وجهة نظر

من برلين إلى فلسطين.. ومن نظرية دروين في الانتخاب والقوة إلى ظهور “الفوهرر” العظيم

مــن الـمـمكن، ولأسبــاب مـخـتـلـفــة، قـلـيـلــة أو كـثـيــرة، أن يـشـعــر الـمـرء بـغـثــة، بــانــسـيــاقــه وراء مـشـاهــدة الأفــلام الـوثـائـقـيــة عــن الحــيـوانـات الـبــريــة. ربـمـا، أن هــذا قــد لا يـكون عــادة أو طفــرة خــاصــة، بــل قـد يـكـون الأمــر سـيـان، لــدى جـمـيـع البـشـر، الـمتـحـكـم بــزمــام العقــل، الــذي يـهــوى مطـالـعــة كـل مــا هـو عـجـيــب، فــي فـعـلــه، وفــي صـنـعـتــه التــي صـنـعـهـا الله، فــأحسـن صـنـعــه.

وقــد يـكون الأمــر عــادي عـنــد الجـمـيــع، وقــد لا يـكـون عـنــد الـبــعــض. فـأن تـتـم مشـاهــدة مشـاهـد عـن الـفـتـك والإفتــراس، والقـوي يـأكـل الضعـيـف، ولا مكانــة للـضـعـيـف أمـام أي قــوة أخـرى، فــذاك أمــر عــادي جــدا. ولكن، أن يـتـم اسـتـكـشـاف دقــائق هــذا، ســواء تعلـق الأمــر بـالأسـبــاب أو مــا يـتــرتــب عـنـهــا فــي مــا بعــد، فــذاك أمــر يـتـطـلــب تتـبـع دقـيـق جــدا ، قــد يـأخــذ صاحـبـه بـعـيــدا، إلـى الحــد الــذي يـمـكـن مـعـه إيجــاد مشــاهــد مشــابـهــة عـنــد بـنــي الـبـشــر.

ليـس دائـمـا، مــا يـكون الإفـتــراس، وراءه إشبـاع نـهـم الجــوع. بــل إن وراءه أمــور أخـرى، قـد تـكـون هــي الـغـالـبــة دائـمــا. فــأول شــيء، يقــوم بـــه الـمنـتـصــر، بـعـد انـتـصاره، لـيــس الـفـتــك بـالـمنــهــزم والقضــاء عليــه فحـسـب، وإنـمـا القضــاء علـــى كــل أثــر لـــه، وهــو-الـمنـتـصــر- مــدفــوع بـالغـريــزة الطـبــيـعـيـة، لا تــرف لـه عـيــن، وتنـعــدم فـيــه أي شفقــة، فـيــقـضــي حتــى علــى أشبــال الـمنـهـزم، التــي هــي فــي نظــر العقــل، الــذي يخضعــه لــه الـبـشــر، بــريئــة من أي ذنــب. لكن فــي نظــر قـوى الطبـيـعــة، والغـريــزة الحـيـوانيــة، فهـي مـذنـبــة، ويـتـوجـب القضــاء عـلـيـهــا، لتـوفـرهـا علــى جـيـنــات ضعــف، انـتــقـلـت إليـهــا من والــدهــا الضـعـيـف، الـمــنـهـزم حتــى تـفـسـح المجـال لمجــيء من هــو أقــوى منـهـا، كـمـا هـو الأمــر دائـمـا وأبــدا.

الأمــر مـمـاثــل عنــد الإنـســان. قــديـمــه وحديـثــه. كيــف لا، وهــو إبــن الطـبـيـعــة، وكــان فــي فتــرات زمنيــة سحـيـقــة، أقــرب إلــى الحيــوان فــي طـبـعـه وطـبــاعــه. وحـتـى فــي زمـن العقــل الخــارق، والإنســانيــة فــي أبـهـى رُقـيّـها، لا زال هــذا الـطـبــع غــالــب عـلـيـــه. يتضــح ذلــك فــي حـروبــه، وفــي اقـتـتـال بـعـضــه بـعــض.

ليـس هنــاك من مثـال أجـلّ، وأوضـح مثـل مــا حــدث خــلال الحــروب الـكونـيــة. الأولــى والـثـانـيــة. الــدول التــي انـتـصــرت فــي الأولــى، بسطـت كــل قـوتـهـا، وهيـمنـتـها عـلــى الـمنـهـزمــة. وبـعــد أن بـرزت أحــد الـنـوى الـقـويــة، التــي نـبـتــت وسـط رمـاد الحــرب والهـزيـمـة، تـشـكـل (الـفـوهـرر) الأعـظــم، وحــاول لأسبـاب عـديـدة أغـلـبــها (الحـجـر) الــذي ضُــرب عــلــى بلــد الــرايخ، أن يـنـتـفـض، ويـكون أقـوى مــن كـل الظــروف الـمـهـيـنـة؛ وكــاد أن يـبـسـط سـيـطـرتـه عـلــى الـعـالــم أجـمـع، استـنــادا إلــى نـظـريــة الإنـتـخـاب والـقـوة، الـتــي قــالـهـا بـهـا دارويــن. عـنـدئــذ، اشـتـعـلـت الحــرب الـكونـيــة الـثـانـيــة بـشـكـل أكـبــر، والــتـي أنتـجـت قـوى عــالـمـيـة، أمـسـكـت قـبـضـتـهـا علـــى الـبـشـريــة جـمـعــاء، وجـعـلـتـهــا ضـعـيـفــة، تحـكـمـهـا عــلاقــات، تـكـاد تـكـون عـلاقـة سـيّـد بـعـبـد، ومنـتـصــر بـمـنـهـزم.

مــا يحــدث الآن فــي فلسطـيــن، وفــي سوريـا، وفــي العـراق، وفــي اليـمـن، وفــي لـيبـيـا، وفــي جـمـيـع بــؤر التـوتـر الـعـالـمـيـة، مــا هو إلــى غيـض مــن فيـض هـذه القـاعـدة العـامــة. فقــد حــدث هــذا مــن قبـل، فــي الـيـابــان، حينـمـا سـقـطـت عـليـها مــن السـمـاء، قـنــابــل نــوويـــة دون رحـمـة أو شفقـة، فـقـضـــت عـلــى جـميـع نـوى القــوة الـمفتــرض وجـودهــا فـيـهـا، مثلـمـا يـفـتـك الأسد الـمـتـوحــش، بــأشبـال الأســد الـمنـهــزم، حـتــى يطمئــن لـعــدم بـقـاء مـن يـنــافـسـه أو يـهـدد حـيــاتــه. والأمـر نـفـسـه حـدث في ألـمـانـيـا، وفــي غيــرهـا مــن الــدول الـعـديـدة..

ولأن هــذه الـقـاعــدة مستـمــرة فــي الــزمـان، وكـامـنــة فــي خـلايــا الـبـشــر، فــلا غـرابــة إن انـقـلـب يــومـا مـا، السحــر عـلــى السـاحر، وخـرجــت مــن الـــضـعـف قــوة، ومــن القــوة ظــهــر الضـعـف؛ فـيـصـيـر القــوي ضعـيـفــا، والضعيــف يصـبـح قــويــا.

هـنـا، فــي هــذا الـمـقـام، وإزاء مــا يحــدث من أمــور يـنــدى لـهــا الجـبـيــن، ليـس فــي فـلـسـطـيـن وحــدهـا مـن تـقـسـيــم الأرض والعبــث بـمقـدسـات إنـســانـيــة، بــل فــي جــل الـدول العـربـيــة، قــد يحـدث أن يـتـذكــر الـمـرء بـعـض الأحــداث الـمـشـابـهـة جــدا، تـفـتـقـت عنـهـا عـبـقـريــة الأديــب الـعـالـمـي، كــارسـيـا مـاركـيــز، فــي مــائــة عــام مـن الـعـزلـة.

فقـد كانــت إحــدى القــرى، تـفـتـقـر لـلأمـن والآمـان، بـسـبــب ضـعــف وهـوان محــاربـيـهـا. الأمـر الــذي جعـل حـكـمـائـهـا، وأكــابـرهـا، يـقـدمـون علــى خطـوة مفــاجئـة. إذ التـمسـوا اسـتـقــدام محـــارب عـظـيـم، لـيـنـثــر جـيـنـاتــه القـويــة بـيـن أهـالــيـهــم؛ وهـكــذا، سـيـصـبـح لـديـهـم محـاربـيـن عظـمـاء، فـتـتـوفــر لـهـم الحـمـايـة، ويـسـود قـريـتـهـم الأمــن، ويحــافـظــون عــلــى بـقــاءهـا قــائـمــة مــدة أطــول.

الأمــر، ليـس بـالـسـهـولــة الـتـي تُتـصــور. فـإذا كــان مـا جـاد بــه خيــال كـارسيـا مـاركـيــز مــن أفـكـار، قـد لا يـتـطـلـب سـوى جـيــل واحــد، حـتــى يـكون هنــاك محـاربيـن عظـمـاء، وتـكون هـنـاك قــوة مـطـلـقـة، فــإنـه عــلــى أرض الــواقــع، قــد يحتــاج الأمــر إلــى أمــد طــويــل جــدا.

وقـبــل هــذا وذاك، فـالـزمــان أو بـالأحــرى الـطبـيعــة، كـفـيـلــة بـذلــك. ومــا يـلـزم الآن، هـو نـهضــة للــذات ومــع الـذات. وقـد يـكـون هــذا، نقطــة الاهتــداء إلــى بـدايــة الطــريــق الـظــالــة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *