وجهة نظر

الفكرة الوحدوية عند الحركة الوطنية المغاربية.. تحديات اليوم وفرص المستقبل

قد تخبو جذوة مشروع المغرب الكبير أمام تراكم الرماد بفعل عوامل ذاتية وأخرى موضوعية، لكن سرعان ما تعود للاشتعال ويتراءى أفقها الواعد عندما تهب رياح التغيير، أو عندما يتوفر للسياسي أو صاحب القرار الشرط التاريخي لإعادة ترتيب هذا المشروع ضمن اهتمامات الأجندة الوطنية.
لكن على المستوى الشعبي تواصل الفكرة الوحدوية تمثلها في الوعي الجماعي للشعوب المغاربية، و سرعان ما يتم التعبير عنها بمختلف التجليات والتمظهرات، فعندما يفوز منتخب الجزائر بكأس إفريقيا ، يخرج المغاربة للشارع للتعبير عن فرحتهم ويشاركون إخوانهم الجزائريين هذا الفوز، بل تخرج الحشود المغربية والجزائرية قرب الحدود وترفع شعارات تعبر عن الوحدة والأخوة أو يتم إطلاق هاشتاغ خاوة خاوة ماشي عداوة. نفس الشعور والحماس حمله الجمهور الجزائري خلال مشاركة المنتخب المغربي في مونديال روسيا 2018. إلى غير ذلك من الأمثلة والنماذج السلوكية التي تشكل عناصر صالحة لأن تكون موضوع دراسات في السوسيولوجيا المغاربية.
في هذه المداخلة سأحاول التركيز على فكرة وحدة المغرب العربي الكبير في عمل الحركة الوطنية المغاربية باعتبارها حركة ذات مشروعيىة شعبية وتاريخية ، ثم التطورات التي عرفها هذا المشروع في عهد الاستقلال، قبل ان اختم بالتحديات المستقبلية التي تواجه عناصر الوحدة المغاربية.
التمسك بالذات وممانعة الانصهار:
تتعدد مقومات الوحدة المغاربية والتي تمثل منظومة العيش والمصير المشترك، كالتاريخ ، والعناصر الجغرافية، والدين، واللغة، والعادات والتقاليد، والثقافة، والعرق، كل هذه العناصر والخصائص انصهرت في بوثقة واحدة، وشكلت الهوية المغاربية.
تاريخيا، حافظت الشعوب المغاربية على شخصيتها وذاتيتها، أمام موجات استعمارية مختلفة كالاستعمار الروماني والبيزنطي والوندالي، فقد رفض المغاربة كل رابطة تقربهم من الرومانيين، فقد تمسحوا او تهودوا يوم كانت روما كافرة ، ودخلوا الادريانية يوم تمسحت روما وشايعوا دونا الاسقف القرطاجي المغربي في نحلته التي انشق بها عن البابوية الرومانية وكون بها الكنيسة المغربية، ولكنهم رفضوا مشايعة القديس اوغستان الذي اخلص للبابا وقدس روما ، ونفروا من مسيحية روما الشرقية اقل من نفورهم من الخضوع لكنيسة روما الغربية لان البيزنطيين يدينون بتلك كما يدينون الرومان بهاته.( علال الفاسي ، الحركات الاستقلالية ص م)
فالمغرب يقول الزعيم علال الفاسي عرف ببلاد إمازيغ أي الوطن الحر وعرف سكانه أسلاف البربر بالإيمازيغن، ومعناه الرجال الأحرار، لذلك رفضوا الانصهار في الحضارات الوافدة وإن كانوا قد تعايشوا معها لفترات متقطعة، فإنهم تمسكوا بالحرية كعقيدة ومنهج حياة ، ودافعوا عن شخصيتهم من الذوبان والانصهار.
الأمازيغ وموقفهم من الإسلام:
فمع مجيى الإسلام تفاعل الأمازيغ إيجابا مع دعوته التي تنسجم مع النموذج النفسي للإنسان الأمازيغي، وتتماشى مع القيم التي يدافع عنها ومنها قيمة الحرية والعدل والتضامن والإخاء. كما أنهم رأوا فيه أي في الدين الإسلامي أداة للتحرر القومي والاستقلال الوطني.
وهذا ما ذهب إليه العلامة عبد الحميد بن باديس عندما يقول : ” ما من منكر أن الأمة الجزائرية كانت أمازيغية –بربرية من قديم عهدها وأن أمة من الأمم التي اتصلت بها استطاعت أن تقلبها عن كيانها ، فلقد تعلم الأمازيغ لغة الإسلام وامتزجوا بالعرب بالمصاهرة ونافسوهم في مجالس العلم وتقاسموا معهم سياسة الحكم ، فقام بذلك صرح الحضارة الإسلامية “.
يروي بعض المؤرخين انه إذا كان البربر قد استعربوا بسهولة فذلك على ما يظهر لانهم لم ينسوا الفينيقية، لان العربية ذات رحم مع الفنيقية ولذلك امكن بسهولة ان تحل محلها.
ومما ساعد في سهولة انتشار الإسلام هو إدماج العنصر الأمازيغي ضمن مربع الحكم في هذه الدول ،والانخراط بلا هوادة في نشر الإسلام الى ما وراء البحار.
يشكل الدين الإسلامي عاملا أساسيا في وحدة الشعوب المغاربية، ورابطة قوية لوجدانهم وروحهم، فبالرغم من اختلاف بعض التجارب التاريخية المغاربية عن بعضها البعض إلا أن الثابت ان العقيدة الإسلامية شكلت اللحمة الجامعة لعناصر الأمة المغاربية، مع التسامح والتعايش الملحوظ مع معتنقي الديانة اليهودية.
لقد سمحت عدة عناصر التي انصهرت فيما بينها عبر تاريخنا الحضاري الطويل أن تشكل الذات المغاربية أو الهوية المغاربية باعتبارها كيانا متعدد الأبعاد ومتوحد حول بعض الثوابت. ويمكن القول أن القومية المغاربية موجودة منذ القدم وقبل مجيئ الإسلام ، فالوطنية بمعنى الدفاع عن النفس والذب عن الكيان والميل للحرية الفردية والاجتماعية صفة من أظهر الصفات التي امتاز بها المغاربة في جميع مراحل حياتهم وتجاربهم التاريخية. .( علال الفاسي ، الحركات الاستقلالية ،ص و)
وتتشكل الهوية المغاربية من انصهار وتلاحم عدة عناصر من قبيل الانتماء للأرض و للوطن و الدين الإسلامي كعامل موحد وجامع و وجود ذاكرة تاريخية جماعية مشتركة ، وتراث مميز وتعدد ثقافي تتعايش داخله جميع الأنماط الثقافية والأعراف و العادات والتقاليد ، وقيم ثابتة متوافق عليها بين المواطنين المكونين للشعب الواحد ، وحقوق وواجبات متبادلة بين الأفراد وداخل نفس الجماعة سواء وجدت مرجعيتها في الدين الإسلامي أو في الأعراف، هذا إلى جانب وجود اللغة العربية والأمازيغية كلغتين مشتركتين بين أفراد المجتمع، تتكامل وظائفهما في إطار وحدة الهوية ووحدة الوطن.
الدولة الموحدية نموذج للوحدة المغاربية:
وإذا أردنا التأصيل للوحدة المغاربية، فإننا سنجد في تجربة حكم دولة الموحدين 1121 إلى 1169 والتي أسسها المهدي ابن تومرت وهو من أصول مغربية أمازيغية وامتدت من المحيط إلى مصر وإلى الأندلس، مثالا دالا على تمازج وانصهار عدة عناصر محلية لتشكل وحدة السكان والجغرافيا والثقافة والدين، واللغة العربية، ووحدة المصير. وما يجسد أكثر هذه الوحدة هو أن المهدي ابن تومرت أوصى بالحكم من بعده إلى عبد المومن بن علي الكومي وهو من أصول جزائرية، لما رأى فيه من ذكاء وخصال ومن حمية للدفاع عن مصالح الدولة الموحدية.
ربما هذا المثال يسعفنا كثيرا في فهم النموذج النفسي والاجتماعي للشعوب المغاربية، التي تتميز بإنسيتها الخاصة، التي صقلتها عبر تفاعل الشرط التاريخي بالعناصر المكونة لهويته وشخصيته وذاتيته.
بعض تمظهرات العمل الوحدوي عند الحركة الوطنية:
لا بد من استحضار كذلك تجربة الحركة الوطنية المغاربية التي تميزت بالعمل الوحدوي المشترك، الذي شكل عقيدة ثابتة لدى زعماء التحرير والاستقلال في المغرب الكبير، وعمدوا الى تنسيق استراتيجية مقاومة الاستعمار الفرنسي والاسباني، ووحدوا مواقفهم وخطط عملهم
وسنقف عند بعض تمظهرات وتجليات الوحدة في عمل الحركة الوطنية من خلال بعض الأمثلة:
أولا : تأسيس جمعية نجم شمال افريقيا بفرنسا برئاسة مصالي الحاج رفقة نخبة من المواطنين المغاربة والجزائريين ، والتي كانت تروم تقديم الإغاثة والعون للمغاربة قبل ان تتحول في مارس 1926 إلى جمعية سياسية تعمل للدفاع عن كيان المغرب العربي وتطالب بحقوقه واسست لها جريدة باللغة الفرنسية تحمل اسم ” الامة ” la Nation وكذا العمل التنسيقي الذي كان بين هذه الجمعية وكتلة العمل الوطني بالمغرب سنة 1933. ( علال الفاسي مرجع سابق ص 14)
ثانيا : تأسيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر برئاسة العلامة عبد الحميد بن بادس. هدفها تطهير العقيدة الإسلامية في الجزائر من الخرافات واحياء اللغة العربية وتقوية الشعور بالشخصية العربية في الجزائر .
ثالثا : تنظيم مؤتمر المغرب العربي بالقاهرة ما بين 15 و 22 فبراير 1947 بعد التنسيق الذي حصل بين حزب الاستقلال وحزب الإصلاح من المغرب وبين حزب الشعب من الجزائر وحزب الدستور التونسي طبعا بدعم من مصر ،بهدف دراسة قضايا المغرب العربي وبحث آليات تكثيف التنسيق الاعمال والجهود وتوحيد مكاتبها في الخارج وإظهار التضامن المغربي بالمظهر اللائق به لخدمة القضية التحريرية وتبيين أهدافها. وكان من مخرجات المؤتمر اعلان بطلان الحماية المفروضة على تونس والمغرب وعدم الاعتراف بأي حق لفرنسا في الجزائر والمطالبة بإعلان الاستقلال وجلاء القوات الأجنبية عن البلاد.
تأسيس مكتب المغرب العربي
بعد المؤتمر قام ممثلو أحزاب الاستقلال والشعب والدستور بفتح دار لتوحيد مكاتبهم بالقاهرة طبقا لتوصية المؤتمر أطلقوا عليه اسم مكتب المغرب العربي وكان يضم 3 اقسام القسم المراكشي ويتعاون فيه حزب الاستقلال وحزب الإصلاح القسم التونسي ويشرف عليه حزب الدستور الجديد وقسم الجزائر تحت اشراف حزب الشعب
محمد بن عبد الكريم الخطابي يترأس لجنة تحرير المغرب العربي
وهي احد الإطارات للعمل الوحدوي للحركة الوطنية المغاربية التي أوصى بها مؤتمر المغرب العربي بالقاهرة، على ان تضم رجالات الحركة الوطنية مهمتها توحيد الخطط وتنسيق العمل للكفاح المشترك. يقول علال الفاسي في كتابه الحركات الاستقلالية في المغرب العربي ص 407 ، في هذا الاطار، ” فلما نزل البطل الريفي محمد بن عبد الكريم بالقاهرة اتجهت انظارنا جميعا لتحقيق هذه التوصية بكيفية أوسع تحت رئاسة زعيم المغرب العربي ومجاهده الأول.
وفي 9 دسمبر 1947 تكونت اللجنة برئاسة دائمة لمحمد بن عبد الكريم الخطابي ووكيل الرئيس امحمد بن عبد الكريم الخطابي والحبيب بورقيبة امينا عاما ومحمد ابن عبود امين الصندوق عن حزب الإصلاح. وفي 10 مايو من سنة 1948 تم تجديد هياكل اللجنة بتولي علال الفاسي الأمانة العامة عوض الحبيب بورقيبة، و الحبيب ثامر أمين الصندوق عوض بنعبود .
ووضعت اللجنة ميثاقا لها من مبادئه :
المغرب العربي بالإسلام كان، وللإسلام عاش، وعلى الإسلام سيسير في حياته المستقبلية،
المغرب جزء لا يتجزأ من بلاد العروبة وتعاونه في دائرة الجامعة العربية على قدم المساواة مع بقية الأقطار العربية أمر طبيعي ولازم ،
الاستقلال المأمول للمغرب العربي هو الاستقلال التام لكافة أقطاره الثلاث ( تونس والجزائر والمغرب).
على المستوى العسكري، لجأت الحركة الوطنية إلى تنسيق عملها العسكري، حيث أعلنت حركة المقاومة المغربية وجبهة التحرير الوطنية الجزائرية ففي 3 أكتوبر 1955 عن تكوين قيادة موحدة للحركتين تتولى الاشراف على حركة التحرير القائمة في كلا القطرين والتي سينضوي جميع افرادها في جيش يسمى جيش تجرير المغرب العربي.( علال الفاسي، نداء القاهرة ص 113)
مؤتمر المغرب العربي بطنجة 1958
بعد الاستقلال تم عقد مؤتمر المغرب العربي بطنجة ما بين 27 إلى 30 أبريل 1958 والذي شارك فيه عن حزب الدستور الجديد بتونس باهي الأدغم، وأحمد تليلي وعبد الحميد شاكر، وعن جبهة التحرير الجزائرية فرحات عباس، عبد الحفيظ بوصوف، وعبد الحميد مهري، وعن حزب الاستقلال علال الفاسي وأحمد بلافريج وعبد الرحيم بوعبيد والمهدي بنبركة، حيث انعقد هذا المؤتمر التاريخي تحت رئاسة الزعيم علال الفاسي، وهو المؤتمر الذي لم يكن مؤتمرا للدول بقدر ما كان مؤتمرا للشعوب تحت قيادة الحركة الوطنية المغاربية.
ومن مخرجاته العمل على تحقيق تطلعات الشعوب المغاربية في الوحدة وإقامة اتحاد مغاربي واندماج اقتصادي وسياسي وتثمين الرصيد المشترك، كما أكد على مواصلة دعم حق الشعب الجزائري في تحقيق استقلال، داعيا الحكومات والأحزاب السياسية المغاربية، إلى تقديم الدعم الكامل للثورة الجزائرية وحق الجزائر في الاستقلال والتحرر .
استنتاجات وخلاصات :
إذا كان هذا التذكير التاريخي ضروريا، فلأجل استنتاج عدة خلاصات :
أولا : فكرة وحدة المغرب الكبير كانت ضمن أولويات أجندة الحركة الوطنية المغاربية، نظرا للاعتقاد الراسخ لدى قادتها بالعناصر القوية المكونة للإنسية المغاربية المتوحدة في اللغة والدين والتاريخ والمشترك والجغرافيا والثقافة ، والمصير الواحد .
ثانيا : الانصهار التام للمكون الأمازيغي مع المكون العربي، وإبراز ممانعة كبيرة عبرت عنها الشخصية والذات المغاربية في مواجهة سياسة التفرقة والتمييز بينهما التي نهجها الاستعمار الفرنسي، ولا أدل على ذلك التصدي لمحاولة إصدار الظهير البربري في المغرب في 30 مايو 1930 للتفريق العرب والأمازيغ عبر إنشاء المحاكم العرفية في المناطق الأمازيغية إلى جانب المحاكم الشرعية ، وبين التعليم الفرنسي البريري والتعليم العربي وفصل الأول عن الثاني، حيث تمت قراءة اللطيف في مساجد المغرب” اللهم انا نسألك اللطف فيما جرت به المقادير ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر”، بالإضافة إلى نهج سياسة التجنيس في الجزائر التي أرادت بها السلطات الاستعمارية محو الهوية العربية للشعب الجزائري.
ثالثا : التصدي لمحاولات استهداف الدين الإسلامي كعامل موحد للأمة المغاربية وإضعاف الرابط الديني كمكون أساسي لوحدة الشعوب، وذلك عبر تشجيع الاستعمار للطرقية والتحكم في الزوايا واستمالتها، ومحاولة صناعة قادة دينيين مواليين للسلطات الاستعمارية الفرنسية، إلا أن بروز السلفية الإصلاحية في المغرب العربي متأثرة بسلفية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وعبد الرحمان الكواكبي، حالت دون استكمال المشروع الاستعماري، وقد بدأت هذه السلفية الإصلاحية التي كان يمثلها علال الفاسي وعبد الحميد ابن باديس والتعالبي ومالك بن نبي وآخرون بمحاربة الطرقية والخرافات والانحراف الديني وانتهت ببناء أطروحة الدولة الوطنية والفكر الوطني في مواجهة الاستعمار ضمن منظور وحدوي متكامل لعبت فيها الهوية الدينية دورا أساسيا في الدفاع عن الذات والوطن.
رابعا: تميزت القومية المغاربية بالتركيز على العناصر الموحدة الجامعة للأمة، ولم يكن هناك أي اعتبار للحساسية العرقية في العمل الوطني، لذلك فالأمير محمد عبد الكريم الخطابي استقبل كبطل قومي بمصر، وأسندت له رئاسة لجنة تحرير المغرب العربي بشكل دائم، ودافع عن الإسلام والعروبة، وهو ما يبين بوضوح الدور الأساسي الذي لعبه العنصر الأمازيغي للعمل القومي العربي والإسلامي إلى جانب العنصر العربي الأمازيغي الصحراوي وباقي مكونات عناصر الأمة، بتنوعها وتعدد رافد هويتها.
أسباب تعثر المشروع المغاربي:
سرعان ما سيتم تأجيله لعدة أسباب منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي.
السبب الذاتي : بعد تحقيق الاستقلال والحرية وجلاء الاستعمار الفرنسي والاسباني، انشغلت الدول المغاربية بمشروع بناء الدولة الوطنية، والنهوض بأسس الاقتصاد الوطني، ومغربة الإدارة والقضاء، وتأميم المنشآت والشركات الكبرى، وإطلاق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاهتمام ببناء نموذج الحكم ، وإقامة دولة المؤسسات.
وبالتالي تم إعطاء الأولوية لبناء مشروع الدولة الوطنية على مشروع الوحدة المغاربية، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لدول خرجت منهكة من تجربة مريرة للاستعمار البغيض، يلزمها معه تأهيل البلاد على جميع المستويات.
السبب الموضوعي : ويتجلى في الاختيارات الكبرى لدول المغرب الكبير في ظل ظرفية عالمية ستتسم بالصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، بين الإيديولوجية الاشتراكية والأيديولوجية الرأسمالية. لقد اختارت بعض هذه الدول التموقع في المعسكر الاشتراكي بينما اختارت أخرى الانضمام إلى المعسكر الرأسمالي، ووجدت نفسها على طرفي نقيض من الناحية الإيديولوجية والاختيارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهو ما كان له انعكاس على مستوى مشروع الوحدة والاندماج الاقتصادي.
السبب الموضوعي الآخر : هو الصراع الذي نشأ منذ بداية الستينيات من القرن الماضي بين المغرب والجزائر بسبب مشكل الحدود الذي تركه الاستعمار، بداء بحرب الرمال سنة 1963، وبعدها حرب أمغالا في السبعينيات بعد استرجاع المغرب لصحراءه المغتصبة من طرف الإستعمار الإسباني بمقتضى اتفاقية مدريد وواقع المسيرة الخضراء. هذه الحقوق الشرعية للمغرب في أراضيه الموحدة عاكستها بقوة الجزائر التي شجعت الطرح الانفصالي الذي تقوده جبهة البوليساريو والذي مازال مستمرا إلى اليوم مع كامل الأسف.
مبادرات ولكن..
لكن بالرغم من ذلك، تم عقد مؤتمر اتحاد المغرب العربي بمراكش سنة سنة 1989 بمراكش، بحضور قادة الدول المغاربية الخمس، الذي اعتبر حدثا تاريخيا في المنطقة المغاربية وعقدت عليه عدة آمال كتكتل إقليمي قادر على إحداث نوع من التوازن بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وأن يلعب دورا محوريا في النظام الإقليمي العربي.
وعلى صعيد آخر، استمر تنظيم تخليد ذكرى مؤتمر طنجة (في سنة 1983 بطنجة، و 1984 في تونس حيث استضافها حزب الدستور، وفي 1986 بالجزائر من استضافة جبهة التحرير الوطني ، ثم في سنة 2003 بطنجة بدعوة من حزب الاستقلال و التي تمت تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس.
وعلى مستوى التكامل والاندماج الاقتصادي تم الاشتغال على عدة مشاريع منها مشروع القطار المغاربي: البيضاء – تونس، ومشروع التكامل الكهربائي المغاربي، ومشروع البنك المغاربي للإدماج الصناعي، ومشروع الشركة المغاربية للطيران.
كما تم اطلاق عدة منتديات ومبادرات مغاربية أخرى على المستوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، والفني، لا زالت تعاند مرارة التشتت، وتتشبث بحلم الوحدة.
ومن المفارقات أن تنظيم مؤتمر طنجة لسنة 1958 تزامن مع حدث إبرام ست دول أوروبية (اتفاقية الفحم والصلب ،بروما) وشكلت اللبنة الأولى للعمل الأوروبي المشترك والذي تواصل إلى أن تحقق حلم الاتحاد الأوروبي وتم تجاوز جراح الحروب الاوريبة والعالمية، وتناسي الأحقاد وصراعات الحدود وتم توحد العملة، وتنسيق مختلف المواقف السياسة والاقتصادية والأمنية والبيئية. وبقي الحلم المغاربي مؤجلا.
ولعل هذه المفارقة تدعونا لإعادة صياغة وطرح سؤال الذات والمآل والبحث عن أمل في المستقبل عل جراحنا تندمل وتزول التفرقة وتسقط الحواجز والحدود ويتحرر الإنسان المغاربي من مكر السياسة وسطوة الواقع، ومن منطق افتعال الأزمات وإذكاء الفتن والصراعات التي تؤجل الحلم المغاربي في الوحدة والتكتل.
تحديات الفكرة الوحدوية:
أمامنا عدة فرص وعدة تحديات :
وسأبدأ بالتحديات التي تواجه مشروع الوحدة المغاربية
التحدي الأول: تصاعد دور بعض التيارات التي تتعصب للنزعات العرقية ومحاولة جر المجتمع إلى منطق التصادم، وإذكاء الصراع بين اللغة العربية واللغة الأمازيغية، وإظهار اللغة العربية والعرب كوافدين محتلين للأرض الأمازيغية وهذه التيارات تدعو إلى الانكماش وإلى التركيز على الهويات الحصرية، وإلى تقوية الانتماء إلى العصبية أو القبيلة. وهذا من شأنه أن يهدد العيش المشترك، ويضعف روح الانتماء للوطن.
وفي هذا الإطار، ينبهنا المفكر المغربي عبد الله العروي في الدرس الافتتاحي الذي قدمه في بداية هذا الشهر بكلية الأداب بالرباط بمناسبة اطلاق كرسي باسمه بالجامعة، أن الدولة الوطنية تتفكك اليوم، وتسلب منها كل سيادة، وتابع العروي أن الانتماء اليوم هو للعرق والمذهب والقبيلة وليس للدولة.
ومن هنا ينبغي التفكير في إعادة تجديد الوطنية في الدول المغاربية بكل أبعادها وروافدها السياسية والفكرية والثقافية، لمواجهة كل أشكال التفرقة والميز بسبب العرق أو الجنس على غرار الوطنية الأولى التي رفضت كل المشاريع الاستعمارية الرامية إلى التفريق بين العرب والأمازيغ، وإطلاق مشاريع إصلاحية جديدة، وبعث الروح في القيم وتعبئة الهوية الوطنية بمختلف روافدها من أجل الالتفاف على وطن واحد ومصير واحد، والانتباه إلى مشاريع التقسيم التي يشتغل عليها الغرب من أجل تمزيق الوطن العربي وخلق دويلات جديدة ، ومواجهة المد الشيعي الذي بدأ يستوطن في الدول المغاربية بدعم من إيران.
التحدي الثاني : وهو المتعلق بتنامي الخطاب الشعبوي الذي يرتكز على التمييز الأخلاقي عبر مجموعة من الثنائيات: شعب نقي ونبيل مقابل نخب منحطة وفاسدة ، العمل مقابل الفساد، وهناك أيضاً ثنائية ابن الأرض والوافد. وقد تستدعي الحاجة أحياناً لاستعمال ثنائيات عرقية، ولذلك فليس مستغرباً أن يتلون الخطاب الشعبوي بالشوفينية العرقية والعنصرية ويجد هذا النوع من الخطاب سهولة كبير في التأثير واستمالة الناس ودغدغة عواطفهم.
وتتيح تطبيقات منصات التواصل الاجتماعي وخوارزماتها les algorithmes de facebook إمكانية إنشاء تكتلات بشرية افتراضية بناء على خاصيات كثيرة منها مكان الولادة واللغة، والرغبات، والاهتمامات السياسية والانتماءات العرقية الخ. وتصبح هذه المنصات فضاء مفتوحا وفعالا لتكوين هويات حصرية وضيقة، فعندما يتم إنشاء صفحة مثلا أمازيغن دوريجين، أو صفحة 100 في المائة أمازيغن، أو صفحة كلنا أمازيغ على الفايسبوك يعلن أصحابها منذ البداية أن هدفها هو تجميع أمازغيي العالم، لكن بعضهم يعبر عن مطالب سياسية، ويدعو للاستقلال، وهناك من يغدي الصدامية والمواجهة مع العرب واعتبارهم غزاة، إلى غير ذلك من الدعوات التي تغدي الانقسامية داخل المجتمع، وتؤسس لرؤية جديدة لمفهوم الدولة.
الفرص الممكنة :
أما بالنسبة للفرص المتاحة لتحقيق الحلم المغاربي فيمكن أن أجملها في ما يلي :
أولا : موجة الربيع العربي التي تعرفها الدول المغاربية والتي تعبر بوضوح عن التطلع لإقرار الديمقراطية والحريات العامة، وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق كرامة المواطن.
إن تحقيق الديمقراطية والحرية، سيمكن بدون شك من التخلص من منطق ارتهان الشعوب المغاربية لإرادة النخب الحاكمة، و ستتحرر من معاول الأدلجة ومن الأطروحات المزيفة التي تعاكس الاختيار الوحدوي وتنتصر للتشتيت والتقسيم.
ونعتقد أن الاختيار الديمقراطي مدخل أساسي لرفع جميع القيود والعراقيل التي تحول دون تحقيق الشعوب المغاربية لطموحاتها في الوحدة والتكامل والتضامن.
ثانيا : ضرورة توظيف الإمكانات الهائلة التي توفرها تكنولوجيا الإعلام والاتصال من منصات للتواصل الاجتماعي والتطبيقات الإلكترونية، لتعزيز التلاحم بين الشعوب، وتقوية أواصر التواصل وإطلاق منصات للحوار، وتبادل وجهات النظر وتقاسم التجارب ، واطلاق صفحات للتعبير عن الإخاء والتضامن المغاربي، إلى غير ذلك من الإمكانات التي ينبغي استغلالها من أجل إبقاء الفكرة الوحدوية متقدة.
*مداخلة قدمت يوم 19 يناير 2020 في المنتدى الحادي عشر المنظم من طرف مركز “مدى” بالجديدة حول “تمثلات الهوية المغاربية في سياق عملية التحول الديمقراطي”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *