وجهة نظر

جدلية الأنا والآخر، وثقافة رفض المغاير الديني إلى أين ؟

يعتبر موضوع الأنا والآخر ( النحن- والهُمْ ) من التيمات الإشكالية الحارقة القديمة – الجديدة التي حاول مقاربتها وتفكيكها غير ما واحد من الفلاسفة والأنتروبولوجيين وخبراء علم الاجتماع، وكثيرة هي الأطاريح الجامعية التي طَرَقَت هذا الموضوع، ولا يزال هذا الأخير من الإشكالياتِ القاعديةِ الساخنةِ المُربكةِ التي تحتاج إلى المزيد من الحفر لما يكتسيه من راهنية وخطورة في آن، ولاسيما حينما يتعلق الأمر بالنظرةِ العدائيةِ والاصطداميةِ مع هذا الآخرِ المختلف – الديني وخطورة الموقف حينما تتحول هذه النظرة الاصطدامية إلى سلوك فيزيائي عدائي وحشي (حادثة ذبح السائحتين في المغرب تمثيلا لا حصرا)، ثم لارتباطه الجدلي بمدخل القيم، ولا أحد يجادل اليوم أن النسق القيمي عندنا شابه الكثير من الاضطراب والافلاس والانحباس، لقد اهتزت منظومتنا الأخلاقية والقيمية اهتزازا عنيفا وباتت على المحكّ، ولم تكن الدعوة إلى مراجعة المواد الدينية في مناهجنا التعليمية من نافلة القول لدق ناقوس الخطر، وتصحيح المسار قبل وقوع الكارثة جراء هذه التحولات والانقلابات الجذرية التي تمس أطرنا الرمزية ووعينا الاجتماعي نحو السلب للأسف ..

الآخر فلسفيا واجتماعيا نقصد به ذلك الآخر المغاير المنماز عن ذواتنا وإنيتنا، إنه أنا آخر الذي ليس أنا، والآخر انطولوجيا يبقى حاجة وضرورة ليؤنسنا في وحشة هذا الوجود، ووحده الحيوان كما يقول المعلم الأول أرسطو أو الإله يستطيع أن يعيش بمعزل عن الآخرين، فالذي يستطيع أن يحيا بمعزل عن الآخرين لا يعدو أن يكون أحد اثنين، فإما كائن فوق مستوى البشر، وإما كائن تحت مستوى البشر، هذا الآخر الذي يختلف عني هوية ولغة وثقافة يسكن معنا أيضا في نفس الثقافة، قريبا منا وفينا وإلينا، ويمكن أن نمثل هنا بالمذاهب والتيارات الفقهية الموجودة المتعددة من داخل نفس الثقافة والمرجعية الاسلامية، فالشيعي مثلا لا يمكن أن يمثل إلا آخر – مختلف من داخل نفس الديانة للسني والكل يعلم مدى الاستعداء الموجود بين هتين المدرستين وكيف يلغي الواحد منهم الآخر لدرجة استباحة الدم وهدره وتكفيره كما نسمع في مجموعة من الفتاوي الحمراء المصادمة للعقل. فالآخر معنا في بيتنا الداخلي قبل أن ننتقل للآخر الحضاري المنماز في الدين ..

إن الآخر يسكننا دوما على نحو غريب كما تقول الفيلسوفة كريستيفا، اجتماعيا قد يشاء أن يختار نمطا آخر من العيش، ليس بالضرورة أن يكون هذا الاختيار موافقا ومطابقا ومنسجما مع اختيارات الجماعة، ومن حقه أن يختار ويحيا كذلك ووفق ما تمليه عليه قناعاته التي أسس عليها اختياراته الوجودية، وما دامت اختياراته لا تضر الآخرين وتوجهاتهم في شيء، ولا تلحق بهم آذى مباشرا فمن حقه أن يحيا كذلك، وعلينا أن نحترمه، هذا في المجتمعات التي تراعي ثقافة الاختلاف وتقبل التعدد وتسمع للفرد أن يختار ويكون ما يريد، فالتسامح بصورة أعم هو “أن ننسجم من داخل الاختلاف” كما يقول عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة. أي أن نتعدد في إطار الوحدة وننسجم في إطار الاختلاف.

الذي يهمني في هذه الورقة هو الآخر الديني الحضاري المغاير في الدين المخالف في العقيدة والملة، كيف كنا ننظر إليه؟ كيف عاملناه تاريخيا في مجتمعاتنا ؟ وكيف نتمثله الآن في تصوراتنا الاجتماعية وأطرنا وبنياتنا الذهنية ؟ وكيف نصرف التمثل القيمي حوله لتلامذتنا راهنيا في مدارسنا التي أردناها حديثة وعصرية تؤسس لثقافة التسامح ؟ ما حظ ثقافة الاختلاف في مناهجنا التعليمية والتربوية ؟ وهل فعلا نصوصنا التعليمية تسعف حقا وحقيقة في خدمة الكفايات الاستراتيجية المتمثلة في التموقع من الآخر وتربيته على ثقافة الاختلاف والتسامح كما تنص على ذلك فلسفة التربية في مراميها وأهدافها المعلنة عندنا عل الأقل ؟

يكفي أن تجري بحثا بسيطا، أو توزع بعض الاستمارات على عينة سوسيولوجية وتسألهم بحياد هذا السؤال: ما الذي يمثل لكم الآخر المختلف الديني؟، أو يكفي أن تلقي نظرة هذه الأيام حول منصات التواصل الاجتماعي بخصوص تهنئة “الكفار” بأعيادهم ومشاركتهم احتفالاتهم، لتتكشّف عن الكراهية التي يزداد منسوبها بشكل مخيف لتقف على حجم المأساة وكمية الرفض.

إن حسّنا الاجتماعي المشترك مشبع حدّ التخمة بثقافة الرفض والعداء والاستعداء والنظرة القورسطوية الاصطدامية للآخر المختلف الديني على وجه الخصوص، فقد يكون هذا النفي وهذه العدائية صادرة من أشخاص هم لا يصلون أصلا، ولربما سيقصدون بدورهم الحانات والملاهي الليلية في رأس السنة ليشبوا ما تيسر لهم أن يشربوا من قارورات “الويسكي” والجعة لكنهم يصرون أن “الكفار” لا يجوز مشاركتهم أو تهنئتهم في أعيادهم وتناسينا أنه لولا هذا الآخر الذي نعادي، واقتياتنا على ما ينتج من مظاهر الحضارة والصناعة لكنا خارج السياق التاريخي، الأمر بسيط لأننا لا نشارك اليوم في صناعة هذه الحضارة التي نأكل منها ونتداوى بعقاقيرها ونلبس من خيراتها. فهل يحق لنا بالمنطق الحضاري والإنسي والأخلاقي أن نلعن هذا المغاير /الغرب من خلال ما يتيحه هو لنا من وسائل وآليات ؟ فالفقيه الذي يمسك آلة المكرفون على قناة تلفزيونية عابرة موجاتها للأقمار الاصطناعية ليكيل السباب والشتائم لهذا الآخر عليه أن يتفكر على الأقل أن هذه الوسائل الحديثة من إنتاج هذا الغرب “المارق” الذي يلعنه..

فما الذي يجعل انبناءاتنا الثقافية والسيوسيولوجية وتمثلاتنا الجمعية حبلي بهذه الكمية من الكراهية والرفض ؟ وما الذي يجعل من المسلمين “يأكلون النعمة ويسبون الملة” كما يقال باللسان الدارج المغربي؟ من أين نستمد هذا الحقد للآخر؟ وهذه التناقضات والبرادوكسات/ والانفصامات السيكولوجية الكاتارسيزمية التي تحتاج إلى أكثر من وقفة وتقريب ؟ هل الحل هو تكريس ثقافة الكره والحذر وربما الخوف من الأغيار أم التفكير في أفق ممكن مشترك في التعايش والمحبة والصداقة من حيث هي/ الصداقة “تقاسم للإنساني” كما يعرفها الفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو ؟ ألا يحق لنا الحلم بأسرة إنسانية تمّحي فيها الكراهية والتشنجات الاثنية والدينية أم أن هذا الصراع هو صراع أبدي سيظل قائما إلى نهاية التاريخ ؟

أكاد أقول أقول إننا كنا من السباقين لتقسيم العالم تقسيما عنصريا على أساس الدين حينما قسمنا العالم إلى دار أمان واسلام ودار كفر وحرب وقد سبق لبعض التنويرين من داخل الثقافة الفقهية في العصور المتقدمة أن نبهوا لهذا الخلل، وأكاد أقول أيضا إن هذه النظرة العدائية للآخر تكاد تعززها وتغذيها الكثير من التصورات الدينية تاريخيا.. والكثير من الفتاوي المظلمة المتشددة، هذه النصوص المظروفة بسياق خاص وكذلك الكثير من الفتاوي التي لها سياقها السوسيوحضاري ومنها فتاوى ابن تيمية على الخصوص الذي يحضر في ذهنيتنا أكثر مما يحضر ابن رشد وعقلانية ابن رشد ؛ ابن تيمية الفقيه العسكري المقاتل الذي أصدر الكثير من فتاويه وهو مرجع نظري عند الكثير من التيارات النكوصية المتطرفة اليوم، إذا كانت تلك الفتاوى مرتبطة بسياق حربي معين فما الداعي إذن لاستصحاب واستدعاء هذه الفتاوي التي تخص سياقا زمانيا ومكانيا لم يعد موجودا ؟ لماذا يفكر المسلمون اليوم بعقول أمواتهم بدل أن يُعمل الأحياء عقولهم ونظرهم في النص بعبارة ابن رشد ، ويجتهدوا لعصرهم بروح تنويرية وبرؤية مقاصدية جديدة مادام الفقه التاريخي لم يعد يفي بالغرض ويجيب عن كل الأسئلة؟

الواقع التاريخي يخبرنا أن المسلمين حينما كتبت لهم “الغلبة” الحضارية بالاصطلاح الخلدوني، كانوا قساة مع الآخر، باستثناء لحظات تاريخية مشرقة قليلة للأسف ، سميناهم أهل ذمة حتى ونحن نتقحّم عليهم دورهم وديارهم، فرضنا عليهم الجزية، وطلبناهم بأن يدفعوها عن يد أي عن قهر وغلبة وهم صاغرون، ابن كثير في شرح الآية 29 المذكورة من سورة التوبة قال أي ذليلون حقيرون مهانون وأضاف : أذلاء صَغَرة أشقياء ، في سياقات كثيرة كنا نحرمهم أن يركبوا الأحصنة التي لم تكن إلا خاصة بالمسلمين، وجردناهم من سيوفهم وخصصنا لهم الحمير ليركبوها .. كنا نميز اليهود بلباسهم ونفرض عليهم أن يحلقوا رؤوسهم ويجزوها، ويلبسوا ألبسة خاصة تمييزا لهم عن البقية، وكنا نمنعهم من ترميم كنائسهم ودور عبادتهم وكنا ولا زلنا ترتعد فرائصنا من نشر ديانتهم كما نحب نحن أن نتغول في أروبا وننشر أفكارنا الدينية ونضيق ذرعا كلما منعونا من بناء مسجد، أو أداء شعيرة من الشعائر في بلد أروبي مسيحي ، نزبد ونرعد ونعتبر ذلك خنقا للحريات الدينية، بينما لا زلنا نخاف من الحركات التبشيرية. إن هذه الازدواجية هي محل نظر وينبغي أن توضع على مشرحة النقد . لماذا نخاف من دين الآخر ما دمنا نعتقد يقينا أن ديننا هو الحق ؟

نورد هنا نصا مع الاعتذار عن طوله لابن كثير في تفسيره وهو يعلق على الآية المذكورة 29 من سورة التوبة يقول : ص873 الطبعة الأولى:

“.. لهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم ، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ ، من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال : كتبت لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حين صالح نصارى من أهل الشام : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا ، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ، ولا قلاية ولا صومعة راهب ، ولا نجدد ما خرب منها ، ولا نحيي منها ما كان خطط المسلمين ، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار ، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ، ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ، ولا نكتم غشا للمسلمين ، ولا نعلم أولادنا القرآن ، ولا نظهر شركا ، ولا ندعو إليه أحدا ؛ ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه ، وأن نوقر المسلمين ، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم ، في قلنسوة ، ولا عمامة ، ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا نتكلم بكلامهم ، ولا نكتني بكناهم ، ولا نركب السروج ، ولا نتقلد السيوف ، ولا نتخذ شيئا من السلاح ، ولا نحمله معنا ، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ، ولا نبيع الخمور ، وأن نجز مقاديم رءوسنا ، وأن نلزم زينا حيثما كنا ، وأن نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ، وأن نرشد المسلمين ، ولا نطلع عليهم في منازلهم . قال : فلما أتيت عمر بالكتاب ، زاد فيه : ولا نضرب أحدا من المسلمين ، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا ، وقبلنا عليه الأمان ، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا ، فلا ذمة لنا ، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق .انتهى نص المعاهدة. وتفسير ابن كثير هو من أمهات التفاسير المعتمدة على كل حال في مرجعيتنا وثقافتنا الاسلامية وهذه الشروط القاسية هي شروط حاطة من كرامة الآدمي ومن إنسانيته كمخالف في الدين، ولا تليق إلا بالدواب والعجماوات. فالمخلافة في الدين لا تعني الاذلال والتحقير والاهانة بأي شكل من الأشكال..

• الآخر في الأدب:
في الكثير من الكتابات الأدبية في التاريخ العربي والإسلامي لم يكن يحضر ذلك الآخر اليهودي على وجه الخصوص إلا كملعون ، كآخر مرفوض وممسوخ ، الآخر يحضر عندنا كخائن للعهود والمواثيق، باستثناء منجزات أدبية قليلة يكاد يكون استثناء في تاريخ سجل الأدب العربي كما فعل الفيلسوف واللغوي أبو حيان التوحيدي الذي نقل الكثير من مناظرات اليهود والنصاري مع مفكرين مسلمين وتفوقهم الجدلي حينما كانوا يواجهون فقهاء الاسلام في قضايا دينية وكان ينقل ذلك بالكثير من الإعجاب والتقدير. كما حاولت الكثير من نصوص الرحلات الاسلامية الاقتراب من الآخر واستكشافه كما فعل ابن جبير وابن بطوطة لكن لم تكن إلا تكريسا نمطيا لتلك الصورة القديمة التي لا ترى في الآخر إلا منحطا أخلاقيا ..

كما يحضر الآخر المغاير في الكثير من الأعمال الروائية الحديثة “كقنديل أم هاشم” ليحيى حقي و”الحي اللاتني” للروائي اللبناني سهيل ادريس وموسم الهجرة نحو الشمال للروائي السوداني الطيب صالح وروايات غسان كنفاني وغيرهما والغير كثير ، الكثير من هذه الأعمال لم تركز إلا على صورة ذلك المغاير المتعالي والمستعمر المهيمن وجانب التفسخ الأخلاقي وعري المرأة الأروبية مهمشة بذلك جوانب كثيرة مضيئة من مظاهر الرقي الحضاري والقانوني والعقلي والإنسي وما وصل اليه هذا الآخر من تنظيم وتخطيط ومأسسة وصون لكرامة الانسان ودعم للكفاءات وبناء للعقل ، باستثناء روايات قليلة كرواية “عودة إلى الأيام الأولى” لإبراهيم الخضير الذي حاول تقريب صورة المجتمع الأمريكي وتقديسه للوقت وقدرته الفائقة على التنظيم سر تفوقه الحضاري ..

• كيف نصرف صورة الآخر في مناهجنا التعليمية ؟:
بالعودة إلى مادة اللغة العربية والاجتماعيات ومادة التربية الاسلامية هذه المواد التي تُعتبر موادّ تصريف القيم بامتياز، سنجد أننا لم نحسم في الصورة التي نتغيا تصريفها وفي النموذج الأخلاقي الذي نريد، فنحن مجتمعات برزخية لا تحسم كما قال السوسيولوجي المغربي الحمودي. هناك نصوص متناقضة بيداغوجيا فلا يمكن أن يعقل أن تجد نصوصا تتحدث عن ثقافة التسامح والتعايش ثم تجد نصوصا أخرى في ذات المقرر تكرس صورة سلبية نمطية فيها الكثير من الالغاء للآخر، لا يمكن أن تربي إلا جيلا ينتصر للرفض واستعداء الآخر وثقافة الكراهية أكثر مما يقترب إليه على الأقل فيما يتصل بأرضية المشترك القيمي الانساني التي تجمعنا بهذا الآخر المخالف، وبالأسرة الإنسانية عامة .. الأمر الذي يستدعي بصورة ملحة إعادة النظر في البرامج التعليمية وفي المادة الدينية على وجه الخصوص التي ندرسها في مدارسنا حتى لا نفرخ قنابل بشرية مفخخة موقوتة، يسهل استقطابها من لدن التيارات الداعشية التي تعادي الحياة وكل مظاهر البهجة والجمال وثقافة الفرح.

كما وجبت الإشارة أيضا – وإن كان هذا يحتاج إلى بحث مستقل – أن هذا الآخر تصرف بوحشية حينما دارت دورة التاريخ لصالحه، ويمكن الإحالة هنا إلى محاكم التفتيش التنصيرية والحروب التي سميت بالاستردادية وظاهرة الاستعمار الحديثة فالافتراس السياسي الغربي معطى ثابتا لا يمكن انكاره بسهولة، ثم إن كبار الانتروبولوجيون لم يتخلصوا من عقدة ومركزية الحضارة الأروبية المتفوقة التي لم تكن تنظر إلى الآخر المغاير إلا كمتوحش متخلف لم يدخل بعد غمار الحضارة والرقي. وقسم الكثير منهم الثقافة البشرية إلى ثقافة متوحشة بربرية متخلفة وثقافة راقية ليتدارك الدرس الانتروبولوجي فيما بعد هذه الهفوة ليقر مبدأ تكافئ الثقافات الإنسانية. ولا زالت هناك الكثير من النصوص في المناهج الفرنسية مثلا رغم ندرة الدراسات التي تناولت هذا الموضوع تكرس نفس النظرة الاقصائية للمسلمين ..

الكثير من الرحلات الغربية لم تنظر للمسلمين أيضا إلا من زاوية الاحتقار كشعوب رثة متسخة، فالكثير من هذه النصوص الرّحْلية التي حاولت اكتشاف هوية الآخر المسلم لم تخرج من قوقعتها الغربية الضيقة إلا أن هذا المعطى لا يمكن تعميمه على كل حال، فالتعميم يظل منهجا غير علمي ..

• الصداقة الإنسانية كأفق ممكن:
لقد آن للأسرة الإنسانية أن تفكر بشكل جماعي وعلى الأصوات والحكماء والضمائر العالمية الكونية العاقلة أن تفكر في غد مشترك ، في غد تنتفي فيه الاصطدامات، وتسود فيه المحبة ولغة الياسمين ولغة الإيخاء والتعارف والتعايش والصداقة كتقاسم للإنساني كما اقتبسنا من أرسطو، بعيدا عن منطق الكراهية والعداء والاستعداء الذي لم تجن من ورائه الأسرة الإنسانية إلا الويلات والدمار والخراب وأنهار الدماء التي تسيل صباح مساء .. آن الأوان أن نفكر فيما يجمع الإنسان وما يتهدده من أخطار محدقة في هذا العالم. على حكماء الانسانية أن يدعو إلى الحوار الحضاري لبلورة رؤى إنسانية تجمع أكثر مما تفرق، وأن نجعل تعددنا الإنساني فوق ظهر أمنا الأرض – كقانون أزلي سيستمر في التاريخ – مثمرا ومنتجا فيما يخدم صالح الإنسان وقضاياه الكليانية الشمولية وفيما يخدم صالح الإنسان كإنسان بعيدا عن الرفض المتبادل بين ( النحن والهُم )الذي عمر طويلا .. على المدارس الحديثة اليوم أن تدرس ثقافة التسامح الديني كمواد مستقلة لتغيير هذه الرؤية المسمومة فيما بين الأنا والآخر ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *