وجهة نظر

وقفة إجلال للغة العربية في يومها العالمي

في يومها العالمي، الذي يصادف الثامن عشر من شهر دجنبر، تستحق منا اللغة العربية وقفة إجلال و تقدير، يمتزج فيها احترام شديد لهذا التراث الإنساني الرائع، بكثير من الافتخار بأننا نتحدث و نكتب و نقرأ بهذه اللغة البليغة و الجميلة.

بشهادة كل العلماء الأكاديميين و المتخصصين في اللسانيات و اللغات، تعتبر اللغة العربية من أكثر اللغات قوة و عمقا بيانيا. كلماتها وقواعدها، صرفها و نحوها و شكلها، تتيح اشتقاقات لا تتيحها غيرها من اللغات. وللتدليل على ذلك، لنتأمل فقط عدد كلماتها الذي يضاعف أضعافا مضاعفة الكلمات الموجودة في الفرنسية و الإنجليزية، و لنستحضر بلاغة كل ما كتب بهذه اللغة خلال قرون. فحسب جامعة أوكسفورد البريطانية (لاحظوا معي، نحن لا نتحدث عن شاهد من أهلها!!!) اللغة العربية تتوفر على أزيد من 12.300.000 كلمة، بفارق هائل عن غيرها من اللغات.

و أمام هذه الحقيقة الراسخة، من المؤسف جدا أننا عوض أن نتعاطى مع موضوع اللغة العربية بما يستحقه من عناية وتقدير موضوعي، و الابتعاد عن التموقف منها من منطلقات إيديولوجية صرفة، أو في سياق تصريف مواقف سياسية معينة، لا زلنا نسمع بين حين و آخر، من يخرج علينا، للترويج لأطروحات غير متينة من الناحية العلمية، تحاول وسم اللغة العربية بأنها “لغة متجاوزة”، و أنها لم تعد صالحة لتكون لغة العصر. والحقيقة، بكل تأكيد، هي أن اللغة العربية ليست لغة ضعيفة بتاتا، بل الضعف هو في الشعوب الناطقة بها، و هو ضعف مرتبط بالمجتمعات العربية و بواقع تخلفها العلمي وتنميتها المتردية، وعجزها عن الرقي علميا و حضاريا، و ليس الضعف أبدا بمرتبط بضعف بنيوي مفترض في اللغة.

مشكل اللغة العربية هو تخلف أهلها، و تأثرها بكون كل البلدان الناطقة بالعربية لم تبلغ خلال القرن الماضي درجات متقدمة في مجال البحث العلمي و التكنولوجي. و بالتالي، لم يتم العمل على تشجيع الترجمة، ولا تم إبراز اللغة بكل مكنوناتها، و تمكين كلماتها من أن تظهر بالشكل الذي يجعلها تبين قدرتها على مواكبة مستجدات البحث العلمي. كما لم يتم أي تجديد في اتجاه استيعاب التقدم المعرفي العالمي بالقدر الكافي.

و الغريب هو أنه بينما تحضى اللغة العربية باهتمام كبير في كبريات جامعات العالم، باعتبارها تراثا إنسانيا و حضاريا لا يمكن التفريط فيه، نرى كيف أن المقررات التعليمية، خلال السنوات الأخيرة، عرفت تقزيما للغة العربية، و تهميشا لعدة كنوز لغوية و أدبية، بدون أن يكون لذلك أي داعي موضوعي، و لا تم بالمقابل السعي لرفع منسوب مواد أخرى تحقق مهارات علمية و معرفية للطلبة و التلاميذ.

ومن المخجل حقا، في هذا الصدد، أنك إذا ذهبت إلى الثانويات، وحتى إلى عدد من الجامعات، ستجد بصعوبة شديدة من يمكنه من بين شبابنا أن يخبرك ولو ببيت واحد من أبيات شعر زهير بن أبي سلمى، أو أبو العلاء المعري، أو عنترة بن شداد، أو الفرزدق، أو جرير، أو حتى من الشعراء المعاصرين كإيليا أبو ماضي، و جبران خليل جبران، و أحمد شوقي، ومحمد مهدي الجواهري، و غيرهم. لن تجد من يعرف شعرهم و لا من يعرف شخصياتهم و سيرهم. و لن تجد من يمكنه أن يرتب لك الشعر الجاهلي و رموزه، و شعر العهد النبوي و رجالاته، و شعر المرحلة الأموية أو العباسية و فطاحلته.

كما أنه من شبه المستحيلات أن تجد من يعرف المعاني التي قصدها المتنبي، بأشعاره العربية الفصيحة و هو يهجو كافور الإخشيدي أو وهو يمدح نفسه. و لا تتعبوا أنفسكم بالبحث لدى شبابنا عن معاني بيت شعر أبو الطيب المتنبي و هو يقول لسيف الدولة الحمداني :
عِشِ ابْقَ اسْمُ سُدْ جُدْ قُدْ مُرِ انْهَ اثرُ فُهْ تُسَلْ …..غِظِ ارْمِ صِبِ احْمِ اغْزُ اسْبِ رُعْ زَعْ دِلِ اثنِ نَلْ.

و إذا كان هذا مآل الشعر العربي في مدارسنا، فلم يسلم الأدب و لا سلمت الرواية من هذا التهميش المقصود بغباء. و اسألوا حولكم ممن تجدون من الشباب الذين لم يتجاوزوا الخامسة والعشرين، لتتبينوا أن عددا قليلا فقط يعرفون روايات طه حسين، و مصطفى العقاد، ونجيب محفوظ، و مؤلفات المختار السوسي، و عبد الله كنون وغيرهم كثير كثير.

هذه المصيبة الثقافية كانت ستهون لو أن أصحاب هذه “الاجتهادات التدبيرية” التي همشت اللغة العربية و أبعدتها، قد عوضوا شبابنا بأدب عالمي رفيع نافع، و علموهم لغات عالمية أخرى بشكل حقيقي و متين، و دفعوهم ليغوصوا في روايات ليون تولستوي، و دوستويفسكي، وفلوبير، و فيكتور هوجو، و شارل ديكنس، وألبير كاموس، و كي دوموباسان، وشكسبير و غيرهم كثير و كثير من المبدعين و الكتاب العالميين.

و نحن نفكر حاليا في مساراتنا التنموية الوطنية المستقبلية، يلزمنا أن نستوعب أن الأمر جلل، و أن على السلطات العمومية، وعلى كل المثقفين بوطننا، بذل مجهود كبير جدا لتدارك الخراب المعرفي الذي حل بجيل بكامله، بسبب جهل بعض “النخب” باللغة العربية و عجزهم عن تذوق جماليتها، و بالتالي تحاملهم على “ما يجهلون”. و أفضل البدايات في هذا المسعى هي الاعتناء باللغة العربية حقا، و تطوير اللغة الأمازيغية المغربية بالموازاة، باعتبارهما اللغتين الرسميتين الوطنيتين ببلادنا، لأن التنمية لا يمكن أن تتحقق بدون رافعة ثقافية تكرس الانتماء للهوية الوطنية و للأرض و المجال والتراب.

كما يجب أن نقوي تملك أطفالنا و شبابنا للغات العالمية الإنجليزية و الإسبانية والفرنسية. و كذا اللغة الصينية القادمة بقوة في المستقبل، و اللغة الروسية. و عوض إضاعة مزيد من الوقت، لا شيء يضير حاليا في أن نوازي، بمهنية و حرص و احترافية، بين مسعى تعليم بعض العلوم والتكنولوجيا بلغات أجنبية، و بين مجهود تقوية وتفعيل رصيد اللغة العربية لتستوعب مستجدات علمية وبعض المفاهيم المحدثة التي ليست من بيئة اللغة العربية ويجب بالضرورة “تبييئها”.

في رأيي، أن علينا أن لا نسمح بتسييس و أدلجة موضوع اللغة، بل يجب جعله مجالا لنقاش علمي عالم و أكاديمي رصين بين ذووي الاختصاص. أما من يعتقد بجدوى ترك أمر اللغة العربية و اللغة الأمازيغية، رهين حسابات سياسوية، و السماح لمن لا يضبط من أصول اللغات الوطنية إلا القليل، و لا يدرك متونها و بيانها، فهذا لن يكون سوى استدامة لظلم شديد للغة عظيمة، و تقليص لحظوظ لغة وطنية في النمو، وتسفيها لهوية الأمة المغربية و لحظوظ الوطن في التنمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *