرج عن سيطرة الأسر، و قهر قدراتها على تأطير أبناءها، خصوصا مع ضعف الآليات المؤسساتية للمواكبة التربوية والتثقيفية والنفسية. و عليه، من الخطأ استمرار التعاطي بأساليب تدبير عمومي وكأننا أمام وضع عادي.

ومهما حاول البعض إظهار الأمور على غير حقيقتها، و تغليب الحديث عن “الإنجازات”، و عدم الاعتراف بخطورة النزيف الاجتماعي القائم، و عدم الإقرار بأنه أصبح عميقا و هيكليا و معقدا لدرجة تستوجب معالجة استثنائية، فإن ذلك لا يلغي تجليات الواقع الذي يعرفه الناس، و يعايشونه يوميا و يشهدون على بؤسه.

كيف لا، و يكفي أن نذكر أنه، في الفترة من صيف سنة 2018 إلى صيف سنة 2019، بناء على معطيات رسمية، فقد الاقتصاد الوطني أزيد من 200.000 ألف منصب شغل، و استمرت بطالة الخريجين مرتفعة، و ظل الاستثمار الخاص الداخلي و الخارجي ضعيفا، و أغلقت ألاف المقاولات الصغيرة والمتوسطة أبوابها، و ارتفعت أصوات عديدة ن المجتمع المدني تثير الانتباه لشيوع تعاطي المخدرات في أحياء و مؤسسات تربوية عديدة …إلخ، و كل ذلك زاد من الضغط و الاحتقان المجتمعي.

وبالتالي، بكل واقعية و اعتدال، الأمر يستدعي مقاربة شمولية للسلطات العمومية من أجل تحقيق الإدماج الاجتماعي و الاقتصادي والثقافي و النفسي للشباب العاطل، ومحاصرة آفة المخدرات بكل شدة و صرامة، وتوفير مواكبة لضحاياها بغرض إخراجهم مما هم فيه. و لا يجب أن يستمر الوضع بدون بذل جهود مشتركة لمحاصرة بؤر العجز، و بدون مضاعفة الإمكانات المادية واللوجيستيكية و البشرية المرصودة للأجهزة المختصة بكل أنواعها.

و لعل المدخل إلى هذه المقاربة الشمولية المرجوة هو تجديد وعي البعض بالمهام الحقيقية لأجهزة الأمن، كما حددتها القوانين، لفهم أنه ليس من بينها الاشتغال على التنمية الاجتماعية، وعلى التنشيط الثقافي والفني في الأحياء الفقيرة والمجالات العمرانية الهامشية والمكتظة بالسكان. كما ليس من مهام الأجهزة الأمنية دعم الأنشطة الرياضية والثقافية، و لا تمويل المشاريع المدرة للدخل، و لا توفير ملاعب القرب أو تجهيز الثانويات بفضاءات للاستماع والإنصات والمواكبة للشباب والشابات المتمدرسين الذي يعانون صعوبات اجتماعية ونفسية، و لا تنظيم حملات طبية في الأحياء الفقيرة، و لا تنظيم أنشطة ترفيهية للأمهات … إلخ. كما ليس من أدوار أجهزة الأمن توفير الرعاية الطبية والنفسية لضحايا المخدرات، و إنما عليها، فقط، مسؤولية محاربة شبكات الاتجار في المخدرات و الاتجار في البشر، و في ذلك يمكن تتبع عملها و تقييمه.

و من منطلقات المقاربة الشمولية المرجوة، أيضا، الوعي بأنه طالما استمرت القطاعات العمومية المختصة، التي من المفروض أن من مهامها تأطير مثل تلك البرامج و الأنشطة، غير قادرة على الإحاطة بالمجالات الجغرافية المحتاجة لتدخلاتها، و غير قادرة على بلورة أشكال جديدة من الخدمات، و غير عارفة بإحصائيات و احتياجات من يسكن في تلك المجالات من المواطنين المستحقين لتلك الخدمات، سيظل رجال الأمن مضطرين لتدبير مواقف خطيرة، دون أن تكون تلك المواقف الخطيرة بالضرورة حتمية الحدوث لو تمت معالجة الظواهر الاجتماعية المستشرية قبل أن تتفجر إلى حالات عنف واعتداء، يطال أحيانا الأقارب و المواطنين العاديين، كما يحدث أن تطال رجال الأمن كذلك.

بالتأكيد لو قام كل قطاع عمومي مختص بكامل مسؤولياته، بحكامة جيدة، و بخدمات و حلول فيها ابتكار و تجديد، و تم اعتماد أساليب عمل ناجعة، بتدبير راشد و شفاف لموارد المال العام، و تم إبعاد مسؤولين تبث تقصيرهم أو فساد تسييرهم، لحلت مشاكل عديدة ولتحققت طمأنينة يحتاجها المواطنون العاديون، كما يحتاجها المستثمر الوطني والمستثمر الأجنبي، و يحتاجها السائح لكي يزور بلدنا، ويحتاجها كل من يحب أن يحيا فوق هذه الأرض بأمن وأمان، في ظل اقتصاد يتحرك بثقة، و في جو من الثقة.

لذلك، عوض الاعتقاد أن محاربة التسفيه ممكنة، فقط، بأن نقول “أخرجنا قانون كذا … و تحسن مؤشر كذا …”، ينبغي العودة إلى منطق عقلاني، يعترف أن كم مشاكل التهميش الاجتماعي المتراكمة كبير جدا، و نحتاج لمواجهتها إلى مخطط استعجالي للإنعاش الاجتماعي و الاقتصادي، بإمكانات كبيرة.

ولزرع الثقة و إبعاد هذا المخطط عن أي توظيف سياسوي، أو جعله مناسبة لتصفية حسابات ضيقة لا تنفع الوطن في شيء، يجب أن يقر جميع الفاعلين بأن التهميش الاجتماعي أصبح هيكليا، و أنه إرث ثقيل لا يمكن أن نحمل الفاعلين الحكوميين الحاليين، وحدهم، كامل المسؤولية عنه، إلا ما كان من أثر اجتماعي سيء لبعض الاختيارات الاقتصادية التي تمت في “زمانهم”، وهم من عليهم المسؤولية في ذلك. و الواجب المقبول هو أن نشدد على ثقل المسؤولية السياسية للقائمين على الأمور في هذه المرحلة، و أن عليهم أن يبادروا لإصلاح أوضاع التهميش الاجتماعي والاقتصادي بشجاعة أكبر، و بسرعة أقوى، وبحزم أشد. و لا حرج في تيسير هذا المجهود و دعمه، من طرف كل الفرقاء، على أساس احترام منطق الثقة الذي يجب أن يضبط التحرك، لما في ذلك من مصلحة وطنية أكيدة.

أما إذا استمر التعاطى مع وضعية شغب الشباب في الملاعب، و مع جنوحهم تحت تأثير المخدرات، بمقاربة يغلب عليها التحليل السطحي، و لم تقترب القطاعات الحكومية المختصة من عمق المشاكل و أسبابها، و لا شرعت في وضع آليات مؤسساتية للتدخل في الأحياء الفقيرة و المكتظة، بمقاربة مجالية رصينة، و بأدوات المواكبة الاجتماعية الضرورية، فإن علينا أن نعي أننا، من جهة، سنظلم رجالا مهمتهم الأساسية هي الأمن العمومي و محاربة الجريمة، بأن نضعهم، كل مرة، في “فم المدفع” للتغطية على عجز قطاعات أخرى؛ و من جهة ثانية، علينا توقع أن وضع التهميش و الفقر الذي يعاني منه الشباب سيستمر و يتفاقم، و سيزداد التسفيه، و لا شك ستتقوى العدمية بشكل أكبر.

بدون نية المزايدة و لا رغبة في إحراج أي كان، يبدو لي أن الصورة واضحة لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد : لقد تجاوزنا ما تنبأ به السوسيولوجي محمد جسوس، رحمه الله، في التسعينات، و نحن الآن بصدد إنتاج نماذج جيل من “المواطنين” أصبحوا، بفعل غياب التكوين و التأطير و المواكبة، و بفعل طول الانتظار و ألمه، و بفعل اليأس من السياسات العمومية التي لا تجلب لهم نفعا، لا يشبهون في شيء من سبقهم من جيل، لا على مستوى العلاقة بغيرهم من المواطنين، و لا على مستوى الموقف من الوطن ومن مؤسساته، ولا على مستوى الموقف من القانون و من القيم الإنسانية و من الهوية الثقافية والوطنية.

و على من هو غير قادر على فهم “الحكاية”، أو يصر على عدم الفهم، أن يحجز تذكرة في أي ملعب من ملاعب كرة قدم الوطنية، فربما يتيسر له بالسمع، ما لم تمكنه رؤية الواقع من استيعابه والتنذر من خطورته على جميع الفئات، و على الوطن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *